سكنت في كوخ جبلي منعزل في أطراف قرية جبلية في مقاطعة "الفاليه" السويسرية. قررت هجر مدينة "جنيف" واعتزال العالم بعد خيبتي العائلية وقراري بالافتراق عن زوجتي. بعد أن تفاقمت في السنوات الأخيرة الحساسيات والمشاكل، اتفقنا على نوع من الإجازة بيننا لكي نمنح أنفسنا فرصة للتفكير ثم القرار بالعودة إلى الحياة المشتركة أو طلب الطلاق. كانت تزورني بين حين وآخر كي تجلب لي ابنتي الصغيرة "سامية" في سن السابعة.
أثناء تجوالي اليومي في الغابة تعرفت على أحد الرهبان الذي كان تقريبا بنفس عمري، أي في الأربعينيات. كان يشبهني في طول القامة بل وفي الملامح، إلا أنه كان يميل إلى الشقرة وأنا أميل إلى السمرة. قال إنه يقطن في دير في المنطقة. لم نكن نتطرق إلى حياتنا الشخصية بل بقيت حواراتنا محصورة بالأمور الفلسفية والروحية والفنية. وأكثر ما شدني إليه سرده الجميل لقصص الكتاب المقدس. كان مولعا بالقصص وبخاصة قصة طرد آدم وحواء من الجنة، وقصة خروج السيد المسيح إلى البرية ليواجه تحديات الشيطان.
المعلومة الشخصية الوحيدة التي تبادلناها، أن اسمه (جان) وأنا اسمي (نبيل)، وكان مثلي رساما قرر هجر الرسم مع هجره لحياته السابقة. من الطبيعي انه مؤمن بالمسيحية وما يتعلق بها من روحانية وفلسفة، أما أنا فكنت متمسكا برؤيتي العلمية الإلحادية، رافضا لكل ما هو ديني وروحاني. لكن هذا التناقض العقائدي لم يمنع من دوام حواراتنا، بل على العكس، أضفى عليها حماسة ممتعة. فكنا دائما نودع بعضنا مازحين:
ـ ليكن الرب معك يا نبيل
فأجيبه أنا ضاحكا:
ـ لتكن الطبيعة معك يا جان
* * *
مع مرور الأسابيع، كان من الطبيعي أن يتعرف (جان) على زوجتي "إيفا" وابنتنا "سامية" أثناء زيارتهما لي. كان يشاركنا الشاي والحوارات حيث كانت زوجتي لا تقل عنا حماسة وبراعة فيها. فهي مغنية أوبرا ومثقفة إيطالية من الدرجة الأولى وملحدة مثلي. وعندما سأَلَتْه عن مكان الدير، وهل يمكن زيارته، قال لها: إنه هنالك في أعالي الجبال وراء الغابات، والنساء محرم دخولهن.
لا أدري لماذا تخيلت حينها أني سأعيش ذات يوم في هذا الدير!
كانت زوجتي تتعمد أن تجلب لي معها الصحف العربية والفرنسية، على أمل التخفيف من قطيعتي العالم وربطي به. كما كانت تتعمد أن تفتح حاسوبها وتجعلني أشاهد معها مسرحيات وأفلاما. وكان الراهب (جان) في المرات الأولى يرفض مشاركتنا، لكن مع مرور الوقت لاحظت أنه بدأ يطالع الصحف التي تتركها زوجتي على الطاولة. بل راح يشاركنا أيضا مشاهدة الأفلام والمسرحيات. وفي يوم مشمس كنا جالسين جميعا في الباحة أمام الكوخ، نحتسي الشاي، وإذا بي أشاهد ثعبانا مرقطا بحجم الذراع مستلقيا على بعد أمتار بين العشب المبلل يثب برأسه ويرمقنا مثل حيوان أليف. فزعت كعادتي لأني أشد ما أرتعب وأتقزز من مجرد ذكر اسم الثعبان. قفزت وتناولت حجرا لأقتله، وإذا بـ"إيفا" تقفز نحوي وهي تصرخ بي وكأني سأوذي شخصا عزيزا عليها. فأمسكت يدي وهي تستغيث بي أن أهدأ وأترك الأمر لها. خجلت وتراجعت خصوصا من وجود صاحبي (جان) وما يمكن أن يظنه بي. لا أدري ماذا فعلت "إيفا"، فقد عادت بعد حوالي نصف ساعة مبتسمة وهي ترمقني بنظرات عتب حنون مثل أم تسخر من شقاوة ابنها.
لم أنتبه إلا فيما بعد أن راهبي كان يزورني دائما في الأيام التي تزورني فيها زوجتي وكأنه يترقب هذا الموعد، واستغربت أن "إيفا" كانت تجلب معها تفاحا، رغم أنها تعرف أني لا أحب التفاح. وكانت في كل مرة تقدم واحدة منها للراهب. وتكاثرت الحالات التي كنت أراهما فيها ينطلقان في حوارات عميقة دون الاهتمام بإشراكي، مع ممازحات شخصية وكأنهما يعرفان بعضهما منذ أعوام طويلة. بل حتى ابنتي كانت تبدي فرحا كبيرا بلقاء (جان) وتطلب منه أن يشاركها ألعابها.
جلب انتباهي انخفاض حماسة راهبي بالدفاع عن مسيحيته وروحانيته، بل كثيرا ما كان ينزلق ببعض التهكمات والنقد للقديسين وقصصهم.
دون أن أدرك متى بالضبط بدأت الحالة، وجدت نفسي بالتدريج أدافع أنا عن الروحانيات أمام صديقي (جان) الذي لم يكن يكف عن نقدها ودحضها متبنيا الرؤية المادية العالمية!
* * *
وذات صباح شتوي معتم حيث الثلج غطى الأرض بأكثر من متر، وأنا أتصارع مع المدفأة أغذيها بالحطب كي تنشط نيرانها انتظارًا لاستقبال زوجتي وابنتي. كنت كئيبا بعد أن أمضيت ليلة مضطربة كلها كوابيس عن أفعى رقطاء تطاردني، وأبي يصرخ بي وهو يطردني من الدار، وأمي تبكي وهي تغطي وجهها الأبيض بفوطتها السوداء وتمد لي تفاحة حمراء.
فجأة انتبهت إلى (جان) يفتح الباب داخلا وهو يخلع حذاءه وقفطانه المغطى بالثلج.
دون أي كلمة أو مصافحة، جلس مقابلي عند المدفأة وراح يسخن كفيه ووجهه قرب اللهب الأزرق. كان محمرا مصفرا يرتجف بصورة مرضية ويتجنب النظر إلي، بل بقي صامتا يبحلق بالنيران ويحركها بعصاه بين حين وآخر. تركته في حاله عندما رأيت عدم حماسته للحديث. كنا وحيدين وسط صمت الطبيعة والكوخ المتقطع بهسيس لهيب وطرقعة شرارات وأنفاس مضطربة. بين حين وآخر، كنت أسمع منه همهمة مكتومة مع توقف أنفاسه كأنه يصارع قوة مجهولة في داخله تمنعه من النطق. أخيرا شرع بالكلام دون أن ينظر لي وكأنه يتحدث إلى نيران أضفى وهجها على وجهه مسحة من عذاب خرافي. بدا صوته هامسا غامضا مثل صدى قادم من بعيد:
ـ ((اسمع يا صاحبي نبيل، أرجوك أنصت جيدا لحكايتي هذه، وقرر بعدها ما تشاء:
قبل سبعة أعوام كنت أنا مثلك أسكن في هذا الكوخ نفسه. وكنت مثلك قررت الاعتزال عن العالم بعد الانفصال عن زوجتي. وكانت هي أيضا تزورني لتجلب لي ابنتنا. وكنت أيضا مثلك ملحدا، وتعرفت أيضا على راهب طيب ومثقف أصبح صديقي. ومثلك عرفت الراهب على زوجتي وابنتي. وخلال فترة أشهر، ترك الراهب الدير وعاد إلى المدينة وأصبح زوجا لزوجتي وأبا لابنتي. أما أنا فقد حللت محله وأصبحت راهبا كما تراني)).
صمت (جان) وبقي جامدا في وضعه. وخُيِّل لي أنه كان يهمس بآيات من سفر التكوين، التقطت منها بعض المقاطع:
(( فَنَادَى الرَّبُّ آدَمَ : أيْنَ أنْتَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ. فَقَالَ: َمنْ أعْلَمَكَ أنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ التِي أوْصَيْتُكَ أنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا؟ فَقَالَ آدَمُ: المَرْأَةُ التِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ. فَقَالَ الرَّبُّ لِلْمَرْأَةِ: مَا هذَا الذِي فَعَلْتِ؟
فَقَالَتِ المَرْأَةُ: الحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ. وَقَالَ الرَّبُّ: هُوَ ذَا الإنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الخَيْرَ وَالشَّرَّ. فَطَرَدَ الإنْسَانَ من الجنة إلى الأرض، لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الحَيَاةِ...))
لم أشعر بحياتي كلها براحة مثلما شعرت حينها. أغمضت عيني وأنا أشاهد أبواب السماوات مفتوحة كلها باستقبالي. وأن الملائكة تنشد مرحبة بي. أنفاسي هسيس نيران، ونبضاتي طرقعة شرارات.
دون أن ننطق كلمة واحدة، وجدت نفسي أقف وأخلع سترتي وقميصي وبنطالي، و(جان) مثلي أيضا يقف ويخلع عنه قفطانه وجلبابه الكنسي. أناوله ثيابي وخاتم زواجي ويناولني ثيابه وعصاه. يرتدي هو بنطالي وقميصي وسترتي ويجلس مكاني بانتظار زوجتي وابنتي. أما أنا فأرتدي ثيابه وأتناول عصاه وأرحل إلى الغابات، بحثا عن (دير) لا أعرف عنوانه ولا دروبه، ولكني على يقين أنه هناك وراء الغابات في ذرى الجبال، أبوابه مفتوحة وقلوب رهبانه تنبض بـ (أبانا الذي في السماوات). في أحضان الرب سأقيم، بانتظار رجل هارب من المدينة، يمنحني عائلته وأمنحه ديري.
جينيف 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق