(1) حياته ومسيرته العلمية :
غاستون باشلار فرنسي
عظيم الشأن حقاً فأبوه كان أسكافياً وجده كان فلاحاً معدماً.([1])وفي موسوعة
الدكتور عبد الرحمن بدوي يقول عنه : فيلسوف علوم فرنسي , ولد في بار على نهر الاوت
في سنة 1884 .([2]) وعلم نفسه مع ذلك , فكان يعمل ويتعلم , وعانى الامرين وصف
حياته وصفاً مريراً ومأساوياً في تلك الايام في كتابه " لهيب شمعة " ,
وبعد دراسته في الثانوية عمل موظفاً في البريد حتى سنة 1913 حيث حصل على الليسانس
في الرياضيات والعلوم , وفي أثر ذلك عين مدرساً للفيزياء والكيمياء في مدرسة
" بار على نهر الاوب " الثانوية , ثم حصل على الدكتوراه في الادب "
قسم الفلسفة " في السوربون عام 1927, وفي سنة 1930 أصبح أستاذاً للفلسفة في
جامعة " ديجون " ,ثم عين أستاذاً لتأريخ العلوم وفلسفتها في قسم الفلسفة
بكلية الآداب "السوربون " بجامعة باريس , وأستمر في هذا المنصب الى وقت
تقاعده في سنة 1954 , ويذكر الدكتور حنفي أنه لما أنتهى من الدراسة وأنفتحت أمامه
الابواب تزوج , ويأبى الله الا أن تموت زوجته وتترك له بنتاً جميلة توفر على
تعليمها وخرجها فيلسوفة من المبرزات تحتل مكانتها في دوائر المعارف وتشغل مؤلفاتها
سع مساحة على رفوف المكتبات وأبنته أسمها " سوزان باشلار " وهي صاحبة
كتاب " وعي العقلانية عند فينومينولوجيا هوسرل " وهي ما زالت اليوم
أستاذة الفلسفة في السوربون وتوفي باشلار عام 1962 في باريس .
وحول مؤلفات باشلار
يقول الدكتور بدوي " أن مؤلفاته تدور حول موضوعين أساسين هما : نظرية المعرفة
العلمية والنزعة الشعرية المقترنة بالتحليل النفسي , وعنده أن الموضوعين مترابطان
فأن مايكشف عنه التحليل النفسي من أسقاطات لرغباتنا على تصوراتنا للعالم , هو
مايكشف عنه العلم عن طريق مجهود دؤوب وفي أتجاه مضاد لان النظريات العلمية تدمير
للنظرات " أولقصائد " الشعرية " . ([3])
(2) باشلار والمقدمات
العلمية لعصره :
سجل ظهور الهندسات
اللاأقليدية ثورة في علم الهندسة وتجاوز مبادىء أقليدس الرياضية والتي سادت أكثر
من ألفي عام لم يتطرق إليها الشك وأعتبرت مثالاً واضحاً للوضوح واليقين .
وأول الارهاصات لظهور
هذه النظريات الجديدة ماقام به العالم الايطالي جيرو لامو ساكشيرو "1667
_1773 " والالماني يوهان لامبرت " 1777_1728 " بالاضافة الى محاولة
الرياضي المجري " جون بولياي ""1802 _1860" تلاه الالماني كارل
جاوس " 1777 _1855 " وعرفت هذه المحاولات بأزمة الاسس في الرياضيات
. ([4])
وأول ظهور لأول نسق
هندسي "لاأقليدي " يرجع فيه الفضل الى عالم الرياضيات الروسي نيكولاي
لوباتشفسكي " 1792 _1856 " حيث أستطاع أن يبني نسقاً هندسياً على مبادىء
جديدة , فأفترض أن السطح معقد وبالتالي بأمكان رسم عدد لانهائي من المستقيمات
المتوازية إنطلاقاً من نقطة خارج المستقيم , وأن مجموع زوايا المثلث تكون أقل من
مجموع زاويتين قائمتين , كما أن أقرب مسافة بين نقطتين هو الخط المنحني , وفي نفس
الفترة تقريباً وضع الرياضي الالماني بيرنهارد ريمان " 1836 _1866 " نسق
هندسي آخر أفترض فيه أن السطح الكروي . وعليه فمن نقطة خارج المستقيم لايمكن رسم
أي مواز لأن جميع الخطوط متقاطعة وتكون مجموع زوايا المثلث أكبر من 180 درجة , وأن
أقرب مسافة بين نقطتين هو الخط المنحني " المحدب " وعلى الرغم من هذه
الثورات التي شهدتها الرياضيات كانت سابقة لباشلار الا أنها ساهمت بشكل جلي في
تشكيل فلسفته العلمية ([5]).
وفي الفيزياء برزت
الثورات العلمية في مطلع القرن العشرين ففي سنة 1900 أعلن ماكس بلانك " 1858
_ 1947 " عن فرضية الكوانطا وهي كلمة لاتينية تعني " كمية أو وجبة
" وتنص هذه الفرضية على أن الاجسام تكتسب الطاقة أو تعطيها لا باستمرار كسيل
متصل بل على كموم " وكم الضوء أو الكوانطا بمثابة قطاع ضئيل للغاية من الطاقة
, إدراكه ليس أسهل من إدراك الذرة يؤلف الوحدة الاولية للضوء كما تؤلف الذرة
الوحدة الأولية للمادة, هذه الحقيقة العلمية الجديدة قلبت قوانين الفيزياء نيوتن
كلياً فقد توصل بلانك الى قناعة عميقة تتمثل بضرورة التخلي عن القانون الذي يعد
تبادل المادة والاشعاع يحصل بكيفية متصلة , ووصل الى قناعة بأن هذا التبادل يحصل
بصورة منفصلة ومتقطعة ويكون بلانك بهذا الانجاز قد صرف نظرية ماكسويل الكهرو
قياسية . ([6])
وفي سنة 1916 صرح
نيلز بور بنظريته التي توضح أن نموذج الذرة عند رذفورد " 1871 _1937
"ينبغي أن يرتبط بكم الطاقة عند بلانك ويكون بور بذلك قد وحد بين الذرة
والاشعاع , أيد أينشتاين " 1879 _1955" نظرية بلانك وطبقها في دراسة
التأثير الكهروضوئي , فحين تصطدم حزمة ضوئية أو حزمة من الاشعة فوق البنفسجية مع
سطح معدني تنطلق منه ألكترونات , وهذا مايسمى بالظاهرة الكهروضوئية التي يقتضي
وجود حبيبات للطاقة وجسيمات للضوء , فسر علماء القرن التاسع عشر الضوء على أساس
أنه موجة وأستبعدو التفسير الجسيمي , فأينشتاين يصر على أن كل كم طاقة حتى بعد أن
يخرج من المادة لن يسعى فقط سلوك الموجة كما قال ماكسويل بل لابد أن يسلك بصورة ما
سلوك الجسيم ([7]).
هذه المستحدثات
العلمية مهدت لميلاد الميكانيكا الموجية على يد رائدها الفرنسي لوي دي بروي , ففي
رسالته للدكتوراه عام 1917 صرح بأن طبيعة الضوء مزدوجة موجية وجسيمية وهنا يسجل
العقل بداية التفكير المزدوج , وقد تم تطور الميكانيكا الموجية على يد النمساوي
شرودنجر " 1787 _ 1961 ".
فتحت الفيزياء
الموجية الباب للعلماء للقول بلاحتمية الظواهر الفيزيائية ولذلك رأوا ضرورة
الاستعانة بحساب الاحتمال لفهم هذه الظواهر , مما دعا فيرنر هيزنبرغ " 1901
_1976 " ليقول بفكرة اللاتعين أو اللاحتمية , وهو مبدأ يضع في أعتباره أجهزة
القياس والتقنيات المخبرية في الظواهر المتناهية الصغر , وينص هذا المبدأ على
أستحالة التحديد الدقيق لموضع الالكترون , ولسرعته في أن واحد يضاف الى أنجاز
نظرية النسبية الخاصة عام 1905 التي تتناول الاجسام أو المجموعات التي تتحرك
بالنسبة لبعضها بسرعة ثابتة , ونظرية النسبية العامة 1916 التي تعالج الاجسام أو
المجموعات التي تتحرك بالنسبة الى بعضها البعض بسرعة متزايدة أو متناقصة
. ([8])
لقد أستفاد باشلار
كثيراً من هذه الانجازات العلمية ففي سنة 1929 صدر كتابه " القيمة
الاستقرائية للنظرية النسبية " حاول فيه أبراز القيم الابستمولوجية الجديدة
التي أفرزتها الفيزياء المعاصرة .
أن أهم ميزة في
الفلسفة المعاصرة هي طغيان النزعة التجريبية وتقليص نفوذ المثالية المحضة , حيث
تماشت التجريبية مع النظريات الحاصلة في العلم التجريبي في الفيزياء والكيمياء
والبيولوجيا وحتى في العلوم الإنسانية التي حاولت تقليد خطى العلوم الطبيعية
وتطبيق هذه العلوم للرياضيات في دراسة الواقع ومن أبرز رواد الفلسفة التجريبية جون
لوك , فرانسس بيكن , وديفيد هيوم , وصولاً الى جون ستيورات مل وهي نزعة معادية
للتيار الميتافيزيقي والتي حاولت استبدال الفلسفة بالمنهج العلمي القائم على أساس
الملاحظة والتجربة فصد الكشف عن العلاقات بين الظواهر دون الاهتمام بالبحث في
الغايات وطبائع الاشياء يقول رائد هذه النزعة فرانسس بيكن " ينبغي الا نعزو
أية قيمة حقيقية الا للمعرفة العلمية القائمة على الاستقراء التجريب , العلم قوة
ينبغي أبعاد البحث عن الغايات خارج النطاق العلمي " ([9]).
أذن التجريبية
الانكليزية نظرت للمعرفة كمعطى مستمد من التجربة الحسية وكان شعارهم " لاشيء
في العقل لم يكن خارج الحواس " ([10])
وفي فرنسا ساد تيار
النقد العلمي أو التيار الوضعي الذي يرجع لمؤسسه أوجست كونت " 1798 _1857
" ففي كتابه " محاضرات في الفلسفة الوضعية " الصادر عام 1842 حاول
فيه تحديد معنى للعلم يختلف عن المعنى الشائع في عصره : وهو المعرفة المنظمة
المتعلقة بموضوع واحد فكلمة " علم لاتطلق الاعلى المعرفة التي تكتفي باكتشاف
العلاقات الظاهرة بين الظواهر وهذه المعرفة لا تكون ممكنة الا في المرحلة الاخيرة
من التطور الذي يمر به العقل البشري , كما أهتم كونت بمعالجة علاقة الفلسفة بالعلم
, إذ رأى أن على الفلسفة إذا أرادت البقاء الابتعاد عن التأملات الميتافيزيقية
وحدد لها وظيفة جديدة تتمثل في دراسة تطور العلوم ومناهجها ونتائجها للوقوف على
الأسس المشتركة بين مختلف هذه العلوم الجزئية , فوظيفة الفيلسوف التأملي سابقاً
كانت مبررة لعدم وجود تخصص , أما في الحالة الوضعية فعلى الفيلسوف أن يجمع شتات
هذه العلوم وفق منهج واحد وهو المنهج الوضعي فالفيلسوف الوضعي يعتبره كونت من فئة
العلماء الا أن ما يميزه عنهم كونه لا يبحث في تفصيلات العلوم الجزئية وإنما دوره
يتمثل في دراسة عموم العلوم , ولذا يشترط كونت على الفيلسوف الوضعي أن يكون مكوناً
تكويناً علمياً كما ينصح العلماء المتخصصين بالاستفادة من دراسات هؤلاء ليتمكنوا
من تصحيح نتائجهم الجزئية وبالتالي تنمو المعرفة الإنسانية نمواً عظيماً , تتخلص
من الجانب السلبي الذي قد تترتب على تقسيم العلوم .
في مطلع القرن
العشرين حاول التيار الوضعي حصر الحتمية العلمية في نطاقها الابستمولوجي ليحمي
بذلك حريته وأرادته ,وتنقسم الوضعية الى الوضعية الروحية التي جمعت بين فلسفة كانط
الاخلاقية وفلسفة مين دي بيران " 1777_ 1824 " ومثل هذا
التيار جون لاشليه " 1832 _ 1918 " ففي رسالته للدكتوراه في " أساس
الاستقراء "صرح بأن التجريبية لاتكتفي من تحديد الاسباب الفاعلة للظواهر
الخاضعة للحتمية إذ لابد من إضافة العلل الغائية التي هي مجال حرية الانسان ثم
أميل بوترو " 1845 _1921 " الذي قال بأن قوانين العلم هي مجرد كيانات
معرفية أبستمولوجية ولا شأن لها بالانطولوجيا و"مبحث الوجود " أو
بالوجود الواقعي . أما الفرع الثاني تمثله الوضعية النقدية ومن روادها أوجست
كورنو.([11]) .
(3) تعريف
الابستمولوجيا أو " نظرية المعرفة " :
من الناحية اللغوية
كلمة " أبستمولوجيا " متكونة من كلمتين يونانيتين " أبستمي "
ومعناها علم والثانية لوغوس وهي بمعنى علم أيضاً فهي أذن معناها اللغوي " علم
العلوم " أو " الدراسة النقدية للعلوم " .
ولا يختلف المعنى
الاصطلاحي كثيراً عن المعنى اللغوي فالابستمولوجيا هي نظرية في المعرفة كانت فيما
سبق تختص بالبحث حول أسئلة تقليدية , ماهي حدود المعرفة ؟ هل المعرفة ممكنة أم غير
ممكنة ؟ ماهي وسائل المعرفة هل هي الحس أم العقل ؟ أم الحس والعقل معاً
......وغيرها .
وهذه هي الاسئلة
التقليدية التي كانت تدور حولها مباحث الابستمولوجيا في مؤلفات الفلسفة التقليدية
: ولكن المقصود بالابستمولوجيا هنا معنى خاصاً غير المعنى التقليدي .
نحن نقصد
بالابستمولوجيا هنا " نظرية المعرفة العلمية " تمييزاً لها عن نظرية
المعرفة التقليدية , فالاولى من أختصاص العلماء ومن إنتاج الفلاسفة المنقطعين
للنشاط العلمي . أما الثانية فهي من إنتاج الفيلسوف ذاته كل حسب مذهبه ونسقه
الفلسفي . ([12])
وبينما تقوم نظرية
المعرفة العلمية على الوسائل العلمية الحديثة مثل القياس والاحصاء والتجارب والات
العلمية المتطورة نجد أن نظرية المعرفة بمعناها التقليدي تعتمد على وسائل تقليدية
وتقوم على فكر ذاتي " في حين تتصف نظرية المعرفة العلمية والابستمولوجيا
" بالنزعة الموضوعية ومن هنا جاء تعريف لالاند في معجمه الفلسفي
للابستمولوجيا :
"أن
الابستمولوجيا هي الدراسة النقدية لمبادىء العلوم وفروضها ونتائجها بغرض تحديد
أصلها المنطقي وبيان قيمتها وحصيلتها الموضوعية " وإذا كان الفرنسيون يميزون
بين نظرية المعرفة والابستمولوجيا بمعناها الدقيق فأن الالمان أيضاً يميزون بين
نظرية المعرفة والابستمولوجيا وأن كانوا يقصدون بالابستمولوجيا فلسفة العلوم
جميعها , ومهما كان من أقر هذه الاختلافات التي تنشأ حول تحديد معنى الابستمولوجيا
فأننا نعني بها في المقام الاول بيان شروط المعرفة البشرية وقيمتها وحدودها
وموضوعيتها من زاوية تطور العلم المعاصر . ([13])
أن مقولة تحديد معنى
الابستمولوجيا يرجع الى أرتباطها بعدة أبحاث معرفية تدور حولها , فالابستمولوجيا
ترتبط بنظرية المعرفة كما ترتبط بالمثيودلوجيا وفلسفة العلوم والمنطق , فهي ترتبط
بالمنطق من حيث أنها تدرس شروط المعرفة الصحيحة شأنها في ذلك شأن المنطق ولكن إذا
كان المنطق يهتم بصورة الفكر أو بصورة المعرفة فإن الابستمولوجيا تهتم بصورة
المعرفة ومادتها حقاً .
والابستمولوجيا مرتبطة
أيضاً بنظرية المعرفة بمعناها التقليدي من حيث أنها تدرس أمكانية المعرفة ,
وحدودها وطبيعتها ولكن لامن زاوية الموقف الخاص بل من زاوية التطور العلمي المستمر
, وبكلمة واحدة أن الابستمولوجيا هي نظرية علمية في المعرفة تتلون بلون المرحلة
التي يجتازها العلم في سياق تطوره ونموه على مر العصور .
والخلاصة أننا إذا
أردنا تعريف الابستمولوجيا تعريفاً دقيقاً نقول إنها تلك الابحاث المعرفية , فلسفة
العلوم , نظرية المعرفة , مناهج العلوم , منظوراً إليها من زاوية علمية معاصرة أي
من خلال المرحلة الراهنة لتطور الفكر العلمي والفلسفي كما أنها علم المعرفة التي
تختص ببحث العلاقة بين " الذات والموضوع " (إن الانسان يبني معرفته بهذا
العالم من خلال نشاطه العلمي والذهني , والبناء الذي يعتمده الانسان بواسطة هذا
النشاط هو ([14])ما نسميه العلم والمعرفة , أما لفحص عملية البناء نفسها
" تتبع مراحلها , نقد أسسها , بيان مدى ترابط أجزائها محاولة البحث عن ثوابت
صياغتها صياغة تعميمية , محاولة استباق نتائجها " فذلك مايشكل موضوع
الابستمولوجيا ) ([15])
وحول إشكالية صياغة
نظرية المعرفة عند الفلاسفة وصعوبة دراستها تعلل " الموسوعة الفلسفية
المختصرة " تلك الصعوبة بالقول :
"إن المشكلة
المركزية في نظرية المعرفة الحديثة هي التوفيق بين الطبيعة الذاتية للفكر وبين
دعوانا أننا نعرف ما هو خارج أفكارنا وتلك لم تكن مشكلة بالنسبة لأرسطو إذ أعتبر
أن العقل أنما يكشف نظاماً كان من قبل موجوداً في الواقع حتى جاء كانت فقلب الوضع
الأرسطي وزعم أن النظام في معرفتنا يأتي من العقل وحده , وتقبل بيرس المشكلة
الحديثة وقدم له حله الخاص , بدأ بيرس بالقول بأننا على وعي بكوننا نتصل في خبرتنا
بالواقع مباشرة ويتكون الواقع من الأشياء الكائنة سواء فكرنا فيها أو لم نفكر ,
أضف إلى ذلك أننا إذا أردنا اجتناب المفاجآت غير السارة فإنه يجب علينا أن نسعى
لأن نكيف سلوكنا مع هذه الاشياء, والى هنا يتفق بيرس مع أرسطو " ([16]).
(4) سمات نظرية
المعرفة العلمية عند باشلار :
تتميز نظرية المعرفة
العلمية عند باشلار بمجموعة من السمات الاساسية والتي تميزها عن باقي
الابستمولوجيات أو " نظريات المعرفة " عند الفلاسفة المحدثين والمعاصرين
من هذه السمات :
1- أنها ترفض العقل
قبل العلمي وتقول لا لعلم الأمس وللطرق المضادة في التفكير وليس معنى ذلك أنها
فلسفة سلبية وإنما هي فلسفة بناءة ترى في الفكر عامل تطور عندما ينقد الواقع فهي
فلسفة لا تعترف ببناء أو نسق نهائي للفكر العلمي بل ترى فيه فقط بناء يتجدد
باستمرار على ضوء التطورات العلمية المستمرة .
في مقابل هذه النظرة
التي طرحها د. شعبان حسن يطرح الدكتور عبد الرحمن بدوي رأياً مناقضاً للرأي السابق
فيرى في فلسفة باشلار أنها تدعو الى ديالكتيك سلبي والسلب هو في أنبنائه حركة
تدمير وأعادة بناء للمعرفة يري غالى بيان أن التقابلات زائفة , بيد أن التقابل
الوهمي للتصورات يميل الى منازعات حقيقية في الممارسات المنتجة للعالم , أن العلم
يضع قضايا تخضع للتعديل المستمر , وأن كان الحالم يستأنف أحلامه العزيزة فأن
العالم هو الاخر يستأنف أبحاثه العقيمة في الظاهر .
ومصير العقل هو ناتج
غير إنساني للعمل النظري لبنى الانسان والفكر ينتج مقولاته خلال ممارسته لما هو
تجريبي والعلم هو حالة خاصة من ذلك الإنتاج فيها المقولة العليا هي الحق.([17])
2-أن الابستمولوجيا
الباشلارية تستلزم النظر الى المعرفة من زاوية تطورها في الزمان أي بوصفها عملية
تطور ونمو متصلة _وبعبارة أخرى فأنه لابد من النظر الى المعرفة , أية معرفة بوصفها
نتيجة لمعرفة سابقة بالنسبة الى معرفة أكثر تقدماً وتطوراً.
3-تتميز نظرية
المعرفة العلمية عند باشلار بالمقارنات المتعددة على مستويات متعددة وهذه
المقارنات تأخذ شكلاً تأريخياً نقدياً وتركز بالذات على ثقافة القرن الثامن غير
العلمية , وهذا الشكل التأريخي النقدي هو الشكل المنهجي الذي يجري تطبيقه على
تأريخ العلوم , وعلى الافكار الاساسية التي نستخدمها وبينها العلماء خلال تطورهم
العلمي .
4-أن السمة الأساسية
في الابستمولوجيا الباشلارية هي اهتمامها المتزايد بجوانب النقص والخطأ والفشل في
حقول العلم أكثر من اهتمامها بالايجابيات وبهذه الطريقة تصبح الموضوعات العلمية
عبارة عن مجموعة من الانتقادات التي وجهت إلى صورتها قبل العلمية أو صورتها الحسية
القديمة , فليست الذرة مثلا هي هذه الصورة التي أعطاها لها هذا العالم أو ذاك بل
مجموع الانتقادات التي وجهت إليها , أي إلى تلك الصورة من طرف العلماء والباحثين
اللاحقين , إن المهم في العلم ليس الصورة الحسية المتخيلة التي يقدمها هذا العالم
أو ذاك على أشياء الطبيعة إن المهم هو الانتقادات وأنواع الرفض التي تلاقيها هذه الصورة
من طرف العلماء الاخرين . ([18])
5-أن الابستمولوجيا
الباشلارية هي نظرية علمية في المعرفة لانها تستقي موضوعاتها ومسائلها ومناهجها من
العلم ذاته من المشاكل التي يطرحها تقدم العلم على العلماء المختصين , فهي أذن
تعني بالمعرفة العلمية أساساً وتحاول أن تقدم حلولاً علمية لقضايا المعرفة عامة ,
بقدر ماتنتمي هذه القضايا الى ميادين البحث العلمي .
6-كما أن أبستمولوجيا
باشلار نظرية في المعرفة غير مغلقة وغير مكتملة فهي لا تنشد المعرفة المغلقة على
ذاتها , وهي لا تذهب مع دعاوى الفلاسفة الذين يتوهمون أنهم فرغوا من بناء نسق
معرفي تام ومكتمل ونهائي , إنها لا تريد أن تتقيد بنسق فلسفي مؤكد أنما هي تتمسك
بأساسين : "1" نسبية المعرفة "2" مبدأ القابلية
للمراجعة , والابستمولوجيا بهذا المعنى يعتبرها صاحبها باشلار هي الفلسفة العلمية
الوحيدة التي تواكب أي تطور يطرأ في حقل العلم.
7-لقد أوضح باشلار في
كتابه فلسفة لا أو " فلسفة النفي " الافاق العلمية الجديدة التي من
الممكن الوصول إليها عن طريق الجدل أو النفي . يقول باشلار : " أنه الى جانب
المعرفة التي تزيد وتؤدي الى تغيرات تدريجية في الفكر العلمي سنجد سبباً يدعو الى تجدد
يكاد لاينضب في الفكر العلمي , والواقع أن الفكر العلمي يتطور بين حدين متعارضين
ينتقل مثلاً من الهندسة الاقليدية الى الهندسات اللاأقليدية ومن الميكانيكا
النيوتونية الى الميكانيكا اللانيوتونية لدى انشتاين , ومن فيزياء مكسويل الى
الفيزياء اللامكسويلية لدى بور , ومن الابستمولوجيا الديكارتية الى أبستمولوجيا
اللاديكارتية " ([19]).
هنالك ملاحظة تزيل
نوعاً من اللبس الذي قد يحدث في الفهم حول فلسفة النفي الباشلارية :مؤادها أنه ليس
في هذا السلب " النفي " " ألي " وينبغي الا نعتقد أن ثمة
نوعاً من السلب البسيط الذي يكتفي بأرجاع المذاهب الجديدة وأعادتها منطقياً الى
الاطر القديمة فليست الهندسة اللاأقليدية مجرد نفي أو سلب بسيط للهندسة الاقليدية
بل إن في الامر توسعاً حقيقياً , فالهندسة اللاأقليدية لم تصنع لتناقض الهندسة
الاقليدية وإنما هي بالاحرى كالعامل المساعد الذي يتيح للفكر الهندسي التأليف
الكلي والاكتمال , وييسر له الذوبان في هندسة شاملة كلية , والامر كذلك في كل
أشكال تطور الفكر العلمي الجديد , فسمة الافكار العلمية عند باشلار يتضح في التوسع
والاستدلال والاستقراء والتعميم والتكامل والتركيب والتجميع فكل صفة من هذه الصفات
تنم عن بديل لفكرة الجدة التي تتميز بها الافكار العلمية المعاصرة , كما أن أي صفة
من تلك الصفات تأتي بعد فترة من الزمان فتضفي نوراً خلفياً على ظلمات المعرفة
الناقصة , لقد أوضح باشلار في كتابه " القيمة الاستقرائية للنسبية " صفة
الجدة الاساسية التي تتصف بها النظرية النسبية علاوة على توضيحه وتميزه للعلاقات
العامة للفكر العلمي " النيوتوني " والفكر العلمي " الاينشتايني
" .([20])
لقد كانت أعادة النظر
التي قام بها أنشتاين إعادة كلية من زاوية علم الفلك وأن علم الفلك المستند الى
النظرية النسبية لم يتنبأ عن علم الفلك النيوتوني , لقد كانت نظرية نيوتن تؤلف
نظاماً مكتملاً وهو بتصحيحه قانون الجاذبية جزئياً كان يستطيع أن يلغي وسائل عدة
لشرح البعد الطفيف الشاذ في مدار عطارد حول الشمس , فمن هذه الناحية لم تكن ثمة
حاجة لقلب الفكر النظري رأساً على عقب حتى تجعله يوائم معطيات التجربة وكان الفكر النيوتوني
بالدرجة الاولى نمطاً جلياً جلاءاً رائعاً من أنماط الفكر المغلق ولم يكن الخروج
منه ممكناً أو يسيراً .
(5)الابستمولوجيا
الباشلارية :
أسهم التطور العلمي
في العصر الحاضر في تغيير كبير في مفهوم " الابستمولوجيا " فأصبح
الفلاسفة يبحثون الابستمولوجيا في إطار المعرفة العلمية وحدها بعد أن كانت
الابستمولوجيا التقليدية تختص بالبحث في أسئلة تقليدية حول أمكانية قيام المعرفة
وإذا كانت ممكنة أو غير ممكنة ووسائلها وحدودها .
لقد أوضح لالاند في
معجمه الفلسفي أن مفهوم الابستمولوجيا ينصب أساساً على الدراسة النقدية لمبادىء
مختلف العلوم وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على الصلة الوثيقة بين العلم
والابستمولوجيا علاوة على الصلة المتينة بينهما وبين الفلسفة , وكان من نتيجة
التطور العلمي المعاصر أن كثيراً من الدارسين المعاصرين أصبحوا يميزون بين
الابستمولوجيا التي تهتم بالمعرفة العلمية فحسب ونظرية المعرفة بشكلها ومباحثها
التقليدية, وفيما ترتكز المعرفة العلمية على أدوات القياس والتجريب فأن المعرفة
الحسية ترتكز على الحس فقط والمعرفة تؤكد دائماً على الناحية الثانية ذلك لأن
حواسنا هي وسيلتنا الاولى والاخيرة لاكتساب هذين النوعين من المعرفة ووسيلتنا
الاولى لمعرفة العالم الخارجي والدخول معه في علاقات , ووسيلتنا الاخيرة لتحصيل
المعرفة العلمية ذاتها .([21])
هذا من ناحية ومن
ناحية أخرى فأن نفس المشاكل التقليدية التي شغلت الفلاسفة بصدد نظرية المعرفة يمكن
أن تثار الان لكن في أطار العلم المعاصر وتطوره , فيمكن أن نبحث عن علاقة "
الذات بالموضوع " أو " موضوعية العالم الخارجي "أو " قيمة
مايمدنا به العقل " الى غير ذلك من المسائل التي شغلت الفلاسفة .
إن المشكلة
الابستمولوجية الحاضرة تجاوز الاطار المعرفي السابق على تطور العلم كانت الظواهر
قبل التطور العلمي تعالج في سكونها وبالاستناد الى نواة واقعية ساذجة , ولكن
الثابت الآن أن الظواهر يتلازم فيها السكون والحركة " فمن العبث _كما يقول
باشلار _ أن نفترض أن المادة ساكنة في الميكروفيزياء مادامت هذه المادة لاتوجد في
نظرنا الا كطاقة وأنها لا ترسل إلينا أية رسالة الا بالاشعاع علاوة على أن الظواهر
أصبحت تستند الان الى واقعية نقدية علمية وعليه فأن باشلار عمل على أيجاد وسيلة ما
للتوفيق بين المذهب العقلي والمذهب الواقعي في إطار المعرفة العلمية "
. ([22])
لقد ميز باشلار بين
ثلاث مراحل في تكوين العقل العلمي :
1-المرحلة الاولى
تمثل الحالة ماقبل العلمية وتشتمل على الازمنة الكلاسيكية القديمة وعصر النهضة
والجهود المستمرة في القرن السادس عشر والسابع عشر وحتى في القرن الثامن عشر.
2-المرحلة الثانية
التي تمثل الحالة العلمية والتي بدأت في أواخر القرن الثالث عشر وتشمل القرن
التاسع عشر وأوائل القرن العشرين .
3-أما المرحلة
الثالثة والاخيرة فهي مرحلة العقل العلمي الجديد أبتدأً من عام 1905 حتى بدأت
نظرية أنشتاين في النسبية تغير كثيراً من المفاهيم الخاطئة التي كانت سائدة قبل
ذلك وقد شهد النصف الاول من القرن العشرين تطوراً مذهلاً في مجال العلوم مثال ذلك
الميكانيكا الكوانتية والميكانيكا التموجية عند لويس دي بروي وميكانيكا ديراك
وفيزياء هيزنبرغ .
لقد أراد باشلار أن
يربط الابستمولوجيا بتطور العلوم فأستلهم وقائع العلم وفروض الرياضيات وبدأ
بالعلوم الفيزيائية حتى تأتى له أن يضع المادة موضعاً جديداً وهذا هو الطريق الذي
ضمن لباشلار الانتهاء الى مذهبه في " المادية العقلانية " أو "
العقلانية العلمية " .
وإذا كنا قد قسمنا
مراحل الابستمولوجيا الى ثلاث مراحل فإن باشلار يحدد سمات كل مرحلة ويميزها عن
الاخرى , حسب مفهومه لتطور العقل العلمي :
1-المرحلة الاولى هي
الحالة الملموسة : إذ ينشغل العقل بالصور الأولى للظاهرة ويعتمد على صيغ فلسفية
تمجد الطبيعة وتؤمن بوحدة العلم .
2-المرحلة الثانية هي
الحالة الملموسة المجردة : إذ يضيف العقل الى التجربة الفيزيائية الأشكال الهندسية
ويستند الى فلسفة البساطة هنا ما يزال العقل في وضع متناقض فهو واثق من تجريده
بقدر ما يكون هذا التجريد ماثلاً بوضوح في حدس " ملموس " أو "محسوس
".
3- المرحلة الثالثة
هي الحالة المجردة : حيث يتدخل العقل بمعالجة المعلومات المأخوذة من الواقع لكنها
منفصلة عن التجربة المباشرة أو بمعنى آخر يكون العقل والتجربة في هذه المرحلة
متلازمين كل منهما متمم للآخر , وبما أنه يفترض بكل معرفة علمية أن يتحدد بنائها
في كل لحظة حسب تطور العلم والعلوم فأن براهيننا العلمية والمعرفية سيكون أمامها
المجال الكافي لكي تتطور على مستوى المسائل الخاصة , دونما أي اهتمام بالمحافظة على
هذا التطور التأريخي " لنظرية المعرفة ".
من هنا قول باشلار ذو
مغزى : أنه ربما نرتكب خطأً بليغاً إذا اعتقدنا أن المعرفة التجريبية يمكنها أن
تبقى في ميدان المعرفة اليقينية التقريرية من خلال انحصارها في نطاق التوكيد المحض
للوقائع ومعنى ذلك أن المعرفة التجريبية عند باشلار تعجز عن الوقوف أمام المعرفة
اليقينية المتكونة أصلاً في نفس العالم ويؤكد هذا قول باشلار : "أنه لامناص
للعقل العلمي من أن يتكون بمواجهة الطبيعة , بمواجهة مايكون فينا وخارجنا , بمثابة
الحافز والموجه للطبيعة "([23]).
إن الابستمولوجيا
المعاصرة كما نجدها عند باشلار تستند الى معطيات الثورة العلمية المعاصرة في مجال
العلوم الرياضية والعلوم الفيزيائية بصفة خاصة لكي نؤكد أن آثار هذه الثورة لم تمس
بمبادىء تلك العلوم فحسب بل لحقت أيضاً بنية الفكر الإنساني ذاته , أن ماتنبهنا
أليه الثورة العلمية المعاصرة في نظر باشلار هو أن الفكر الإنساني لايحيا علاقة
وحيدة الجانب مع التطور العلمي , فهو ليس منتجاً لهذا التطور العلمي فحسب , بل إنه
متأثر بنتائج هذا التطور أيضاً , وهذا ما لم تنتبه إليه الفلسفة الكلاسيكية التي
استخلصت مبادئ الفكر الإنساني في مرحلة معينة من تأريخ العلوم فأضفت على هذه
المبادئ صفة الاطلاق , واعتقدت نتيجة لذلك أن هذه المبادئ هي بنية الفكر الإنساني
ذاته .
إن هذه النتيجة
الفلسفية التي تصل إليها الابستمولوجيا المعاصرة ممثلة في باشلار لا تهدف الى
التأكيد على سلبية الفكر الإنساني أمام التطور العلمي فنقول مثلاً تؤكد ذلك النظرة
التجريبية أو الواقعية أو الوضعية التي تهيمن على العلماء , بأن الفكر الإنساني
يواجه الواقع بدون بينة ولا معارف وأنه مجرد متلق للتأثير , فهذا موقف ينتج عند
العلماء عند انغمارهم في العمل العلمي التجريبي فهم عندئذ يخضعون للواقع يرون أن فلسفة
العلوم تحكمها الوقائع لا المبادىء ثابتة للعقل توجد في أستقلال عن أية تجربة ,
ولكن هدف تلك النتيجة الفلسفية المشار إليها, يكون أيضاً عدم الخضوع لرأي الفلسفات
العقلانية المثالية التي تؤكد أن للفكر الإنساني بنية ثابتة , وأنه يواجه الواقع ,
وهو حائز بصورة فطرية أو قبلية للمقولات التي تؤهله للتفكير في هذا الواقع , أن
الهدف هنا هو القول بوجود علاقة جدلية بين الفكر الإنساني وبين تطور المعرفة
العلمية التي ينتجها , أن المعرفة العلمية من نتاج الفكر الإنساني لاشك في ذلك ,
ولكن الفكر الإنساني بدوره من نتاج هذه المعرفة , وأن النتيجة الاساسية اللازمة عن
هذه الوجهة من النظر هي القول ببنية متغيرة للفكر الإنساني بفعل من تطور المعرفة
العلمية , وهذا هو المعنى الذي يقصده باشلار عندما يقول بأن القيم الجديدة التي
حملتها معها الثورة العلمية المعاصرة هي قيم نفسية الى جانب كونها قيماً معرفية
. ([24])
وفي هذا يقول باشلار
: "إذا وضعنا مشكلة الجدة العلمية على الصعيد النفسي الخالص, لن يفوتنا أن
نرى هذا السير الثوري للعلم المعاصر لابد وأن يؤثر على بنية الفكر , فالفكر بنية
قابلة للتغير , منذ اللحظة التي يكون فيها للمعرفة تأريخ " . ([25])
وبهذه الكيفية فأن
تأريخ المعرفة العلمية يمكن أن يكون في الوقت ذاته تأريخ المتغيرات التي لحقت
الفكر الإنساني منذ أن بدأ هذا الفكر في إنتاج معرفة علمية , وأن القول بعقل
إنساني ثابت في بنيته , معناه أدراك تأريخ العلوم , وتأريخ الفكر الإنساني كما لو
كانا واقعين منفصلين ومعناه عدم القدرة على أستخلاص القيم الابستمولوجية التي تبرز
مع كل فترة من تأريخ العلوم , وهي قيم ليست جديدة بالنسبة للمعرفة العلمية في
ذاتها فحسب بل هي قيم نفسية لانها تتعلق بالفكر الإنساني من حيث بنيته , فالعقل
الإنساني في نظر باشلار بنية لها تأريخ , وتأريخها في تطور معارفها , إن بنيتنا
العقلية تنتج المعارف ولكنها تخضع التأريخ لتأثير تطور هذه المعرفة فتعرف هي ذاتها
تطوراً , أن العقل لاينتج العلم فحسب ولكنه فضلاً عن ذلك يتعلم من العلم "
فالعلم بصفة عامة بعلم العقل , وعلى العقل أن يخضع للعلم الاكثر تطوراً , العلم
الذي يتطور".([26])
وعلى أساس هذا
الاعتقاد بوجود فكر إنساني ذي بنية متطورة يقترح باشلار أن تكون أحدى مهام
الابستمولوجيا المعاصرة البحث في أثر المعارف العلمية في تطور بنية الفكر .
أن الفكر المعاصر في
نظر باشلار يرفض من الناحية العلمية فكرة "الشيء في ذاته " كما جاءت عند
كانط , لأن معنى الشيء في ذاته في العلم مظهر لتقدم العلم لالحدود المعرفة العلمية
, فكلما تقدم العلم بلغ معرفة بما كان يعتبر مثل ذلك شيئاً في ذاته , وفي هذا
التأكيد يستفيد باشلار من التقدم السريع الذي حققته العلوم المعاصرة والذي استطاعت
بفضله أن تصل الى معرفة بعض الظواهر الكونية التي لم يكن العلم في القرون السابقة
قادراً بفضل ولكان متوفراً لديه من وسائل على ملاحظتها ملاحظة دقيقة فبالاولى
اكتشاف قوانينها كموضوع علمي فنواة الذرة مثلاً كانت شيئاً في ذاته بالنسبة لعلم
القرون السابقة .
فلكي نثبت أن للمعرفة
العلمية حدود ينبغي لنا في نظر باشلار الا نقف عند بيان عجز عن حل مشكلة ما , بل
إن نرسم الحدود النهائية التي لاتستطيع المعرفة العلمية أن تتجاوزها , غير أن هذا
الامر لايجد له مبرراً في تأريخ تقدم المعرفة العلمية , لذلك يصح لنا الاستفادة من
هذا التأريخ أن نقول بأن المشاكل التي تبدو غير قابلة للحل عندما يتم بفضل تقدم
العلم بلوغ وضع جدير لها , بمعرفة المعطيات الموضوعية المتعلقة بها . أن المسألة
أذن ليست في قدرة أو عدم قدرة العلم على حل بعض المشاكل , وأن وضع حدود لمعرفة
العلم لايمكن أن يأتي من خارج العلم بل من العلم ذاته .
فالعلم هو الذي يضع
حدوده الخاصة وعندما يكون قد حدد بوضوح هذه الحدود فأنه يكون قد تجاوزها , نستخلص
مما سبق أن مفهوم الحدود الابستمولوجية بالنسبة للمعرفة العلمية ليست الا توقفاً
لحظياً لهذه المعرفة وأنه لايمكن أن نرسم بصورة موضوعية هذه الحدود , ولذلك فأن الصيغة
الاكثر ملائمة للتعبير عن هذا هي القول بأن الحدود بالنسبة للعلم تعني برنامج عمل
أكثر مما تعني عوائق مطلقة ([27]).
إن العقل العلمي
يمنعنا من تكوين رأي حول قضايا لانفهمها حول قضايا لانحسن صياغتها بوضوح, قبل كل
شيء لابد من معرفة كيفية وضع وفهماً في الحياة العملية فأن المشاكل
لاتنطرح ذاتياً ومن الواضح أن هذا المعنى للمشكلة هو الذي يعطي للعقل العلمي
الحقيقي طابعه , فبالنسبة الى العقل تعتبر كل معرفة جواباً على مشكلة, فأذا لم يكن
ثمة "مشكلة " لايمكن أن تكون ثمة معرفة علمية .
وأذا عدنا أخيراً
بصدد كل معرفة موضوعية الى أعتماد معيار صحيح للتجربة من جهة والعقلانية من جهة
ثانية فأننا قد نندهش من تجمد المعرفة الناجمة عن الاشتراك المباشر في مشاهدات
خاصة , ولسوف نرى بخصوص المعرفة الشائعة أن الوقائع متضمنة بشكل مبكر جداً في
المبررات والتعليلات .
أذن بدون تشكيل
عقلاني للتجربة التي يحددها طرح المسألة وبدون هذه الاستعانة الدائمة ببناء عقلاني
صريح تماماً , سيترك المجال أمام تكوين نوع من لاوعي العقل العلمي يطرح الموضوع
على الشكل التالي , علينا أولاً طرح الموضوع كمادة مشكلة وطرح ذات الكوجيتو كوعي
للمشكلة وهكذا يفكر الكائن المفكر في منتهى معرفته بعدما يكون قد أحصى معارفه
الصالحة لحل المشكلة المقترحة , فهذا الاحصاء الذي هو وعي لنظام حركي من الافكار
هو إذاً مستقطب في ظل المشكلة المطلوب حلها , في العقلانية المعَلمة يأتي الاحصاء
معقلناً وضيقاً على خط واضح التحديد , بين الاستناد الى أسسه لكن في العقلانية
المسألة توضع الاسس نفسها في موضع أختبار , بل تطرح على بساط البحث من قبل المشكلة
, أن المشكلة هي الذروة الفاعلة للبحث فالتباس الترابط والجدلية والمشكلة هي كل
عناصر الاحصاء العقلي هي كل أوقات هذه التبعة للعقل .
لقد اعتبر غاستون
باشلار الامتداد الطبيعي لفكر وفلسفة برونشفيك فباشلار ظل دائماً منشغلاً بفلسفة
العلم وهو في هذا المجال يواصل عمل برونشفيك مع الحرص على تحديده فهو يواصله لان
مايريد أن يلقي عليه ضوءاً هو الفكر العلمي الجديد , في حين أنه يستدل بالعالم
المعطى لنا عالماً من العلاقات وهو يعارض في هذه النقطة الفكر العلمي عند
"مايرسون " مثلما كان يعارضه برونشفيك فالعلم عند كل من برونشفيك
وباشلار لا يبحث عن الاشياء النمطية أو الثابتة وإنما يضعنا وجهاً لوجه أمام
مجموعة من العلاقات , وأذا كان باشلار يواصل فكر برونشفيك من هذه الناحية فهو من
ناحية أخرى يجدد هذا الفكر ذلك لأن العلم في تحوله الدائم واستحداثه , إنما يضعنا
اليوم أزاء حالات منفصلة لاتماثلية وغير نمطية وأزاء حشد من التعقيدات في مجال
اللامتناهي من الصغر , وهذا مالانجده أبداً في فكر برونشفيك على الرغم مما يتصف به
فكر هذا الاخير من عمق ومرونة , وعلى الرغم من أن باشلار كسب من الفلسفة والعلم
الا أنه وصل الى الفلسفة عن طريق تأمل العلوم ونشاطه موجه الى
أتجاهين ([28]) يبدو أنهما متضادان لاول وهلة فنحن نستطيع أن نعده في
المقام الاول مواصلاً لفلسفة برونشفيك مع تحديدها عدة نقاط فهو يعارض كل تصور من
شأنه أن يبسط منهج العلوم , فالعلم في جوهره وضع في علاقة وهذه العلاقات متعددة
ودقيقة بل هي في تطور مطرد , وباشلار يعرض أفكاره عن منهج العلم أول الامر , في
كتابه " الفكر العلمي الجديد " ثم تطويرها على التعاقب في مؤلفاته
" العقلانية التطبيقية "و"فلسفة النفي " أو " فلسفة
الا" و" تجربة المكان في الفلسفة المعاصرة " و"ديالكتيك
الديمومة أو الزمان " و" الفعالية العقلانية للفيزياء المعاصرة "
و" بحث في المعرفة التقريبية " و" المادية العقلية " وهو ينطلق
في فهمه " النزعة العقلية التطبيقية " أو " التجريبية التكنلوجية "
أو " المادية العقلية " مبيناً كيف تتطابق النزعة العقلية مع النزعة
التجريبية في محاولة لتجاوز الانطولوجيا .
وحول المهام الاساسية
للابستمولوجيا الباشلارية يحدد د. علي حسين كركي هذه المهام لتحديد أن المهمة
الاولى والاساسية هي أبراز القيم الابستمولوجية التي تفرزها الممارسة العملية وذلك
بقطع الطريق على كل ماتحاول الفلسفة إدخاله في العلم من قيم أخلاقية ودينية
وجمالية . ولكن ماهي هذه القيم الابستمولوجية وما مصدرها كيف تفرض نفسها ؟ إن مصدر
هذه القيم النظريات العلمية ليس كل النظريات العلمية بل الجديدة والثورية منها ,
فالقيمة الابستمولوجية للهندسات اللاأقليدية مثلاً ترتبط بما تقدمه هذه الهندسات
من تصور جديد , للمكان وهذا التحديد لمهمة فلسفة العلوم تحديد أيجابي فبموجبه لا
تكون فلسفة العلوم تدخلاً فلسفياً في العلم لتبرير أهداف خارجة عنه , بل تكون
استيعابا للقيم العلمية الجديدة , التي يفرزها التطور العلمي , وبمعنى أخر "
أن باشلار لا يريد أن يقيم نظرية في المعرفة تحتوي النتائج العلمية لتحديد أهداف
أيدلوجية , ولكن ثمة شروط لابد منها لتتمكن فلسفة العلوم من إبراز القيم
الابستمولوجية التي انتجها التطور العلمي . ([29])
لابد أن يكون
الابستمولوجي لفظ أزاء العلم المعاصر عليه قبل كل شيء أن يتجاوز البدأ القائل إن
الاولى كان دائماً الاساسي بالعكس عليه أن يتجرد على تأريخ التجربة وتأريخية ماهو
عقلاني فهو لن يكون قادراً على إبراز القيم الابستمولوجية الا إذا قطع مع الأحوال
والبدايات المطلقة وأدرك أن النظريات العلمية المعاصرة لامثيل لها في التأريخ
السابق وهي جديدة تماماً لذا لا يمكن أن نبحث عن أصول في هذا التأريخ , ومن خصائص
مرحلتنا أن الواقع فيها مبين لامعطى حيث تلعب الآلة دوراً كبيراً في عملية إدراكنا
للواقع , وعليه أولاً وأخيراً إذا أراد أن يكون مجدداً أن يختار أولوية النتائج
العلمية على السيستام الفلسفي فواكب بذلك سير التأريخ العلم وتقدمه معارضاً أسلوب
الفلسفات التقليدية , وبموجب هذا الاختيار يخضع الفيلسوف العلم السيستام الفلسفي
للقيم الابستمولوجية ويجبره على التحرر وفق القيم الجديدة والتي يفرضها تأريخ
العلم هذه المهمة الاولى .
أما الثانية , فهي
البحث في أثر تطور المعارف على بنية الفكر , سيؤدي هذا البحث الى فوضى في العقل
مخالف للموقف الفلسفي التقليدي إنه موقف مربك للفكر فالعقل بفعل تطور المعارف
العلمية , وتأثيرها في بيئته سيغدو دينامياً فعالاً , إن فلسفة العلوم مع هذا
الفهم الدينامي لبيئة العقل التي تتعارض وتطور العلم , بل تستقبل القيم الجديدة
حتى وإن كانت مناقضة ومخالفة لتصورات فلسفية سابقة .
أما المهمة الثالثة
فهي التحليل النفسي للفلسفة الموضوعية فقد نقل باشلار هذه النظرية الى الابستمولوجيا
فأفترض أن ثمة مكبوتات عقلية لدى الباحث العلمي على الابستمولوجي أن يبحث عنها
ليظهر أثرها في البحث العلمي , على فيلسوف العلم أن يكون المحلل النفسي لعمل
الباحث , بمعنى أن عليه أفتراض جانب باطني ديناميكي في العمل العلمي يؤثر على هذا
العمل , لذا وكما أن أدراك المكبوتات والعقد النفسية من شأنه مساعدتنا على فهم
السلوك الإنساني والحياة النفسية فإن التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية سيمكننا من
فهم هذه المعرفة في تطورها أو نكوصها أو توقفها وما يسميه فرويد عقداً نفسية ,
يسميه باشلار عوائق أبستمولوجية وهو يكرس دراسة مهمة كـ" تكوين العقل العلمي
" و" التحليل النفسي للنار " لكشف هذه العوائق وتحديد الميكانزم
الذي على أساسه تتوقف المعرفة الموضوعية وتتقهقر.([30])
(6)فلسفة العلم عند
باشلار
إن فلسفة العلوم
التقليدية حسب باشلار حصرت نفسها بين الفلسفة والعلم إذ أهتم الفلاسفة بالمبادىء
العامة للفكر الشمولي , فنظرية النسبية لأينشتاين تتحول الى مجرد "نسبة
" والفرضية مجرد أشتقاق لغوي من الافتراض الضني في حين رد فلاسفة العلم
العلوم الى الواقع التجريبي .
إن الفلسفات
التقليدية في نظر باشلار استنذت ذاتها ولم يستطع الفلاسفة تجاوز العائقين
الابستمولوجيين المتمثلين في العام والمباشر , وتجاهلوا الثورات العلمية المعاصرة
وما أحدثته من تغيير في القيم الابستمولوجية على الفكر نفسه .
يدعو باشلار الى
ضرورة قيام فلسفة للعلوم أو أبستمولوجيا مهمتها تحديد الشروط الذاتية والموضوعية
في آن واحد والتي يمكن من الربط بين المبادىء العامة والنتائج الخاصة , فلسفة
بإمكانها مواكبة التقلبات المختلفة للفكر العلمي وتدرك ضرورة المزاوجة بين القبلي
والبعدي بين معطيات التجربة ومبادىء العقل فالفكر العلمي المعاصر يجمع بين
التجريبية والعقلانية ولا يمكن الفصل بينهما على طريقة الفلسفة التقليدية
فالتجريبية عند باشلار بحاجة الى أن تستند الى البرهان العقلي كما أن العقلانية
بحاجة الى التطبيق المادي فقيمة القوانين التجريبية تنبثق من قدرتها على " المعاقلة
" وبالمقابل إن ما يضفي الشرعية على أحكام العقل قابليتها للاختبار ولذلك فأن
باشلار يصر على أقامة أبستمولوجيا مزدوجة القطب, أو فلسفة للعلوم قادرة على تحريك
الفكر من زاويته التجريبية والعقلانية رغم أن باشلار يزاوج بين العقلانية
والتجريبية الا أنه يصرح بضرورة تغليب العقل على التجربة والانطلاق من المجرد الى
المحسوس , من العقلانية الى الاختبار ويستدل باشلار على هذه القطبية الابستمولوجية
بفلسفة الفيزياء المعاصرة وما حققه هذا العلم من نجاح نتيجة استخدامه الرياضيات ,
وهذه هي العقلانية المنطقية التي أراد لها باشلار أن تكون بديلاً عن الفلسفات
المثالية , عقلانية بإمكانها صياغة الواقع وإعادة تنظيمه عقلانية فيها تحل الظاهرة
المنظمة محل الظاهرة الطبيعية , فالفيزياء المعاصرة هي بناء عقلاني لأنها استطاعت
أن تزيل كثيراً من اللامعقولية من مواد بناءها .
الابستمولوجيا الباشلارية
فلسفة يراد لها أن تكون متكيفة مع التطورات الحاصلة في الفكر العلمي المتجدد
بأستمرار فلا وجود لفكر عبارة عن صفحة بيضاء يسجل فيها الواقع كما يريد , وأيضاً
لا وجود لعقل حائز بالفطرة على مقولات الفهم الأساسية فالعقل العلمي لا يتكون
الاعلى أنقاض العقل القبعلمي , بناء مثل هذا العقل يتطلب تغييراً جذرياً لجميع قيم
المعرفة.([31])
إن فلسفة المعرفة
العلمية باعتبارها فلسفة منفتحة وبكونها وعي عقل يتأسس باستمرار, عقل يبحث على
مايناقض به معارفه السابقة , عقل فيه التجارب الجديدة تقول لا للتجارب القديمة ,
وهذه ال"لا" ليست مطلقة بالنسبة لعقل يجيد تجديد مبادئه عقل أستطاع
التخلص من تأثير الوضوح الاولى .
هناك قطيعة
أبستمولوجية بين المعرفة العلمية والمعرفة الحسية , فالمعرفة العلمية تتصف
بالتعاقب التجريبي نتيجة أعتمادها على أدوات وأجهزة هي في حد ذاتها تطبيق للنظرية
العلمية فالحرارة ترى فوق ميزان الحرارة , ولكنها لاتحس ولاتلمس بينما المعرفة
العامية تشق في تقدمه لها الحواس وهذا مايشكل عائقاً أمام تقدم المعرفة.
(7)المبادئ الأساسية
للابستمولوجيا الباشلارية :
(أ)المفاهيم وحيوية
العلم :
استطاع غاستون باشلار
كأبستمولوجي أن يزاوج بين مواصفات العالم وخصائص الفيلسوف , وسجلت مؤلفاته الحوار
الذي أراد تأسيسه بين العلم والفلسفة والذي تعكسه فلسفته المفتوحة التي تحتل فيها
العقلانية المطبقة جزءاً هاماً .
إن الثورات العلمية
التي شهدها عصر باشلار والتي كان لها الاثر الواضح على فكره أدى به الى القول :
1- بوجود حقيقة ما
فوق عقلانية "عقلانية تضاعف فرض التفكير _العالم الفيزيائي يخبر بطرق جديدة و
عقل تجريبي قادر على تنظيم فوق عقلاني للوقع , العقل في عصرنا أنقسم على نفسه بجدل
داخلي "([32]).
2- قوله بفكرة تجدد
الفكر العلمي وتطوره إذ يمكن ملاحظة ذلك في الفيزياء والهندسة خصوصاً بالاضافة الى
الكيمياء , إن المعرفة العلمية ديناميكية ولذلك فالسؤال الابستمولوجي التطبيقي
يطرح نفسه , هل العلم معطى أم مبنى ؟ هل تطور المعرفة العلمية مرتبط بالتطور
الطبيعي وعلى العالم أن يبقى مجرد قارىء بارع للطبيعة ومسجلاً لما تمليه عليه ؟ إن
كانت الاجابة بالايجاب فإن باشلار لا يعترف بمعرفة يكون مصدرها التجربة المباشرة
ففلسفة باشلار تصب في الاتجاه المعرض للاطروحة الواقعية : فالطبيعة لاتمدنا بأية
معرفة يقول باشلار : " لامناص للعقل العلمي من أن يكون بمواجهة الطبيعة
المواجهة فينا وخارجنا بمواجهة الانجذاب الطبيعي والواقعة الملونة والمتنوعة
" ([33]) .
أن أبستمولوجيا
باشلار يمكن وصفها بالعقلانية لانه يقلب العقل على التجربة ويقر بوجود عالم
للافكار يختلف عن العالم الملموس الفردي فالمعرفة لاتؤسس على حقائق مفردة لكن على
هويات لان مملكة التجريد ليست مجرد أسطورة أنها نشاط توضيحي مستمر حاولت
الابستمولوجيا الباشلارية الاجابة عن حالتين رئيستين :
المسألة الاولى : كيف
يمكن التوفيق بين المفاهيم التي تمثل الهويات وبين حركة المعرفة العلمية . إن
مفهوم الهوية يعني تقليدياً القول بالفكرة المطلقة وإذا كانت تطورات المعرفة تمثل
الهويات يستنتج بأن المعرفة العلمية جامدة وهو ما يؤدي الى نفي التطور عن العلم
ولا وجود بالتالي لديناميكية في المعرفة .
المسألة الثانية :
كيف يمكن التوفيق بين الافكار والواقع .
(ب)الحقيقة والواقع :
ليميز باشلار بين
الهوية البسيطة التي تعد خاصية الفكر القبعلمي وبين الهوية المعقدة مدار
بحث الفكر العلمي المعاصر , ولذلك فيما يتعلق بالحقيقة العلمية يعيد
باشلار صياغة الاشكال الفلسفي المزمن , هل الحقيقة العلمية تقبل بالوجود
البارمنيدي المتصف بالثبات أو الوجود الهرقليطي القائم على التغير ؟
إن طريق استمرار تطور
المعرفة العلمية وتأريخ العلوم يبين لنا أنه ليست هناك حقيقة ثابتة ونهائية
الحقيقة قائمة في العلم طالما لم يتبين العكس , ويعيب باشلار على الفلسفات
التقليدية اعتقادها بمطلقية صحة النتائج العلمية فديكارت صاغ منهجه نتيجة إعجابه
بالرياضيات فالفلسفة العقلانية التقليدية منغلقة حول نفسها بينما العقلانية
العلمية منقسمة . ([34])
بالاضافة الى أن
العلم المعاصر أكد أن الحقيقة العلمية تقريبية خصوصاً حين يتعلق الامر بموضوعات
الميكروفيزياء , ولم يكن العلم الكلاسيكي يقبل بالمعرفة النسبية الاحين تعجز طرقه
في الوصول الى الحقيقة المطلقة , إن تقريبية الحقيقة في العلم المعاصر , مرده تعدد
المناهج والوسائل والنظريات وتجددها المستمر وعلى الفلاسفة أن ينظروا الى الحقيقة
الفلسفية بفلسفة مفتوحة , إن الحقيقة العلمية ليست نهائية فهي لاتعرف الحدود وكما
اعتقدت الفلسفات التقليدية , مثل قبول إفلاطون بعالم المثل الذي لايدركه العقل ,
الا إذا تخلص من أوهام الحواس أو النومين الكانطي الذي يمكن أن نفكر فيه لكن
لايمكن معرفته معرفة علمية , النومين في العلم عند باشلار أصبح مظهراً لتقدم
المعرفة العلمية , والتقدم التقني أتاح للعلماء دراسة مواضيع اعتبرت فلسفياً أشياء
في ذاتها فالحقيقة العلمية مرتبطة بتطور الوسائل والمناهج والنظريات .
كما أن الحقيقة
العلمية ليست مجرد صور تجريبية ساذجة التي يصفها باشلار بالاسمية , فالفكر العلمي
لاينشط الاحين يلغي كل الصفات الجوهرانية وهذا الرفض الباشلاري للجوهرانية هو
بالدرجة الاولى رفض للوضوح الديكارتي القائم على العلمية الاولى للتفكير والمتمثلة
في الحدس.
الفكر العلمي الجديد
يهدم هذه الفكرة برمتها فلا وجود لحدس أول , فكل حدس منطلق من اختيار علاقة من بين
المفاهيم ونتيجة لهذا التصور الجديد فقد الحدس صفة المطلق النيوتوني وكذلك
الميكانيكا الموجية للويس دي بروي أوضحه أن الحقيقة العلمية وأن طبيعته تركيبية
وليست تحليلية مثل ديكارت التي ترد دائماً المعقد الى البسيط وبذلك تفقد خاصيتها
التركيبية , إن وضوح الحقيقة العلمية متأتي من التركيب الذي هو صفة العلم المعاصر
, مثل التركيب الحاصل بين الهندسة والفيزياء والكهرباء حين حصل الانقلاب للعملية
فالبسيط يعرف بالمعقد يرى باشلار إن الواقع الذي يدرسه العلم المعاصر واقع يتصف
بالاصطناع فالواقع في الفيزياء المعاصرة ليست واقعاً معطى عن طريق التجربة
المباشرة كما أعتقد التجريبيون ولا هو واقع من إنتاج ذات عارفة تعمل وفق مبادىء
جاهزة قبلية كما ذهب إليه المثاليون .
أن الواقع الباشلاري
فناء علمي عقلاني يعتمد في بنائه على تقنيات هي نفسها تطبيق للنظريات العلمية وعلى
هذا الاساس يوصف الواقع بصفة مزدوجة : مجرد ومحسوس في آن واحد , فهو عبارة عن
نظرية علمية تقوم على مفاهيم تعبر عن هويات " شيء في ذاته " صالحة
للتطبيق مثل المصباح الكهربائي , الواقع العلمي ليس معطى من معطيات التجربة
المباشرة فالقضية العلمية لاتكتفي بوصف ماهو جاهز والاقتصار في التفكير على
ماتقدمه الحواس , بل تتعداه للتفكير في أمكانات أخرى للواقع لاواقعية , وهنا
باشلار يتوجه بنقده الى النزعة الوصفية " التي ترى ضرورة تحلي جميع المفاهيم
المستخدمة في العلم بمدلول تجريبي وأختباري مباشر"([35]).
(ج)الجهات
الابستمولوجية :
تسأل باشلار في كتابه
" العقلانية التطبيقية " عن أمكانية الحديث عن المعرفة العلمية من خلال
تعيين جهات للتنظيم العقلاني أو مايطلق عليه العقلانية الاقليمية , وبالتالي تغدو
الابستمولوجيا الجهوية دعوة باشلارية لضرورة الفصل بين مختلف النظريات داخل علم
خاص , هذا من جهة ومن جهة ثانية فلفهم المعرفة العلمية المعاصرة يجب التعامل مع كل
علم بشكل مستقل عن الآخر , إذ لا يمكن الحديث على العلم كوحدة كلية والنظر الى
المعرفة العلمية بطريقة شمولية على غرار الفلسفة التقليدية وتنبأ باشلار أن هذه
الدعوة لكلمة المعرفة الموضوعية تلاقي أمتعاضاً وأعتراضاً من قبل التقليد الفلسفي
للعقلانية المولعة بالوحدة الكلية.([36])
وعلى الرغم ذلك يرى
باشلار أن الفصل بين المعارف العلمية لايفيد علمياً فحسب بل فلسفياً أيضاً , إن
الابستمولوجيا المعاصرة تسعى إلى إيجاد الأسس الخاصة بكل علم مثل انشغال علماء
الرياضيات داخل أقليم الرياضيات بمسألة الاسس لذا فإن مهمة الابستمولوجيا الجهوية
تتمثل في وضع الاسس لكل علم خاص مثل العلم الفيزيائي والعلم الكهربائي يقول باشلار
" إن مسألة وضع الاساس _من قبل عقلانية إقليمية لعلم خاص تصح مسألة فلسفية
محددة " ([37]).
إن التجربة في العلم
المعاصر تحدث عملية مركبة وبالتالي فإن التوضيح البناء العقلاني للمعرفة العلمية
لابد أن يكون عبر المجالات المختلفة للتجربة , أن المفهوم المجرد في التجربة
المباشرة لم يعد له مكان في العلم , ومثل هذا المفهوم لايمكن أن يبنى عن قيمة
موضوعية فالموضوعية أو اليقينية العلمية لا تؤسس الا أنطلاقاً من جملة مفاهيم
متكاملة فيما بينها بعلاقات وظيفية فالفكر العلمي هو تنظيم لقلانية علائقية فكلما
تعددت العلاقات بين المفاهيم كلما زاد الفكر العلمي توسعاً وامتداداً " إن
تعدد العلاقات يضاعف البداهة بصورة من الصور لأن هذا التعدد هو البداهة من وجهات
نظر مختلفة "([38]). فكل علم ولكل نظرية علمية ضبطها الخاص لتصوراتها يرى
باشلار أن العقلانية التطبيقية تتميز في قدرتها على التوسع فلذلك لابد من العناية
بالقطاعات الخاصة للتجربة العلمية والبحث عن الشروط التي تجعل هذه القطاعات مستقلة
وتتمتع بخاصية ممارسة النقد الداخلي على التجارب القديمة والجديدة , وعليه فأن
العقلانية التطبيقية ترفض الطرح التجريبي الذي يعتبر أن التطور العلمي مستمد من
التجربة الحسية وبعيد عن كل تدخل عقلي , كما ترفض الزعم الافلاطوني الذي ينص على
أن حقيقة الواقع من إدراك العقل , إن العقلانية الباشلارية ترى أن التطور يقوى إذا
ماطبق , وأن هذا التطبيق ليس مجرد عودة للتجربة الاولى فالفكرة ليس مصدرها الحدس
الحسي بل تتمتع بمستوى من المعرفة السبقية أنها أفتراض عقلاني "ليست الفكرة
ملخصاً , بل هي بالاحرى برنامج "([39]) .
(8)معنى التكاملية
عند باشلار :
يتمسك باشلار
بالعقلانية الى جانب الواقع والتجربة باعتبار أن " العقل والتجربة "
يكمل كل منها الاخر , وربما كان هذا الاتجاه قد تبناه باشلار من جراء التقدم
العلمي الذي حدث في مجال الميكروفيزياء فلقد اكتشف العلماء أن الاضداد لا تتصارع
في المستوى الميكروفيزيائي لتنتهي الى تركيب بل إنها "تتكامل " هذه هي
الحقيقة الديالكتيكية التي أكتشفها باشلار وأقام كتابه "فلسفة النفي "
أو " فلسفة الا" على أساسها .
وهنا يكمن الاختلاف
الجوهري بين ماركس وباشلار فالديالكتيك الماركسي حينما طبق الجدل وقوانينه على
المادة أو الطبيعة فإنه نفرض أن " الضد " يصارع " الضد " ولكن
مصيرهما الى الوحدة التركيبية وليس التكاملية , بينما أن الديالكتيك الماركسي
ديالكتيك مغلق فأن فلسفة النفي هي فلسفة مفتوحة " ذلك لان الكشوف العلمية
المعاصرة خاصة في مجال الميكروفيزياء بينت أن الأضداد تتصارع لتتكامل فيما بينها
وأنها تفرض نفسها كحقائق يجب الاعتراف بها على الرغم من تناقضها لان كل منها يعكس
جانباً من الحقيقة إن الابستمولوجيا التكاملية عند باشلار تقوم على ديالكتيك علمي
أو هي أبستمولوجيا مؤسسة على العلم الحديث وهي تسلم بأن كل حقيقة محملة , وأن كل
فكرة هي دوماً في حالة صيرورة وأن قضية علمية مهما كانت تقبل "المراجعة
" وبناءاً عليه , فإن أولى خطوات الديالكتيك الباشلاري هو تطهير المعرفة من
أية فكرة مسبقة , وهذا يعني أن الفكر ينبغي أن يظل دائماً في حالة تقبل أي أن يظل
مستعداً لتقبل أية أفكار جديدة حتى لو كانت تتناقض مع الافكار المسلم بها أصلاً
وهنا يلعب مبدأ " القابلية للمراجعة " دوراً أساسياً في أبستمولوجيا
باشلار العلمية , ومبدأ القابلية للمراجعة يحث العالم على أن يظل في حالة استعداد
دائم لمراجعة مبادئه وأفكاره باعتبار أنه ليس هناك حقيقة مطلقة أو قانون علمي مطلق
. ([40])
من أجل هذا كله كان
من غير الممكن الفصل في المعرفة بين ماهو تجريبي وما هو عقلي عند باشلار ,
فالمعرفة بطبيعتها تجريبية وتأملية معاً , ففي كل معرفة عقلية راسب من التجربة وفي
كل معرفة تجريبية بعض المبادىء والافكار العقلية .
" ويعتقد باشلار
أن العقل قادر أن يقوم أنطلاقاً من التجربة بصياغة منظومة للمعرفة يتحقق فيها
الانسجام تدريجياً بفضل التقدم العلمي والمراجعة الدائمة التي يفرضها العلم على
العلماء , فالعلم يغذي العقل وعلى هذا الاخير أن يخضع للعلم الذي يتطور بأستمرار
". ([41])
(9)الابستمولوجيا
اللاديكارتية :
إن أهم مايميز عصر
ديكارت (1596 _1650 )العناية بمسألة المنهج أو الطرقة الواجب إتباعها لبلوغ
المعرفة الحقة , ففي سنة 1650 ظهر كتاب الاورغانون الجديد لفرانسس بيكن (1561
_1662 )وبعد عشر سنوات نشر ديكارت كتابه " مقالة في المنهج " لتوجيه
العقل والباحثين الى الحقيقة في العلم , وقد أرجع ديكارت سبب تأخر العلم في عصره
الى عدم اتباعه منهجاً واضحاً يقول ديكارت " الناس مسوقون برغبة في الاستطلاع
عمياء حتى أنهم يوجهون أذهانهم في طرق مجهولة "([42]).
وحين يعرف ديكارت
المنهج يقول " أنا أعني بالمنهج قواعد مؤكدة بسيطة إذا راعاها الانسان مراعاة
دقيقة استطاع الانسان أن يصل بذهنه الى اليقين " . ([43])
إذن النهج هو الموجه
الصادق للعقل إذ يعتمد فيه على طريقتين في التفكير هما " الحدس والاستنباط
" ويقصد ديكارت بالحدس الفكرة المتينة التي تقوم في ذهن خالص منتبه وتصدر عن
نور العقل وحده , أما الاستنباط فيعبر عنه بأنه فعل ذهني بواسطته نستخلص من شيء
لنا به معرفة يقينية نتائج تلزم منها . ([44])
هاتان الطريقتان في
التفكير يحدد بهما قواعد منهجه والتي أهمها قواعد الوضوح والبداهة القائلة "
أني لاأتلقى على الاطلاق شيئاً على أنه حق مالم أتبين البداهة أنه كذلك وأن لاأدخل
في أحكامي الاما يتمثل لعقلي في وضوح وتميز يزول معها كل شيء . ([45])
رفض باشلار العقل
الشمولي والمنهج الاحادي الصالح لكل علم ففي الفكر العلمي المعاصر , لا وجود لهذه
الاحادية فلكل علم منهجه الخاص به ومفاهيمه الخاصة التي تتناسب مع المرحلة التي هو
عليها هذا العلم أو ذاك,أن الفكر العلمي لا يتطور الا بقدرته على أبداع وابتكار
المناهج والنظريات الخاصة به , ومنه فالمناهج مؤقتة وليست دائمة ولا وجود لمنهج
صالح لكل علم وفي كل زمان فكل تجربة جديدة كفيلة بتفسير الفكر العلمي برمته "
كل مقالة في الطريقة العلمية ستكون دائماً مقالة طرف ولكن بالبنية النهائية "
. ([46])
وينصح باشلار ان على
الذي أراد مسايرة تطور المعرفة العلمية المعاصرة أن يتخلى عن عاداته الفكرية
والمتمثلة في التقيد بمنهج واحد محدد , فلا حقيقة واضحة بذاتها , فكل شيء يحتاج
الى توضيح , ويستعير باشلار عبارة " بريل " "تبقى الحقيقة التي
نبرهن عليها مستندة دائماً لاالى بداهتها الخاصة بل الى برهانها ".([47])
فالوضوح العقلي في
حاجة الى تأكيد تجريبي , فالطريق الى الحقيقة العلمية هي مجموعة التجارب العلمية
الدقبقة والمعقدة التي تعتمد على تقنيات ومسائل مادية وتستند على نظرية مركبة ,
ولا يمكن لحقيقة ما أن تصبح يقيناً بمجرد كونها صادرة عن يقين أول , إن الفكر
العلمي المعاصر عنا فيه البسيط في المعقد وليس وفق الطريقة الارجاعية الديكارتية
التي يرد فيها المعقد الى البسيط ولا يمكن فهم الظاهرة العلمية عن طريق تحليل مكوناتها
وردها الى مفاهيم بسيطة , فالمفاهيم العلمية اليوم هي جملة من العلاقات المتبادلة
, حتى في مجال الرياضيات لم تعد البديهية فكرة واضحة بذاتها لا تحتاج الى برهان بل
غدت بعد ظهور الهندسات اللاأقليدية مجرد مسلمة صلاحيتها مرتبطة بالنسق الذي تنتمي
إليه فلاشيء بسيط وكل شيء يحتاج الى تبسيط , هذا التحول الابستمولوجي يجب أن يقدر
حق قدره , فأهم ميزة في الفكر العلمي المعاصر هي خاصية التعقيد إذ استبدلت الظاهرة
الواقعية المباشرة بظاهرة مفترضة معدة تقنياً "الفينومينوتقنية
" .
(10)المنطق اللاأرسطي
:
يرى باشلار أن الروح
العلمية الجديدة تتطلب منطقاً خاصاً لاأرسطياً يكون بديلاً عن المنطق التقليدي
القائم على المبادىء المطلقة الذي لا يهتم بمحتويات المعرفة , فهو يعالج صورة
الفكر دون مضمونه " الموضوع " فمبدأ الهوية "الشيء هو "
يتكافىء مع مفاهيم فيزياء نيوتن التوقعة بدورها في المكان الاقليدي المطلق
وبالتالي فإن الموضوع الكلاسيكي حافظ على خواصه الجوهرية ولكن حين أصبحت المعرفة
أكثر تجريداً فقد الموضوع هذه الخاصية فموضوع العلم المعاصر يتموضع بهندسة
لاأقليدية وبمفاهيم لانيوتونية ووفق منطق لاأرسطي فهايزنبرغ يرفض الفصل بين
المواصفات المكانية والمطلقة في الفكر العلمي المعاصر أصبحت للمنطق اللاأرسطي قيمة
نسبية تتعلق بموضوعات الفكر القبعلمي , إن المناطق انبثقت مع نفس إيقاع اكتشاف
النظريات العلمية المعاصرة والتي تجاوزت سابقتها دون إلغائها نتيجة جدلية المفاهيم
والمصادرات الإنسانية وهذه الجدلية هي التي أدت الى ظهور مناطق جديدة فكل نظرية
علمية منطقها الخاص .
يبدو تأثر باشلار
واضحاً بمقال أوليفر ريزر " المنطق اللاأرسطي وأزمة العلم "الذي أصدره
عام 1937 بين فيه أن مبدأ الهوية الارسطي فقد أهميته لأن الموضوع العلمي يمكن أن
يتحقق بخصائص اختبارية متعاكسة فلوي دي بروي أعتبر الالكترون جسم والالكترون موجة
فالموضوع واحد لكن المحمول مختلف هذا التناقض الأولى ناتج على أن الفكر الواقعي
ينطلق من الشيء " الجوهر " الى صفاته " محمولاته " يقول ريزر
في حين أن الاختبار في الميكروفيزياء ينطلق من محمولات المحمولات , من المحمولات
" البعيدة "وماأستنتجه ريزر في مقاله أنه ما دامت هناك ثلاثية حكمت
العلم التقليدي " منطق أرسطي _هندسة أقليدية _ فيزياء نيوتوني " فلابد
أن تكتمل ثلاثية العلم المعاصر بظهور منطق جديد لاأرسطي وهندسة لاأقليدية وفيزياء
لانيوتونية " أذن لم يعد ممكنناً للمنطق المعمم أن يظهر وكأنه وصف جامد
للموضوع على إطلاقه فلم يعد بمستطاع المنطق أن يكون شيئاً بل يتوجب عليه أن يعاود
دمج الاشياء في حركة الظاهرة " . ([48])
إن العلم المعاصر
يهتم بمعرفة الظواهر العلمية وليس بمعرفة الاشياء , ونظراً للخاصية التركيبية
للعلم المعاصر المتمثلة في تعدد النظريات العلمية يلح باشلار على ضرورة تعدد المنطق
أي ظهور مناطق تتناسب مع تعدد النظريات فالمنطق الارسطي فقد قيمته الكلية فلابد من
قيام منطق لاأرسطي يضاف الى الفيزياء اللانيوتونية والهندسة اللاأقليدية, يرى
باشلار هذا المنظور الريزري أهتمام العلماء يتماشى مع فيزياء هايزنبرغ
"رياضيات شرودنجر كما نوه باشلار بكتاب كورنسكي بعنوان " العلم والصحة :
مدخل للنظام اللاأرسطي " الذي اعتبر فيه أن الطفل يولد بجملة عصبية غير
مكتملة ومهمة التربية هي إكمال دماغ الطفل بوصفه جهازاً متفتحاً .
(11)التحليل النفسي
للمعرفة الموضوعية :
إن الابستمولوجيا
يمكن أن تستفيد في نظر باشلار من التحليل النفسي من أجل بلوغ أهدافها من تحليل
المعرفة العلمية , إن أحد المهام الاساسية التي يعين باشلار للابستمولوجيا أمر
القيام بها هي القيام بتحليل نفسي للمعرفة الموضوعية ويخصص باشلار واحداً من أهم
كتبه للبحث في هذه المسألة هو كتابه :
" تكوين العقل العلمي
: مساهمة في التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية " .
فما هي الصورة التي
يرى عليها باشلار علاقة الابستمولوجيا بالتحليل النفسي وماهي المفاهيم الاساسية
التي يمكن للتحليل الابستمولوجي أن يستفيدها من التحليل النفسي لكي يستخدمها ضمن
تحليله للمعرفة العلمية ؟
معروف أن التحليل
النفسي يستند الى مقولة الا وهي " اللاشعور " ويعرف باشلار
الابستمولوجيا من هذه الناحية بكونها التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية أي العلمية
, ومن الملاحظ أن ماأخذه باشلار عن التحليل النفسي أساساً فرض اللاشعور , فباشلار
يأخذ هذه الفرضية وينقل مجال تطبيقها من الحياة النفسية للشخصية الإنسانية الى
مجال العمل العلمي , فالعمل العلمي في نظر باشلار جانب مهم لايكون موضوعي مثلما أن
للحياة النفسية جانبها اللاشعوري والكبت في مجال المعرفة العلمية مثلما هو في مجال
الحياة النفسية لايعني أمضاءاً تاماً للمكبوت وأحالتها الى عناصر ساكنة منعدمة
التأثير فيهدف التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية " العلمية " الى الكشف
عن المكبوت العقلية ليبحث عن مدى أثرها على العمل العلمي وكما أن التحليل النفسي
يفترض أن اللاشعور ليس غريباً عن ميكانزم الحياة النفسية بل هو منبثق عنه فيجعل من
الحياة النفسية بذلك هي المصدر لما يمثل مظاهر أزمتها ونكوصها فإن باشلار يفترض أن
العمل العلمي هو الذي يخلق بذاته وبذاته مايمثل مظاهر تعطله , أو توقفه أو نكوصه ,
إن المكبوتات العقلية هي مايدعوه باشلار بالعوائق الابستمولوجية وليست هذه
المكبوتات شيئاً يرد على العمل العلمي من خارجه بل هي منبثقة عنه . ([49])
ينطلق باشلار من
الاعتقاد بأن المعرفة العلمية عملية تجري ضمن شروط نفسية ويؤكد نتيجة لذلك أن
التفكير في هذه الشروط يمكننا أن نضع مشكلة المعرفة العلمية في صيغة عوائق.
يقول باشلار في هذا
الصدد " عندما نبحث في الشروط النفسية لتقدم العلم فسرعان ما نصل الى
الاعتقاد بأنه ينبغي وضع مشكلة المعرفة العلمية في صيغة عوائق أو عقبات ولا يتعلق
الامر هنا عقبات خارجية كتعقد الظواهر وزوالها , ولا بالطعن في ضعف الحواس والفكر
الإنسانيين .
ففي فعل المعرفة ذاته
تبرز الاضطرابات بنوع من الضرورة الوظيفية وبذلك نتبين أسباب الجمود والركود بل
والنكوص وهنالك سينكشف عن علل السكون التي سندعوها عوائق أبستمولوجية .([50])
إن العوائق
الابستمولوجية هي إذن صيغة للتعبير عن مشكلة المعرفة العلمية في حالات معينة لها ,
هي حالات توقفها أو تعطلها أو نكوصها ولكن العوائق الابستمولوجية ليست مع ذلك صيغة
خارجية أنها منبثقة من صميم المعرفة العلمية وحتى تظل دائماً في مجال المقارنة بين
التحليل النفسي العام والتحليل النفسي في مجال الابستمولوجيا فإننا نقول "
كما أن الكبت يعتبر في مجال الحياة النفسية ضرورة لا غنى عنها للذات من أجل تكيفها
مع الواقع فإن إنتاج العوائق الابستمولوجية يعتبر بالنسبة للعمل العلمي نوعاً من
ضرورة وظيفية أي أن العوائق الابستمولوجية ناتجة عن صيرورة العمل العلمي ذاته وهذا
معناه بوضوح أنه لا يمكن أن يكون هناك عمل علمي دون أن تكون هناك عوائق أبستمولوجية
.
في محاولة باشلار
القيام بتحليل نفسي للمعرفة العلمية فهو يتجه الى الملاحظ العلمي للبحث عن
المكبوتات العقلية التي تلعب دور العائق الابستمولوجي والمكبوت العقلي هنا هو
المفاهيم العامة الشائعة واللغة المعتادة , ولكن المكبوت العقلي في ديناميته يحاول
الا يظهر من حيث هو كذلك , فهو يتخذ لبلوغ هدفه طريق التداخل مع المعرفة العلمية
واللغة العلمية فمن خلال هذا النفاذ تستطيع المعرفة العامة واللغة العامة أن تظهر
بمظهر العلمية وأن تعوقا بلوغ النتائج الموضوعية والصياغة الدقيقة لهذه النتائج .
(12)مفهوم القطيعة
الابستمولوجية عند باشلار :
إننا هنا بأزاء مشكلة
أبستمولوجية تور حول الصلة بين الابستمولوجيا وتأريخ العلم وهل هذه الصلة متصلة أم
منفصلة وبالتالي هل المفاهيم العلمية في تطور " متصل " أو تطور "
منقطع " . إن قضية القطيعة أو الاستمرارية في المعرفة هي مسألة حيوية أصبحت
تفرض نفسها الان من واقع أهميتها في أية دراسة عن " الابستمولوجيا المعاصرة
" وأن مفهوم " القطيعة الابستمولوجية " أو الانفصال هو المفهوم
السائد الان بل والمسيطر على كثير من العلماء وجاء التيار البنيوي وعلى رأسه ميشيل
فوكو فأعطاه أهمية متزايدة .
إن وجهة نظر أصحاب
القطيعة الابستمولوجية تتلخص في أن تطور المعرفة العلمية لا يستند دوماً على
المفاهيم نفسها التي تحملها التطورات العلمية في عصر من العصور أو في فترة من
فترات تطور العلم بل إنه تطور يستند على أعادة بناء المفاهيم والتطورات والنظريات
العلمية , وإعادة تعريفها وإعطائها مظموناً جديداً . ([51])
وليس المقصود
بالقطيعة الابستمولوجية ظهور مفاهيم أو نظريات وإشكاليات جديدة وحسب بل أنها تعني
أكثر من ذلك أنه لا يمكن أن نجد أي ترابط أو أتصال بين القديم والجديد, أن ماقبل
ومابعد يشكلان عالمين من الافكار كل منهما غريب عن الاخر .
ولما كانت القطيعة
الابستمولوجية بهذا المعنى خاصية نوعية لتطور العلوم , أي لما كان ماقبل القطيعة
ومابعدها يختلفان جذرياً أحدهما عن الآخر فأن تأريخ العلوم يصبح حينئذ عبارة عن
سلسلة من " الحقائق " أو " الاخطاء " المتعاقبة " , أو
كما قال باشلار " أن تأريخ العلم هو أخطاء العلم " وبعبارة أخرى "
إن تأريخ العلم هو تأريخ ما يعارضه العلم " ([52]) .
لاشك أن جاليلو هو
أول من قطع الصلة بالفكر القديم وتخلى عن مفاهيمه وأسسه وأساليبه بادئاً طريقة
جديدة من البحث العلمي تقوم على نظرة جديدة للطبيعة كما يعتبر جاليلو من رواد
المنهج التجريبي واستخدام الرياضة في الفيزياء , فلقد أدرك جاليلو أهمية تطبيق
الرياضيات في البحوث العلمية , وجعل من الرياضة المحور الرئيسي الذي يصاغ القانون
الطبيعي وفقاً لها أي أنه يعبر عن القانون الطبيعي في صيغة رياضية .
وعند التساؤل عن الذي
يعنيه مفهوم العائق الابستمولوجي لدى باشلار والاجابة هي كل ما يبقي الفكر سجيناً
لتصورات المعرفة العامة ويمنعه بالتالي من بلوغ معرفة موضوعية بالظواهر التي
ندرسها , هذا التداخل بين المعرفة العلمية والمعرفة العامة هو أذن المصدر الأول
للعائق الابستمولوجي , وهذا التداخل بين المعرفة العلمية والمعرفة العامة , ويبدو
العائق الابستمولوجي عند باشلار في معارضته بين العلم والرأي يرى باشلار بهذا
الصدد أن العلم العارض الرأي بصفة مطلقة وأنه أن حدث في قضية معينة أن أعترف العلم
بمشروعية الرأي فأن ذلك يكون لأسباب أخرى غير التي تأسس عليها الرأي , فالرأي
خاطىء دائماً انه يفكر بصورة سيئة بل لاي فكر أبداً أنه يترجم الحاجات الى معارف ,
وهو إذ ينظر الى الموضوع من زاوية المنفعة يمنع نفسه من معرفته لذلك كان الرأي أول
عائق أبستمولوجي ينبغي تجاوزه في نظر باشلار .
ولا يتم تجاوز هذا
العائق الاول الابعقلنة التجربة الاولى فهذا هو السبيل الذي سيوصلنا الى فهم أكثر
تجريداً للواقع , أما أن يهيمن علينا الرأي الشائع العام أثناء البحث , فهذا معناه
إننا لم نتوصل بعد الى وضع المشكلة المدروسة في صيغة علمية , فالوضع العلمي لمشكلة
ما لايكون بالبقاء في المعرفة العامة , بل بالخروج من حدودها لأن المعرفة العلمية
تنافس كما بين باشلار ذلك كأستمرارية للمعرفة العامة بل كهدم لها , هذه إذن هي
الصورة الاولى للعائق الابستمولوجي تداخل بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية ,
أما بصدد العائق الابستمولوجي الثاني يمكن القول أنه يوجد على مستوى التعبير عن
النتائج التي يتم بلوغها .
نجد أن التداخل بين
المعرفة العامة والمعرفة العلمية يعوق مرة أخرى قيام مثل هذه الصياغة الدقيقة ,
فكما أن هناك على مستوى الفهم تداخلاً بين المفاهيم العلمية والمفاهيم العامة ,
فإن هناك على مستوى التعبير تداخلاً آخر مرتبطاً بسابقه بين اللغة العلمية واللغة
العامة , وعندما يتحدث باشلار عن القوانين الابستمولوجية إنما يقصد تلك العوائق
التي تعوق قيام المعرفة العلمية الموضوعية وبين باشلار أن العوائق الابستمولوجية
ضرورة وظيفية لسير المعرفة العلمية .
(أ)مفهوم العائق الابستمولوجي
" المعرفي " عند باشلار :
من خلال كتابات
باشلار يمكن أن نعرف العائق بأنه عنصر أو جملة عناصر تمنع الفكر العلمي من التطور
أو تؤخر العلم عن النشاط , وتعبر فترات الركود أو النكوص التي يعيشها العلم على
وجود عوائق أبستمولوجية مرتبطة بالشروط النفسية للمعرفة في حد ذاتها وليست خارجية
: " عندما نبحث عن الشروط النفسانية لتقدم العلم سرعان ما نتوصل الى هذا
الاقتناع بأنه ينبغي طرح مسألة المعرفة العلمية بعبارات العقبات وليس باعتبار
عقبات خارجية مثل تركيب الظواهر وزوالها , ولا أدانة ضعف الحواس والعقل البشري ففي
صميم فعل المعرفة بالذات تظهر التباطؤات والاضطرابات بنوع من الضرورة الوظيفية
" ([53])
إن العائق المعرفي
يتعلق بالذات العارفة وعلاقتها بموضوع المعرفة , إن الذات أسقطت عن الواقع أحكامها
المسبقة والذاتية بطريقة لاشعورية وعليه فالعائق الابستمولوجي من طبيعة نفسه أن
مفهوم العائق يدل على فاصل بين مرحلتين مرحلة الجمود ومرحلة الانطلاقة حين يتم
الكشف فيها عن هذه العوائق وهنا باشلار يعارض فكرة الانطلاق من الصفر أو حاول
معرفة صورية للواقع منذ أول وهلة " إن الانطلاق من الصفر لتأسيس العقل
وتطويره لايمكنها أن تصدر الا عن ثقافات ذات تركيب بسيط إذ إن واقعة معروفة تكون
ثروة على الفور ". ([54])
العوائق
الابستمولوجية تتصف بالتأريخانية فهي متجددة باستمرار وتحاول أن تتعصرن
"العاصرة " ومع الفكر العلمي ولذلك وجب على الفكر العلمي أن يكون يقظاً
مدركاً يحيل القيم السلبية والايجابية عليه أن يخرج القيم السلبية الميتافيزيقية
في المعرفة العلمية والابقاء على القيم التي تواضعت مع التطورات العلمية .
إن باشلار يفهم
العوائق الابستمولوجية بجدليته العقلانية فالعائق لايقوم بوظيفة سلبية دائماً بل
قد تؤدي أدواراً ايجابية في تقدم المعرفة العلمية , ومنه فلا يمكن الحديث عن تطور
للفكر العلمي بدون وجود العوائق , ولذلك نعود لقول باشلار " ففي صميم فعل
المعرفة بالذات تظهر التباطؤات والاضطرابات بنوع من الضرورة الوظيفية "
. ([55])
في كتابه "
تكوين العقل العلمي " تحدث باشلار عن أبرز العوائق التي حالت الفكر العلمي عن
التطور منها :
(1)عائق التجربة
الاولى :
المعرفة العامية
تعتمد على التجربة الحسية وبالتالي فإن الواقع المباشر لايقود الى معرفة علمية
والموضوع المباشر الذي تقدمه الحواس يلغي دور العقل في التفكير والنقد ويفرض عليه
التصديق الكلي بكل ماتقدمه الحواس , ولذلك فأن التجربة الأولى العائق الأكبر أمام
تطور المعرفة العلمية , إن أطروحة باشلار تتمثل في القضاء على مقاومة أغراء الصور
الحسية .
في الفكر القبعلمي
سيطرت الطبيعة على الانسان إذ وقف عاجزاً أمامها , ويذكر باشلار في ظاهرة الرعد
مثلما كان يذهب جميع الناس فغوتة (1749 _1832 ) في قضية we
werlher بين كيف أن الرعد بإمكانه أن
يفسد حفلاً موسيقياً . ([56])
إن الاحتكاك المباشر
بالموضوع فتح المجال أمام الذات لتعيش فترة الاحلام والتخيلات التمثيلية مثل
الكواكب المذكرة والؤنثة والمعادن الخيرة والاخرى الشريرة " إن التجربة
الاولى لاتقدم الصورة الصحيحة للظواهر ولاحتى وصف الظواهر المنتظمة بدقة
" ([57])
إن التجربة الحسية
عائق أبستمولوجي من الصعب أخضاعه للتحليل النفساني والوثائق المجمعة للمرحلة
القبعلمية تطغى عليها الاراء الذاتية وتكاد تخلو من العلم .
(2)عائق المعرفة
العامة :
التعميم عقيدة سيطرت
على الفكر البشري لمدة طويلة من الزمن في أبان أرسطو (384 ق.م _322 ق,م ) الى أيام
روجر بيكون (1214 _1294 )ويرجع باشلار السبب في ذلك الى محاولة الفلاسفة
التقليديين تكييف نتائج العلم لما يناسب مذهبهم الفلسفي يقول باشلار "للفلسفة
علم خاص بها وحدها هو علم العمومية " ([58]).
إن التحليل النفساني
للمعرفة الموضوعية يكشف عن المتعة الفكرية السيئة المتولدة عن التعميم البسيط
البديع فالفلاسفة مثلاً يقدمون تعميم أرسطو القائل " الاجسام الثقيلة تسقط
والخفيفة تصعد بطريقة أكثر توسعاً جميع الاجسام تسقط بدون أستثناء " ([59]) أن مثل هذه التعميمات أن كانت فاعلة في المرحلة
القبعلمية فإنها اليوم لم تعد صالحة ؛لان مثل هذه التعميمات قائمة على أسس لقوله
فقط وليست عقلانية فيكفي تحديد فعل " سقط " لفهم القانون الارسطي وأسم
" الحياة " لادراك أن كل الكائنات الحية تموت وهكذا وفي المرحلة العلمية
يصبح القانون الارسطي أدق بفضل جهود " نيوتن " ومبرهن عليه عقلانياً
" في الفراغ تسقط الاجسام بنفس السرعة "([60])
إن التعميم النيوتوني
كذلك يعتبر عائقاً على الرغم وضوحه عن طريق تجربة صحيحة , الاأنه تعميم جمد الفكر
وأعاق تقدمه, فمفهوم السرعة النيوتوني لم يترك المجال لمفهوم التسارع .
(3)العائق اللفظي :
الفكر القبعلمي لا
يميز بين المفهوم واللفظ ولا يميز بين الكلمة التي تصلح للتفكير والكلمة التي تضرب
في نفس العصر من عصور المرحلة القبعلمية وتحت نفس اللفظ نجد مفاهيم شديدة التباين
, ونفس اللفظ يصف الظاهرة ونفس اللفظ يشرحها والتعيين يكون نفسه لكن الشرح مختلف
مثلاً لفظ " الهاتف " يعبر عن تصورات مختلفة عند الزبون لكن بالنسبة
للهاتفي والمهندس والرياضي فأن الهاتف مفهوم مرتبط بمعادلات الفروق للتيار
الهاتفي([61]).
في الفكر القبعلمي
يشكل كلمة واحدة قاعدة للتفسير الشامل وعليه تعتبر العادات اللفظية عوائقاً
أبستمولوجية على الفكر العلمي تجاوزها ويتخذ باشلار من لفظة الاسفنجة مثالاً عن
هذا العائق فهذه الكلمة أعتمد عليها في تفسير الكثير من الظواهر إذ إعتبر الهواء
كالقطن أو الاسفنج بل أسفنجياً أكثر من أي جسم آخر على اعتبار أن كل الاجسام
أسفنجية نتيجة لما يتميز به الاسفنج من خاصيتي التشرب والقابلية للتشكل , فالثقال
تضغط على الهواء وينفذ فيه الماء كما فسرت المادة والزجاج وغيرها بهذا التفكير
الاسفنجي .
(4)عائق المعرفة
الموحدة النفعية :
الفكر القبعلمي فكر
موحد , فجميع الموجودات أرجعت الى مبدأ واحد وجميع الموضوعات تفسر بالاعتماد على
النظم الوحيد الذي يحكم الطبيعة وجميع التجارب تؤكد هذا النظام وبالتالي أهملت
التجارب التي تناقضه مثل هذا التفكير إلحاق تقدم الفكر العلمي " بالنسبة
للفكر القبعلمي تعتبر الوحدة مبدأً منشوراً أو متحققاً بأهون السبل "([62]).
(5)العائق الاحيائي
البيولوجي :
في الحديث عن العائق
الاحيائي أكتفى باشلار بالحديث عن الظواهر الاحيائية التي كذبتها المعرفة العلمية
فالحياة سمة الفكر القبعلمي والحياة تفسر على أساس جواهر الاشياء . تتشكل الطبيعة
من ثلاثة عوالم الحيوان والنبات والجماد , احتلت مملكتي الحيوان والنبات مكانة أرفع
من المادة الجامدة , فالمادة الحسية في المعرفة الساذجة أبسط وأوضح من المادة
الجامدة , وهذه النظرة ناقضها الفكر العلمي المعاصر ففي البيولوجيا يواجه الباحث
عوائق أبستمولوجية أكثر من التي يواجهها دارس المادة الجامدة , النزعة الاحيائية
سيطرت حتى على العقول الجيدة الصنع ولم يسلم من هذا العائق حتى لافوازييه وكلود
برنار وأوجست كونت .
(6)العائق الجوهراني
:
الموضوع في الفكر
القبعلمي جوهر ثابت لا يتغير تحمل عليه الصفات الاساسية والثانوية السطحية
والعميقة , تعد الخصائص الاساسية قوائم الجواهر مهما تغيرت الاعراض مثل هذا
التفكير تؤكده التجارب المباشرة .
إن الجواهر كنموذج
تفسيري عائق متعدد الوجوه الاوجه تقف حائلاً أمام الثقافة العلمية , إن التلاعب
بالالفاظ في تسمية الظواهر يرضي الفكر الساذج بسهولة ولفظ " عمق"
الجواهر من منظور أبستمولوجي معاصر لايعبر عن العمق فعلاً , بل العكس هو الصحيح
فالمعرفة العامة سطحية وليست عميقة " يظل الشعور العميق شعوراً سطحياً "
.([63])
بل إنه يعبر عن عمق
لاشعوري للذات العارفة , أن " القشرة " الشكل صفة غير أساسية في
الموجودات مثل البرتقال والبيض والخشب والاهمية تعطى للمضمون الصرف الانغلاق خاصية
الفكر القبعلمي وللمحافظة على الاشياء لابد من إحكام غلقها " تغليفها "
حتى الحصى يكون أكثر صلابة من الداخل أكثر من الخارج " القشرة " فالجوهر
هو الباطن وما هو مغلق يحتاج الى مفتاح وبالتالي لفظ "مفتاح " يأخذ معنى
سحرياً في الفكر الكسول " أفتح ياسمسم " فالسكين مفتاح البرتقال والزيت
مفتاح الكبريت .
ويرى باشلار أن
العقبة الابستمولوجية تكمن دائماً في صميم المعرفة بشكل عام وهي تظهر بذاتها كنوع
من الضرورة الوظيفية .
لقد عالج البعض فكرة
العقبة متخيلاً أنها ليست نتيجة للشروط الخارجية لعملية المعرفة ولا للحواس والفكر
كوسيلتين ذاتيتين للمعرفة عند الإنسان إنما هي نتيجة للشروط النفسية للمعرفة وبرأي
الدكتور عماد فوزي شعيبي أن هذه المعالجة تخلو من الدقة والفهم الاعمق لفكرة
العقبة الابستمولوجية التي أضفاها باشلار على الفكر الإنساني والخيال العلمي .
أن العقبة كامنة في
كل شروط المعرفة وفي كل معرفة بحد ذاتها إذ إنها عملية ربط تحث باشلار في تكوين
العقل العلمي وربط هذا التكوين بالتحليل للمعرفة العلمية , ربطاً ساذجاً يغيب فكرة
العقبة هي من صميم المعرفة بالذات لأن المعرفة تقيم بنائها بحيث تحجب ما لم يتم التفكير
فيه ذلك أن أسرة, كما أن معرفة أبناء عصر ما تفسرها تظل عقبة أو فكرة مضادة وعند
اكتشاف العقبة يتم الاسهام في تأسيس مبادىء التحليل النفسي للعقل , لكن باشلار لم
يقل هنا أن السمة الوحيدة المرتبطة بالعقبة هي أنها حاجز نفسي إذ إن لها سمات أخرى
بنيوية وعند تعداد العقبات وبيان تفصيلها سوف نلحظ أنها أشكاليات تكمن في بنية
المعرفة ذاتها وهي إشكاليات تأتي نتيجة عمل الخيال الصوري وهذه العوائق هي :([64])
(1)الاختبار
الاول (2)التعميم (3)العقبة الجوهرية (4) العائق
الاحيائي .
(ب)القطيعة
الابستمولوجية :
القطيعة المعرفية هي
عبارة عن قفزات نوعية تحدث في تأريخ العلوم , وتحدث القطيعة الابستمولوجية عند
نشأة علم جديد أو نظرية علمية جديدة قاطعاً للصلة مع ماسبقه من علوم ومعارف , إن
القطيعة إعلان عن ميلاد علم جديد غير مرتبط بما قبل " تأريخه " ولاتعبر
القطيعة الباشلارية عن تغيير مفاجىء إنما المقصود المسار المعقد الذي يتكون في
أثنائه نظام لم يعرف من قبل , إن النظريات العلمية المستجدة في كل عصر لايمكن
النظر إليها على أنها أستمرار للنظريات السابقة فلا يمكن إرجاع فيزياء أينشتاين
الى فيزياء نيوتن ولافيزياء نيوتن الى غاليلي (1564 _1642 ) ومنه أن كل نظرية
علمية مبنية على أسس مخالفة للنظريات السابقة عنها ومفهوم القطيعة بلغة باشلارية
متجادل مع مفهوم العائق فإذا كانت العوائق سبباً في تباطؤ واختلال المعرفة العلمية
وجمودها فإن القطيعة هي الفعل الابستمولوجي الذي تم به تجاوز هذه العوائق ونشط الفكر
العلمي بعد جموده , ولذلك فإن باشلار في كتابه "جدلية الزمن " يحث على
النظر الى تأريخ الاكتشافات والابداعات العلمية وفق منهج إيقاعي على وزن "
عائق _قطيعة " " خمول _نشاط " فتأريخ العلوم ليس ترابطاً زمانياً ,
على منوال الديمومة البرغسونية يقول باشلار :" إننا حين نفحص نتبين تصاميم
تسلسل الحياة النفسية ورقة ورقة نلاحظ الانقطاعات في النتاج النفساني فإذا كان ثمة
تواصل فهو غير موجود أبداً في التعميم الذي يجري فيه فحص خاص , مثال ذلك إن
التواصل في فعالية الدوافع الذهنية لا يكمن في التعميم الذهني إننا نفترضها في تصميم
الاهواء والغرائز والمصالح " . ([65])
تأريخ العلوم هو
تأريخ للقطائع الابستمولوجية , قطائع منهجية على مستوى التصورات وعلى مستوى
المناهج , وهي قطائع نابعة من داخل العلم وتأريخ العلوم من ناحية تاريخية إنتاج
التصورات العلمية , فكل علم له صيرورته الخاصة , يمر العلم بمراحل يعرف فيها تارة
تباطؤات نتيجة العوائق وأحياناً أُخر نوعاً من التسارع يسبب حدوث قطيعة بين مرحلة
وأخرى , ولذلك ثار باشلار على مؤرخي العلوم الذين قدموا العلم كرواية مسلسلة مليئة
بالمغامرات , أن أصحاب النظرية الاتصالية يرون بأن التأريخ حوادثه متسلسلة نتيجة
اتصال الزمان , فكل مرحلة تؤثر فيما يتلوها من مراحل , فالمعرفة العلمية عند هؤلاء
مجرد امتداد للمرحلة العلمية , وحول مفهوم " القطع الابستمولوجي " يذكر
د, حسن كركي مجموعة من الآراء نذكر منها ما يأتي يقول في معرض حديثه حول القطع :
إن مفهوم القطع الابستمولوجي
رد مباشر على نظرية الاستمرارية في تأريخ المعرفة التي يبشر بها " ميرسون
" وعلى الوضعية الكومتية كذلك فتأريخ العلوم في نظر باشلار ليس مجرد انتقال
ميكانيكي من المشاكل الأبسط الى الأعقد , إنه ليس استمرار فقد عرف تأريخ العلوم
فترات نكوص أو تعطل أو توقف كما عرف فترات أنتقال وقفزات وثمة ديالكتيك بين
المظهرين لا استمرار , في المقابل يشدد مايرسون على أن هناك استمراراً في التفكير
العلمي واستمراراً بين العقل العلمي الجديد والعقل السابق , وهذا ما يرفضه باشلار
تماماً فالقفزات التي تحدث في تأريخ العلم تنقل إليه نظريات جديدة تقطع تماماً
سواء مع المعرفة العامة أو مع العقل العلمي السابق([66]).
إن الاعتقاد
بالاستمرارية ناشىء عن الرغبة في العودة الى أصول كل نظرية والى بداية كل عمل فيرد
العلم الحاضر الى المعرفة العامة وهذا خطأ ,ويعطي باشلار مثلاً على ذلك المصباح
الكهربائي والمصباح العادي فالعلاقة بينهما علاقة العدف : كلاهما يضيء عند الظلمة
أن المصباح الكهربائي مزدوج الطبيعة , أنه الموضوع المجرد المحسوس لذا لا يمكن
فهمه انطلاقاً من المصباح العادي, كذلك يلذ لدعاة الاستمرارية أن يبرهنوا على أن
كل اكتشاف علمي جديد جاء نتيجة تهيؤ سابق هذه الطبيعة في التفكير في نظر باشلار
منقولة من تأريخ الفلسفة إلى ميدان تأريخ العلوم , والان كيف يحدث القطع
الابستمولوجي ضمن العقل العلمي نفسه وهل النظريات العلمية الجديدة امتداد لنظريات
علمية سابقة قطعاً لا فثمة نظريات جديدة بمثابة قفزات لا مثيل لها سابقاً لذا لا
يمكن فهمها على أساس أنها استمرار أو تطير لعلم سابق ؟ فمثلاً الهندسات
اللاأقليدية في الرياضياتوالميكانيكا النسبية والكوانتا في الفيزياء هل يمكن
اعتبارها امتداداً للهندسة الاقليدية والميكانيكا النيوتونية, على العكس هي نتيجة
لقطع أبستمولوجي أي نتيجة لقيام نظام معرفي شامل يقطع مع نظام معرفي سابق أقل
شمولاً , فالهندسات اللاأقليدية تعلن عن قيام علم هندسة أكثر شمولاً , هندسة
لايمكن فهمها انطلاقاً من الهندسة الاقليدية لانها ليست تطويراً ولا استمراراً
لهذه الأخيرة بل على العكس , الهندسات اللاأقليدية تقوم على مسلمات جديدة مختلفة
تماماً , على أن هذا القطع ليس تناقضاً بل احتواء كذلك الامر بالنسبة الى الفيزياء
النسبية التي قطعت مع الفيزياء النيوتونية وهي ليست بأي شكل من الأشكال استمراراً
لها .
(13)الفلسفة المفتوحة
وغاستون باشلار :
إن أهم ماجلبه باشلار
الى الفلسفة المعاصرة هو النظرة الجديدة الى الابستمولوجيا التي تتقاطع مع المفهوم
الفلسفي التقليدي لنظرية المعرفة ولعلاقة الفلسفة بالعلم , هنا الموقف الذي بموجبه
تدعي الفلسفة مطابقتها لعلوم العصر , فما يعطيها الحق في بناء نظريات في المعرفة
للفصل في نظريات العلوم أزاء هذه المقولة يعلن باشلار في فلسفة " اللا"
عن هدفه صراحة , أنه يبشر بفلسفة علوم جديدة , فلسفة مطابقة فعلاً لعلوم العصر .
أن هذا التطابق مع
علوم العصر هو الذي يميز فلسفة العلوم لديه إذ إنه من خلال سجاله مع فلسفات عصره
من روحانية ووضعية أدرك أن ثمة هوة تفصل هذه الفلسفات عن علوم العصر , وأن ثمة لا
تطابق حاد يباعد بينهما وهذا معناه أن الفلسفة الوضعية والروحية لن تستطيعا
التطابق مع ما أفرزته الثورة العلمية في الفيزياء والرياضيات من جديد , وحتى نرى
بداً ما هو هذا اللاتطابق كي يصبح بالامكان فهم الهدف الذي أرتسمه باشلار , الاوهو
ردم الهوة بين علوم العصر والفلسفات التقليدية , ويتبدا هذا اللاتطابق عبر نقطتين
أساسيتين , مفهوم العقل , ومفهوم الواقع إذ إن العلوم المعاصرة تناقض المفهوم
الكلاسيكي للعقل , كما أنها من جهة أخرى لاتقر بالواقع كما يراه الفلاسفة يقول باشلار
في العقل العلمي الجديد : " إن المذهب الفلسفي الذي يؤمن بأن العقل مطلق
ومتناه هو فلسفة بائدة " ([67]) . هذا التصور لعقل مغلق تتطابق
والتصور القائل أن الواقع مخزن اللامعقول .
ويرى باشلار أنه حتى
يتسنى لنا بناء فلسفة مطابقة لعلوم العصر علينا أن نلحظ تأثير المعارف العلمية على
بنية العقل , وهذا مالم تفعله الفلسفات التقليدية , إذ إن موقفاً تقليدياً كموقف
كانط القائل أن العقل حائز بصفة قبلية على كل المقولات التي لابد له منها لمعرفة
الواقع لايمكن أن يتطابق مع ما حصل من تطور بخاصة مع الهندسات اللاأقليدية , ولايضاح
موقف باشلار من العقل لابد من حمل باشلار نفسه على تجديد ماهية العقل .
يقول باشلار في فلسفة
النفي " إن العقل نشاط مستقل يطمح لان يتكامل " ويكمل في العقل العلمي
الجديد " أن المذهب الذي يؤمن بعقل متناه هو فلسفة بائدة " .
إن هذا التصور
الباشلاري للعقل يطرح جديداً , أنه يهز الاسس التي تتركز عليها الرؤى الفلسفية
الكلاسيكية هذا التصور التطوري للعقل تأثر به باشلار من خلال سجاله الفلسفي مع
فلسفات عصره والتي في عدادها فلسفة برونشفيك فهذا الاخير كان يتبنى فهماً تطورياً
للعقل يعارض به تماهي العقل وثباته لدى الفلسفات التقليدية وهو لم يأخذ عنه الا
هذا التصور فقط , لانه يخدم مباشرة مشروعه الفلسفي . ([68])
لقد إنطلق باشلار في
نقده للتصور التقليدي من زاويتين , الاولى قوله بعقل يتأثر في بيئته بتطور الافكار
العلمية بعقل يوجد في علاقة ديالكتيكية مع المعارف التي ينتجها , وهذا الموقف لن
يقبل بالنظرة الوضعية القائلة, إن العقل لا يملك في مواجهته للواقع لابنية
ولامعارف وهذا يعني أن فلسفة العلوم تحكمها الوقائع لامبادىء ثابتة مستقلة عن أية
تجربة , كما أنه لن يقبل بالنظرة العقلانية التي ترى أن بنية العقل تظل ثابتة وأن
العقل حائز بصفة قبلية على كل المقولات التي لابد منها لمعرفة الواقع .
أما النقطة الثانية
فرفضه لما تصفه الفلسفات من حدود لقدرة العقل على المعرفة , وبخاصة أن هذه الحدود
تأتي من خارج العلم من الفلسفة , أزاء هذا الفهم التقليدي طرح باشلار فهماً
دينامياً منغمساً في علوم العصر , العقل برأيه ليس بالأصل معطى ثابتاً لا يتأثر
بتقدم العلم كما أنه لا يواجه الواقع , من دون بنية أو معارف ذلك لان بنيته هي
معارفه السابقة التي تساعده على فهم الوقائع الجديدة التي تعرض له , أما بخصوص
حدود المعرفة العلمية فبرأي باشلار لا يمكن التحدث عن حدود للمعرفة العلمية
انطلاقاً من عجز العلم عن حل مشكلة ما , لان تأريخ تقدم المعرفة العلمية أثبت أن
المشاكل التي كانت تبدو غير قابلة للحل , إنما هي المشاكل التي طرحت طرفاً سيئاً
وهي تغدو قابلة للحل ,عندما يوفر لها التقدم العلمي معطياتها الموضوعية, إن وضع
حدود للمعرفة العلمية يتم من خارج العلم , من الفلسفة وليس للفلسفة الحق في الحكم
على حقيقة العلوم ليس لها أن تحدد للعلم موانعه ومثله .
هذا الفهم للعقل
ولعلاقة الفلسفة بالعلم هو أحد ايجابيات المشروع الباشلاري ففي العلاقة بين
الفلسفة والعلم يملك العلم وحده حق تنظيم الفلسفة وإذا كان لابد من حكم فالافضل أن
يكون حكم العلم على الفلسفة لا العكس وكما فعل باشلار بالنسبة إلى المفهوم
الكلاسيكي للعقل سيفعل الأمر ذاته بالنسبة الى الواقع , فإزاء الواقع المباشر
اللامعقول الذي يراه الفلاسفة يعرض باشلار الواقع العلمي وينتقد باشلار بصدد مفهوم
الواقع الفلسفتين المثالية والواقعية فهو يعارض الأولى منها لأنها تجعل الذات مركز
المعرفة وتعتبر أن المعرفة تكون تامة بفضل المقولات القبلية التي تكون الذات حائزة
عليها مثل أي اتصال بالواقع كما تعتبر أن النجاح في عملية المعرفة يبدأ عندما تطبق
المقولات القبلية على الواقع, أو عندما يندرج الواقع في تلك المقولات ويعارض
باشلار الثانية لانها بدورها تتبنى مفهوماً للواقع لا يطابق ما جاءت به الثورة
العلمية المعاصرة, إذ إن هذا التيار يعتبر أن هناك واقعاً موضوعياً خارجياً
مستقلاً عن معرفتنا, ويرى باشلار أن الواقع الذي يدرسه العلم المعاصر يتصف
بالاصطناع أي أنه الواقع الذي يكون نتيجة لعمل تقني لا الواقع الطبيعي المعطى من
هذا التشخيص الباشلاري :
على الفلسفة أعادة
النظر في كثير من مقولاتها في ضوء مايطرح التقدم العلمي من مقولات جديدة , ومن هنا
المشروع الباشلاري البديل : ( أقامة فلسفة مطابقة لعلوم العصر ) إن إقامة فلسفة
مطابقة لعلوم العصر يتطلب إعادة بناء لبعض المقولات الفلسفية في ضوء ما يطرح الفكر
العلمي المعاصر من معطيات وعلى وجه الخصوص مفهومي الديالكتيك والحقيقة , النقطة
الاولى التي تستدعي النقاش هي التصور الباشلاري للديالكتيك أهو الديالكتيك نفسه
الذي عرفناه عند هيغل أم أنه مختلف ؟ الحقيقة أن باشلار يشكل ديالكتيكه أنطلاقاً
من معطيات العلم المعاصر فغدا معه الديالكتيك تكاملياً مستفيداً من نظرة نيلز بور
الذي برهن تكامل النظريتين الجسيمية والتموجية للضوء هذا الديالكتيك يختلف عن
ديالكتيك هيجل بمعنى أن الاطروحة ونقضها إذا استعملنا المصطلح الهيغلي على
تمايزهما تكمل الواحدة الأخرى , بحيث يمكن اعتبارهما عنصرين للتركيب .
كذلك يناقش باشلار
الفلاسفة في مفهوم الحقيقة الذي يأخذون به معتمداً على مقولات العلم المعاصر , إن
أول مظاهر هذا التجاوز فضل الحقيقة المطلقة التي يتبناها التيار العقلاني ,
الحقيقة بالنسبة إليه نسبية , نسبية لان تأريخ العلم أثبت أن ليس هناك حقيقة تظل
ثابتة فتكون نهائية وأن خطأ العقلانية أنها بنت سستمات فلسفية على حقائق علمية
برزت في فترات تاريخية معينة , معتبرة إياها حقائق مطلقة نهائية هذا التصور لحقيقة
مطلقة أحدث لاتطابقاً بين المعرفة العلمية المعاصرة والفلسفة العقلانية .
يرى باشلار أن
الحقيقة نسبية كذلك لان العلم المعاصر أثبت تقريبية المعرفة ونزع عنها صفة المطلق
, وذلك بعكس العلم الكلاسيكي الذي كان يعتبر المعرفة تقريبية غير تامة , بل خاطئة
ومؤقتة لانها ناتجة عن نقص في الوسائل والمناهج بينما أثبت العلم المعاصر أن
المعرفة التقريبية حقيقية وهي لاتتأتى عن نقص في وسائلنا ومناهجنا بل بالعكس هي
نتيجة لتقوية وتجديد وتدقيق هذه الوسائل والمناهج .
ويرفض باشلار كذلك
الحدود الابستمولوجية التي تصطنعها الفلسفات الكلاسيكية إذ إنها تضع حقيقة مطلقة
مفارقة لكل ما يمكن أن تصل إليه المعرفة العلمية كفكرة المثال عند إفلاطون أو تكون
محايثة للشيء المدرك ولا يكون إدراكها ممكنناً الا بالنسبة للعقل كما هو الشأن
بالنسبة الى فكرة الجوهر عند ديكارت أو يستحيل إدراكها على الحواس أو العقل ,
كفكرة الشيء في ذاته لدى كانط , أو أن هذه الحقيقة المطلقة تستعصي على المعرفة
العلمية بينما يمكن أن نبلغها عبر الحدس كما عند برغسون , يرى باشلار على العكس أن
الحقيقة العلمية لا تعرف الحدود التي تقفها الفلسفات التقليدية أمام المعرفة , أذ
إن الحقيقة العلمية هي نتيجة لتطور الفعاليات التقنية والفعاليات العقلانية فالشيء
في ذاته مثلاً لم يعد حداً نهائياً للمعرفة العلمية أذ أن التقدم التقني فتح
الطريق لمعرفة موضوعات يمكن اعتبارها في نظر الفلسفات التقليدية أشياء في ذاتها أذا
فالحقيقة العلمية مرتبطة بتطور وسائلنا ومناهجنا المعرفية. ([69])
لم يقتصر باشلار في
تجاوزه هذه المسألة على الفلسفات العقلانية بل تعداها الى الواقعية التي تجعل مصدر
الحقيقة الموضوع المعطى في التجربة , لقد أثبت باشلار أن الموضوع الذي تدرسه
المعرفة العلمية المعاصرة هو الموضوع الذي يتم بناؤه بتدخل من الفعاليات التقنية
والفعاليات العقلانية .
وعند دراسة نقاط
التطابق الذي على أساسه سيقوم المشروع الباشلاري أي ما يعنيه باشلار بالتطابق ,
خلق فلسفة تتوافق مع نظرية الكوانتا والنسبية والهندسات اللاأقليدية هذه الفلسفة
يسميها باشلار بالفلسفة التعددية ذلك أن ما يميز فلسفة العلوم الجديدة التي
يفترضها باشلار هو تعدديتها , فلمواكبة تطور البحث العلمي لا يمكن اعتماد فلسفة
واحدة تجريبية أو عقلانية بل لابد من تجميع فلسفي في فلسفة تهضم داخلها مقولات
وجدت في فلسفات سابقة ولم تفقد فعاليتها , الا أن ثمة تناقضاً في هذا الطرح وهذا
ما أشار إليه " لكور " كيف يفسر باشلار استعانة فلسفة العلوم بالمقولات
الفلسفة الكلاسيكية التي أثبت بنفسه عجزها عن التطابق مع علوم العصر , هذه
المقولات التي حطمتها المفاهيم العلمية المعاصرة وقضت عليها ؟ الامر بسيط فبالنسبة
الى باشلار أن لاتطابق المقولات الفلسفية الكلاسيكية هو لاتطابق مع العلوم التي
تعاصرنا لا التي عاصرت هذه التيارات الفلسفية الكلاسيكية , فالعقلانية الكانطية
مثلاً عاجزة بمقولاتها الكانطية " القبلية " عن الزمان والمكان , عن فهم
الميكانيكا النسبية ولكنها من جهة أخرى كانت متطابقة مع الميكانيكا النيوتونية كما
كانت متطابقة مع الهندسة الاقليدية ومن هنا دعوة باشلار الى تجميع هذه التطابقات
الجزئية لبناء فلسفة مطابقة لعلوم العصر . ([70])
إن معظم السجال
الفلسفي الذي أقامه باشلار عبر طرح مؤلفاته مع مختلف الاتجاهات الفلسفية والاراء
كانت تهدف وتتمحور حول مقول فلسفية أساسية الا وهي " موضوعية المعارف العلمية
" أن هذه المقولة على بساطتها مثقلة بالمضامين العلمية والفلسفية مع أن
باشلار ليس أول من تحدث عن موضوعية المعارف العلمية فمشكلة كانط الفلسفية في ميدان
المعرفة مثلاً البحث في الشروط التي تجعل المعرفة الموضوعية ممكنة ولكن فضل باشلار
أنه لم يبن نظرية في المعرفة تحاول تأسيس العلم وتطويره وتبريره كما تفعل الفلسفات
المثالية , وحين يتم تحويل العالم لصالح الفلسفات تحويلاً يأخذ شكل مطابقة بين
الفلسفات والعلكم , وهذا ما يهدف إليه باشلار غير أن ما يوكله لفلسفة العلوم مختلف
تماماً , ذلك أن باشلار يرفض التدخل الفلسفي في العلم , وقد نوه في " فلسفة
النفي "الى عقم أستخدام السستمات الفلسفية وخاصة التفكير العلمي في فهم تطور
الفكر العلمي , ذلك أن ثمة تعارضاً بين خاصية السستمات الفلسفية وخاصية التفكير
العلمي فالسستمات الفلسفية تتميز بغائيتها لذا لن نبحث في القضايا العلمية الاعما
يؤكد غائيتها الفلسفية , بينما التفكير العلمي لديه حقيقة نهائية وهو يخضع مبادئه
للمراجعة المستمرة لذا فهو يتميز بتفتحه أمام انغلاق الفكر الفلسفي ومن هنا أهميته
الابستمولوجية وما يوكل إليها باشلار من مهام . ([71])
لقد أنتقل باشلار من
الحديث عن الابستمولوجيات الجهوية الى التطرق الى علاقة هذه العقلانيات الخاصة
بالابستمولوجيا العامة أو ما يطلق عليه بالفلسفة المفتوحة فأنطاق في رفضه
للعقلانية المثالية التي تعتد بصلاحيتها في أن تنطلق على كل تجربة ويصفها باشلار
بأنها فلسفة قبلية ذاتية تقوم على مبادئ عقلية ثابتة مثل مبدأ الهوية , ( أ= أ )
وأحل محلها عقلانية مكملة ومتفتحة تؤسس بعد أن تطلع على جميع العقلانيات الجهوية
فهي عقلانية تمارس بين متخصصين في هيئة علمية ما ويعتبر باشلار رد المجتمع العلمي
الى المجتمع الإنساني عملية خاطئة , إذ إن المتتبع للثقافات العلمية المعاصرة
يجدها ممثلة في مجموعة من الكيانات المستقلة مثل مجتمع علماء الطبيعة ومجتمع علماء
الرياضيات "إن الوفاق الذي يحدد اجتماعياً عقلانية أقليمية هو أكثر من واقعة ,
أنه علاقة على بنية " ([72])
الابستمولوجيا العامة
هي عقلانية جدلية بالضرورة فهي تحدد التبعية الفكرية التي من خلالها تنفذ التجربة
فهي لا تهدف إلى استنباط بنية مشتركة عامة بين مختلف العقلانيات الجهوية بل هدفها
صياغة أكبر عدد من البنيات أو الانساق العقلية التي تقود الى تنوع وتعدد التجارب
وهذه التجارب تتطلب بدورها تعدد في التقنيات , فالبستمولوجيا المعاصرة تستند الى
جدلية فاعلة بين العقل والتجربة والتقنية .
في كتابه "
العقلانية التطبيقية " ينتقد باشلار المذهب المثالي والتوجه العقلاني في
فلسفة العلم , فهذه اللاعقلانية تمثل استمراراً لتدخل ميتافيزيقا الفلسفة في العلم
, فرغم ما يبدو من تعارض بين هذه الفلسفات ظاهرياً الا أنها متفقة نوعياً في تفسير
المعرفة العلمية فالنزعة الصورية تلتقي مع الطرح التجريبي للمعرفة العلمية حين
تعتبرها بمثابة صور عن الواقع واستنساخاً نظرياً للتجريب مع فارق تغليب الصورية
فاعلية الذات في عملية المعرفة فدور العلم تجديد الواقع وصياغته بلغة رمزية
مستعيناً في ذلك بالرياضيات كتعبير دقيق وواضح فلغة الرياضيات تتمتع بمواصفات
عقلية وبالتالي فإن القوانين العلمية قائمة على مفاهيم متواضع عليها بين العلماء
يمكن قبولها ودحضها دون الوقوع في أي تناقض منطقي , إذن العلاقة بين الدال
والمدلول تبقى اعتباطية فليس هناك أي ضرورة منطقية , وهكذا حسب باشلار نلج النسق
المواصفاتي الذي يعتبره بمثابة حلقة وصل بين التجريبية والمثالية فالمواصفاتي حسب
باشلار نظراً لتركيزه على فاعلية الذات لايقبل بمصطلحات غيره وبالتالي فإن هذه
النزعة الذاتية " المثالية " الانا واحدية غير قادرة على فهم الفكر
العلمي المعاصر .([73])
أما الوضعية المنطقية
نتيجة رفضها لمبادىء ضرورية يقوم عليها العقل فأن باشلار يعتبرها عاجزة عن تبرير
الاستنباط المنطقي للنظريات العلمية , فهي لا تستطيع فهم أو تحديد قيم تماسك
النظريات العلمية المعاصرة , فمبدأ القابلية للتحقيق كما وصفه الوضعيون لا يصلح في
أن يكون معياراً للتمييز بين العلم واللاعلم , فالفكر العلمي فكر متفتح وجدلي قائم
على فلسفة النفي فالعقل العلمي غير مكتمل النمو فهو باستمرار يراجع قيمه .
أن المعرفة العلمية
تتأسس على أنقاض الفكر اللاعلمي فالوضعيون بتمييزهم بين القضايا المليئة بالمعنى
والقضايا الخالية منه يربطون صدق القضية العلمية ومعقوليتها بمدى مطابقتها للواقع
, فالقول العلمي رسم للواقع فهم يطابقون بين النظرية العلمية ومضمونها المادي
وبالتالي يرفضون إدراج القضايا الممكنة علمياً ضمن المعرفة العلمية حتى وإن لم
يحدد ما يقابلها واقعياً بطريقة مباشرة وتأريخ العلم مليء بالشواهد التي تثبت هذه
الممكنات , فكثيراً من الظواهر الطبيعية تم اكتشافها أولاً رياضياً ونظرياً ثم
أكدوا وجودها واقعياً فالحاجة النظرية تدفع العلماء إلى وضع مثل هذه الفروض
العقلية قبل أثباتها تجريبياً . ([74])
فلحساب طاقة النواة
أضْطرَّ العلماء الى افتراض وجود النيوترونو للمحافظة على الطاقة دون أن يؤكد
وجوده تجريبياً نظراً لصغره الشديد وعليه فإن التفكير في إمكانيات وتجليات جديدة
للواقع خاصية الفكر العلمي المعاصر , في الابستمولوجيا الباشلارية لاتغدو العلمية
مجرد شرح وتفسير للواقع بل تحاول أن تكشف عن طبقات الواقع المتعددة وإضفاء الصبغة
العلمية , فالفكر العلمي بناء عقلاني قادر على تنظيم التجربة بطريقة رياضية وعندئذ
يتجلى الواقع كحالة خاصة في مجموعة أصول ممكنة يقول باشلار :
" غدا الجهد
الرياضي هو الذي يؤلف محور الاكتشاف وهو وحده يتيح لنا أن نفكر في الظاهرة"([75]).
(14)العقلانية
المطبقة :
تعتبر فلسفة باشلار
محاولة للتوفيق بين الافكار والواقع من جهة ودعوة للتحرر من تأثير الواقعية
الساذجة والمثالية المطلقة إذ أراد باشلار سدّ الفجوة بين العقل والتجربة والقول
بواقع تقني مقاوم للواقعية الساذجة وللمثالية المحضة , العقلانية المطبقة فلسفة
متفتحة على الانساق الفلسفية الأُخر , لانها تريد أن تكون فلسفة للعلم المعاصر
فالعقلانية الباشلارية لاتسعى الى استغلال نتائج العلم لصالح الفلسفة بل مستعدة
لتغيير مبادئها لتتناسب مع الثقافة العلمية السائدة كما أنها عقلانية جدلية لمسايرتها
للتطور العلمي وجدلية لانها تنطلق من أشكالية مجردة يقول باشلار :
" إن عقلانية
بدون إشكالية أن هو الأعقل لا يتنفس عقل يختنق ويسقط في
الدوجماتية"([76]) المسايرة والجدل يجعل العقلانية المطبقة عقلانية
نقدية , العقلانية المطبقة ليست عقلانية عامة بل مجموع من العقلانيات الجهوية لكل
عقلانية فيها مجال محدد من مجالات المعرفة العلمية , جهويات المعرفة العلمية ليست
معطاة في الطبيعة مباشرة أنها نتيجة تفكير والعلم المعاصر هو تحقيق الكشف العقلاني
للواقع المبني تقنياً انطلاقاً من التنظيم العقلاني المطبق تقنياً , يربط باشلار
كل مفهوم علمي بطريقة تحقيقه تقنياً, وهكذا يدخل باشلار النسبية في فلسفته
فالمفهوم الذي لا يمكن تطبيقه يفقد خاصية الصحة إلى أن تؤكده تجربة جديدة , أن
الخاصية الجدلية للعقلانية المطبقة دليل على نسبية معرفتنا, الفكر يتجدلن باستمرار
لا وجود لحقيقة مطلقة والعلم المعاصر حرر الباحث العلمي من براغماتيته المطلقة
التي يعرقل نمو المعرفة العلمية , العقلانية المطبقة تفسر طبيعة المعرفة العلمية
بأنها مجردة وواقعية ولبناء نظرية علمية ما يجب إتباع المراحل التالية :
(1)التنظيم العقلاني
.
(2) التطبيق التقني .
(3)التصحيح "
المعاودة " : فالعقلانية تراجع نفسها باستمرار فهي فلسفة للاعادة .
التنظيم العقلاني
لايعلى على الواقع وتأريخ العلوم يؤكد هذه الحقيقة والتجربة تكشف عن بعض الطبقات
والخاصات لايمكن أن تفسرها النظرية القائمة حتى لو كانت التقنيات دقيقة تبقى فرضية
عدم انسجام بعض المتغيرات مع النظرية العلمية قائمة مثل متغير السرعة لينسجم مع
متغير الكتلة كما هو محدد في الفيزياء الكلاسيكية لذلك يجب عقلنة هذا المتغير الذي
لم يزل غير عقلاني وعليه فإن التجربة الفاشلة تلعب دور العائق الايجابي , والمستوى
السلبي لتجربة المتغير يدفع المعرفة إلى أن تصحح نفسها وتبحث عن نظرية أخرى تكشف
عن مستوى آخر من الواقع , العقلانية العاملة لا تتأسس إلا عن طريق فلسفة متعددة
(15)باشلار وفلسفة
النفي أو "فلسفة اللا" :
لقد وصف باشلار
فلسفته بأنها فلسفة النفي أو فلسفة اللا إنها الفلسفة التي تقول لا لعلم الأمس
وللطرق المعتادة في التفكير ولا تأخذ الأفكار البسيطة على أنها أفكار بسيطة فعلاً
يجب التسليم بها من دون مناقشة بل إنها تجتهد في نقد هذه البسائط نقداً جلياً
لتكشف عما تنطوي عليه من غموض لكن ذلك كله لا يعني أنها فلسفة سلبية يقول باشلار :
"الواقع أنه يجب
أن نبينه دوماً الى أن فلسفة النفي ليست من الناحية السيكولوجية نزعة سلبية ولا هي
تقود الى تبني العدمية أزاء الطبيعة فهي بالعكس من ذلك فلسفة بناءة سواء تعلق
الامر بنا نحن أو بما هو خارج عنا , فلسفة ترى في الفكر عامل تطور عندما يعمل , إن
التفكير في الموضوعات الواقعية معناه الاستفادة مما يكتنفها من لبس وغموض قصد
تعديل الفكر وإغناءه , وتجديل الفكر " تطبيق الديالكتيك عليه " معناه
الرفع من قدرته على أنشاء الظواهر الكاملة , إنشاءاً علمياً وعلى إحياء جميع
المتغيرات المهمة التي كان العلم , والفكر الساذج قد أهملاها في الدراسة الاولى
" ([77])
بهذه الطريقة تصبح
الموضوعات العلمية عبارة عن مجموع الانتقادات التي وجهت الى صورتها الحسية
المتخيلة التي يقدمها هذا العلم أو ذاك عن أشياء الطبيعة , أن المهم هو الانتقادات
وأنواع الرفض التي تلاقيها هذه الصورة من طرف العلماء والاخرين . أن فلسفة النفي
إذاً ترفض كل تصور علمي يعتبر نفسه كاملاً نهائياً بل تعتبر أن العلم بناء يبنى
على الدوام ويعاد فيه النظر باستمرار .
هنالك نص لباشلار في
كتابه " العقلانية العلمية " أو " الفلسفة المفتوحة " "
نقلاً عن محمد عابد الجابري " :
إذا جاز لنا أن نترجم
إلى اللغة الفلسفية تلك الحركة المزدوجة التي تغذي الفكر العلمي في الوقت الراهن
قلنا إنها حركة تتأرجح لزوماً بين ما هو قبلي وما هو بعدي , حركة ترتبط فيها
النزعة التجريبية بالنزعة العقلانية في الفكر العلمي ارتباطاً غريباً لا يقل قوة
عن ارتباط اللذة بالالم والواقع أن كل واحدة منهما تعزز الأخرى وتبررها : إن
النزعة التجريبية في حاجة الى أن تتعقل , والنزعة العقلانية في حاجة الى أن تطبق ,
فمن دون قوانين واضحة استنتاجية مترابطة ومنسجمة لا يمكن النزعة التجريبية أن تكون
موضوعاً للتفكير ولا مادة للتعليم , ومن دون براهين ملموسة ومن دون التطبيق على
الواقع المباشر لا يمكن للنزعة العقلانية أن تتوفر على قوة الاقناع التام ,
فالقانون التجريبي لا تتأكد قيمته الا عندما يصبح أساساً للتجربة , إن العلم الذي
يقوم على الجمع بين البراهين والتجارب وبين القواعد والقوانين , بين البداهة
والحوادث هو إذن في حاجة الى فلسفة ذات قطبين وبعبارة أدق هو في حاجة الى نمو
ديالكتيكي لان المفهوم لا يتضح الا بالنظر إليه نظرة متكاملة ومن وجهتي نظر
فلسفتين مختلفتين . ([78])
وليس في ذلك إساءة
الى العلم بل إن ما قيل في النص السابق هو عبارة عن اعتراف واضح بحاجة العلم الى
القطبين العقلانية والتجريبية بحيث يكمل كل منها الآخر ويسر به الى منتهاه فعندما
يفكر الإنسان تفكيراً علمياً معناه أن يضع نفسه في المجال أو الحقل الابستمولوجي
الذي يقوم واسطة بين النظرية والتطبيق بين الرياضيات والتجربة .
إن العقلانية التطبيقية
هذه العقلانية التي تترجم المعلومات التي يمدنا بها الواقع الى برنامج للانجاز
والتحقيق تتميز في نظرنا بشيء جديد تماماً , أن التطبيق في هذه العقلانية الرائدة
الاستكشافية ليس تشويهاً , وهي بهذا تختلف اختلافاً كبيراً عن العقلانية التقليدية
ومن ثم فإن النشاط العلمي الذي تقوده العقلانية الرياضية ليس تجارة في المبادئ ولا
تلاعباً بها , أن أنجاز برنامج من التجارب برنامج منظم تنظيماً عقلانياً يحدد
واقعاً تجريبياً خالياً من أي عنصر لاعقلاني ويتبين لنا أن الظاهرة المنظمة "
الحادث العلمي " هي أكثر غنى من الظاهرة الطبيعية " الحادث الخام "
.
أن العلم الفيزيائي
المعاصر بناء عقلاني فهو يصر في الإمعان التي يشيد بها صرحه كل صنفة عقلية ويجنب
الظاهرة المشيدة من كل انحراف لاعقلي , إن العقلانية العلمية لا ترى في التطبيق
العلمي هزيمة لها , ولا تلجأ إليه كحل وسط بل إنها تريد أن تطبق إذا ما طبقت
تطبيقاً سيئاً وأنها تعدل من نفسها وهذا لا يعني أنها تستنكر لمبادئها بل تجدلها
" أي تطبق الجدل أو الديالكتيك عليها " .
إن فلسفة العلم
الفيزيائي هي الفلسفة الوحيدة التي تعمل بواسطة التطبيق وخلاله على تجاوز مبادئها
تجاوزاً ديالكتيكياً وبعبارة أخرى فهي الفلسفة الوحيدة المفتوحة , أما الفلسفات
الأُخر فهي كلها تضع مبادئها فوق كل مراجعة وتعتبر حقائقها حقائق كلية ونهائية هي
أذن فلسفات منغلقة تفتخر بهذا الانغلاق .
إن من الضروري القول
أن على الفلسفة التي تريد أن تنسجم فعلاً مع الفكر العلمي المتطور بأستمرار أن
تعمد الى دراسة ما تحدثه المعارف العلمية من تأثير ورد فعل في بنية الفكر .
وهنا يتضح الدور الذي
تلعبه الفلسفة في بنية العلوم ومع بنية الفكر وتطوره , وهنا سنجد المواقف التعارضة
ذاتها , فالعالم يعتقد أنه ينطلق في بحثه من فكر لابنية له , فكر خال من أية أفكار
قبلية أما الفيلسوف فهو ينطلق في الغالب من فكر تم بناؤه فكر يتوفر على المقولات
الصورية لفهم الواقع .
(16)مراحل
الفكر عند باشلار :
في مقدمة كتابه
"تكوين العقل العلمي " يرسم باشلار المراحل التأريخية لتأريخ الفكر
ويحددها بالمراحل التالية :
(1)المرحلة القبعلمية
: وتتميز بكونها " المجسدة _المجسدة " وتنطبق على العصور القديمة وعصر
النهضة والتي أستمرت الى غاية بداية القرن الثامن الميلادي .
(2)المرحلة العلمية :
" المجسدة _المجردة " وتبدأ من النصف الثاني للقرن الثامن عشر وتمتد الى
بداية القرن العشرين وبالتحديد سنة 1905 وتشمل القرن التاسع عشر .
(3)المرحلة العلمية
الجديدة : " المجردة _المجردة _المجسدة " ويؤرخ باشلار بداية هذه
المرحلة بظهور النسبية سنة 1905 , وهذا التقسيم الثلاثي لمراحل الفكر البشري
يتماشى مع تقسيمه للنفس الذي يعتمد على هذه الثلاثية :
(أ)النفس العامية :
وثوقية , ساذجة , سطحية , وتدعي المعرفة وتتظاهر بالجدية .
(ب)النفس المعلمة :
متحكمة , فخورة بامتلاكها للحقيقة المحددة والمطلقة محافظة على الوضع وتعيد نفسها
بأستمرار .
(ج)النفس المجدلنة :
عاملة متسائلة مجردة تبحث عن الحقيقة باستمرار لذلك تدعو للثورة والتغيير والابداع
, إن مراتب النفس هذه تتماشى مع قوى النفس الافلاطونية . ([79])"شهوانية
, غضبية , عاقلة " أما المراحل التأريخية للفكر البشري كما تصورها باشلار
فتشبه التقسيم الكونتي " لاهوتية , ميتافيزيقية , وضعية " ([80]).
نتائج البحث :
(1)لقد حدد باشلار
النعرفة العلمية بالمعرفة الموضوعية التقريبية التي يتكامل فيها العقل والتجربة .
(2)تأسيس مجال معرفي
تحت أسم الابستمولوجيا اللاديكارتية ميزتها التعدد المنهجي .
(3)الدعوة الى تأسيس
منطق لاأرسطي خاص بكل علم .
(4)إضفاء الصبغة
التأريخية على الابستمولوجيا فهي أبستمولوجيا تاريخية لاهتمامها الخاص بتأريخ
العلوم .
(5)إنها ابستمولوجيا
ترفض الفلسفة الواحدة وتدعو الى تعددية فلسفة اللا .
(6)دعوة أبستمولوجية
للاهتمام بالجانب النفسي للمعرفة العلمية عن طريق توظيف منهج التحليل النفسي .
(7)تأسيس بيداغوجيا
للعقل العلمي .
الخاتمة :
لقد كرست
الابستمولوجيا الباشلارية جهدها في دراسة الثورات العلمية المعاصرة خاصة في مجالات
الهندسة , والفيزياء , والكيمياء وبصورة أقل المنطق مع قيامها بارتدادات تاريخية
للمقارنة بين حالة العلم الراهنة وحالاته السابقة بغية الوقوف على القيم المتحكمة
في العلم في كل مرحلة من تأريخه .
إن وظيفة
الابستمولوجيا أو فلسفة العلم عند باشلار هي دراسة الشروط الممكنة لإنتاج المعارف
العلمية ويكون هذا عن طريق معرفة الحقيقة للعلم , وهكذا يمكن للابستمولوجيا أن
تستقل عن مباحث الفلسفة التقليدية التي وصفها باشلار بالانغلاق والجمود والاستغلال
السيء لنتاج العلم , في حين أن الفكر العلمي متفتح ومتطور على الدوام , ولذلك وجب
أن يكون لكل علم أبستمولوجيا الخاصة , لاوجود لعلم عام , العلم متخصص , العقلانية
المطبقة مهمتها التركيب الجدلي بين العقل والواقع .
أرادت الابستمولوجيا
الباشلارية تكوين عقل علمي جديد قائم على قيم الثقافة العلمية المتجددة باستمرار
تنتقص به العقل التقليدي الذي يعمل وفق مبادىء منطقية صارمة , العقل عند باشلار هو
في حد ذاته نتيجة من نتائج العلم وتغيير هذه النتائج يؤدي الى تغيير العقل نفسه
فليس هناك عقل ثابت ولا معرفة ثابتة فكانط حين تحدث عن المبادىء القبلية للعقل
المجرد بنى فكره على ثقافته الرياضية الفيزيائية في عصره وبالتالي لا يمكن وضع
منهج قبلياً يفرض على العالم إتباعه فالمنهج العلمي كذلك انعكاس للثقافة العلمية
السائدة في مرحلة ما من مراحل الفكر , المنهج مرتبط بالممارسة الواقعية للعلماء
وهذه الممارسة تتطلب تعددية منهجية قابلة للتعديل المستمر بأعتبار الرياضيات أرقى
العلوم تجريدا على الباحث العلمي أن يفكر بالواقع بطريقة رياضية , إذ إن الفكر
العقلاني المجرد بإمكانه أن يقترح أمكانات جديدة للواقع , وعلى العالم أن يثبت هذا
الواقع نظرياً ثم يتحول الى تأكيده تجريبياً , التجربة العلمية تعتمد على أدوات
وتقنيات هي في حد ذاتها تطبيق لنظريات علمية , والواقعة العلمية موضوع مركب ومعقد
فليس ثمة ظاهرة بسيطة وواضحة , فالواقعة العلمية بناء نظري صالحة للاختبار التقني
.
الهوامش
([1]) حنفي عبد المنعم ." موسوعة
الفلسفة والفلاسفة " ج1
مكتبة مدبولي ,
القاهرة , ط3 , 2010 , ص 259
الاردن , عمان , ط1
,1996 , ص292
([4]) عثمان
عي " بنية المعرفة العلمية عند غاستون باشلار " رسالة ماجستير غير
منشورة من جامعة قسنطينة في الجزائر
29/ 6
/2008 ص 67 .
الكويت " 264 ,
ط1 , 2000 ,ص 216 .
دار توبقال , الدار
البيضاء , ط2 , 1988 , ص 188 .
ج1, لبنان , بيروت ,
ط2 , 1980 , ص 7 .
دار التنوير , بيروت
, لبنان , ط1 , 1993 , ص 122
(14)وقيدي , محمد (ماهي الابستمولوجيا )
دار الطليعة , بيروت
, 1982 , ص 42 .
دار القلم , بيروت ,
لبنان , 1980 , ص 139 .
المؤسسة الجامعية
للدراست والنشر ,بيروت لبنان ,1981 ,ص 21 .
دار الشؤون الثقافية
العامة , بغداد , 1980 , ط1 , ص111_113 .
المؤسسة الجامعية
للدراسات والنشر , بيروت , لبنان , 1985 , ص 144 .
المؤسسة الجامعية
للدراسات والنشر , بيروت , لبنان , 1985 . ط1 , ص 14
([28]) أن
العقلانية العلمية عند باشلار تعترف بأزدواج عنصري الخيال والعقل في الموقف العلمي
, ولكنها بأعتبارها مذهباً علمياً خالصاً تنتحي بالخيال جانباً وتنتقي العقل .
د. السيد شعبان حسن
" برونشفيك وباشلار بين الفلسفة والعلم " د ,راسة نقدية ص
121 .
شبكة المعارف , بيروت
, لبنان , ط1,2010, ص122 .
المؤسسة الجامعية
للدراسات والنشر , بيروت ,لبنان , ط1 , 1990 , ص 171 .
دار الطليعة للطباعة
, بيروت , لبنان . ط1, 1980 , ص 200.
دار الطليعة , بيروت,
لبنان , ط1 , 1985 , ص 148 .
رسالة ماجستير ,
الجزائر , 2008 , ص 137 .
مكتبة القاهرة
الحديثة , ط5 , 1965 , ص 83
اللجنة اللبنانية ,
بيروت , ط2 , 1997 , ص 45 .
دار الاسس , الجزائر
, ط1 , 1990 , ص 151 .
دار طلاس , دمشق , ط1
,1999 , ص 278 .
المطبوعات الجامعية ,
الجزائر , ط1 , 1983 , ص 8 .
المصادر والمراجع :
(1)حنفي , عبد المبعم
(موسوعة الفلسفة والفلاسفة )ج1
مكتبة مدبولي ,
القاهرة ,ط3 , 2010 م
(2)بدوي , عبد الرحمن
(موسوعة الفلسفة ) ح1
عمان , ط1 , 1969 .
(3)د,حسين كركي , علي
(الابستمولوجيا في ميدان المعرفة )
شبكة المعارف , لبنان
, بيروت , ط1 , 2010 .
(4)عابد الجابري
,محمد (تطور الفكر الرياضي والعقلانية المعاصرة )ج1
دار الطليعة , بيروت
, ط1 , 1982 .
(5)باشلار , غاستون
(تكوين العقل العلمي )
ترجمة : خليل أحمد
خليل , المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع , بيروت , لبنان , ط1 , 1983 .
(6)باشلار , غاستون
(فلسفة الرفض )
المؤسسة الجامعية
للدراسات والنشر والتوزيع , بيروت , ط1 , 1985 .
(7)باشلار , غاستون
(العقلانية التطبيقية )
ترجمة : بسام الهاشم
, المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر .بيروت , ط1 , 1990 .
(8)باشلار , غاستون
(الفكر العلمي الجديد )
ترجمة : عادل العوا ,
منشورات الاسس , الجزائر , ط1 , 1990
(9)باشلار , غاستون
(جدلية الزمن )
ترجمة : خليل أحمد
خليل , ديوان المطبوعات الجامعية , الجزائر , ط1 , 1983 .
(10)أمين , عثمان
(ديكارت ) سلسلة أعلام الفلسفة
مكتبة القاهرة
الحديثة , القاهرة , ط5 , 1965 .
(11)عي , عثمان (بنية
المعرفة العلمية عند غاستون باشلار )
قسنطيتة , الجزائر ,
2008 .
(12)ديكارت (مقالة في
المنهج )
ترجمة : جميل صليبا ,
اللجنة اللبنانية , بيروت , ط2 , 1997 .
(13)كامل , فؤاد
وأخرون (الموسوعة الفلسفية المختصرة )
دار العلم , بيروت ,
لبنان , ط1 , 1980 .
(14)وقيدي , محمد
(ماهي الابستمولوجيا )
دار الشؤؤن الثقافية
العامة , بغداد , ط1 , 1980 .
(15)وقيدي , محمد
(فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار )
دار الطليعة , بيروت
, لبنان , ط1 , 1980 .
(16)طريف الخولي , د.
يمنى (فلسفة العلم في القرن العشرين )
سلسلة عالم المعرفة ,
الكويت , 264 , ط1 , 2000 .
(17)بنوربي , ج
(مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا )
ترجمة : عبد الرحمن
بدوي , ج1 , بيروت , ط2 , 1980 .
(18)فاروق , عبد
المعطي (أوجست كونت )
دار الكتب العلمية ,
بيروت , لبنان , ط1 , 1993 .
(19)د, شعبان , حسن
(برونشفيك وباشلار بين الفلسفة والعلم )
دار التنوير , بيروت
, لبنان , ط1 , 1993 .
(20)د, شعيبي , عماد
فوزي (الخيال ونقد العلم عند غاستون باشلار )
دار طلاس , دمشق , ط1
, 1999 ,
(21)سالم يفوت , عبد
السلام بن عبد العالي (درس الابستمولوجيا )
دار توبقال , الدار
البيضاء , ط2 , 1980 .
(22)يفوت , سالم
(فلسفة العلم المعاصر ومفهومها للواقع )
دار الطليعة , بيروت
, لبنان , ط2 , 1985 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق