قراءة ألتوسير للماركسية - عبدالوهاب شعلان - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الخميس، 7 أبريل 2016

قراءة ألتوسير للماركسية - عبدالوهاب شعلان

تمهيد:
يعد ألتوسير L.Altusser من أهم النقاد والفلاسفة الذين عرفتهم فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين الى جانب ميشال فوكو M.Faukault وجاك دريدا J.Derida وجاك لاكان J.Lacan وقد عرف ألتوسير بمحاولاته النظرية المتميزة، الهادفة الى إخضاع الماركسية لنسق المقاربة البنيوية، ومن ثم تخليصها من طابعها الايديولوجي التعميمي.
والحقيقة أن ألتوسير لم يكن سباقا الى هذا النهج، فقد سبقه إلى ذلك مواطنه لوسيان سيباغ L.Sebag الذي تميزت مقارباته بالجذرية، مما أدى به الى طرده من الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1965، ومن جملة ما طرحه سيباغ اعادة قراءة الماركسية بعيون بنيوية، وإنكار مبدأ الحتمية في النظرية الماركسية، وعدم اعتبار العامل الاقتصادي أساس الحركة التاريخية، إضافة الى الاعتراف بدور الأنظمة الايديولوجية (الفكر، الدين، الثقافة،...) في حركة التاريخ(١).
أنجز ألتوسير كتابين هامين في سياق قراءته الجديدة لماركس، وهما «قراءة رأس المال» Lire le Capital و«من أجل ماركس» . Pour Marx ويرى عمر مهيبل ان ألتوسير نزع الى هذه القراءة بدافع سببين:
1 - شعوره بالنقص النظري للفلسفة الماركسية في فرنسا، بفعل انصراف الماركسيين الفرنسيين الى السياسة.
2 - الرد على النزعة الانسانية التي روج لها بعض الماركسيين الفرنسيين أمثال جارودي R.Garaudy ، والتي رأى فيها ألتوسير إفقارا للماركسية، وتجاوزا لطابعها العلمي.(٢)
القراءة المنهجية لرأس المال:
يعد منهج ألتوسير من المناهج البنيوية المغرقة في الصرامة العلمية، لقد انتهى الى تقسيم مسار ماركس الفكري الى مرحلتين كبيرتين:
مرحلة الشباب التي كان فيها متأثرا بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ومرحلة الكهولة والنضج التي قطع فيها ماركس مع ماضيه الايديولوجي والمثالي، ليبلور مقاربة علمية، تبدو بصورة واضحة في كتابه «رأس المال».
من خلال هاتين المرحلتين، يبدو ماركس قد حقق قطيعة ابستيمولوجية ونقلة معرفية من الممارسة الايديولوجية الانسانية الى الممارسة العلمية والنظرية، ومن التأثير الهيغلي- الفيورباخي الى الوعي الأصيل بضرورة قراءة الأشياء قراءة نسقية، تكشف عن بنيتها الخفية ونظامها الهيكلي، بدل الاكتفاء بالتأمل الفلسفي.

يرى ألتوسير أن القراءة الحقيقية التي يمكنها أن تكشف عن ثراء رأس المال هي القراءة الفلسفية، فقد قرئ الكتاب من قبل علماء الاقتصاد والمؤرخين، ولكنه لم يقرأ من قبل فلاسفة ومنظرين، يكشفون عن إشكاليته النظرية الجوهرية.
إن قراءة «رأس المال» من الزاوية الفلسفية يعني التساؤل عن المكانة التي تحتلها في تاريخ المعرفة. ومن هنا يطرح ألتوسير جملة من الأسئلة يلخصها في قوله: «هل أن رأس المال هو مجرد نتاج ايديولوجي من بين نتاجات ايديولوجية اخرى؟ هل هو اعادة تشكيل هيغلي للاقتصاد الكلاسيكي، ومحاولة فرض مقولات انتربولوجية محددة في المؤلفات الفلسفية للشباب، أو تحقيق لطموحات مثالية في «المسألة اليهودية» ومخطوطات 4481. هل أن رأس المال هو مجرد تكملة للاقتصاد السياسي الكلاسيكي الذي ورثه ماركس بموضوعه ومفاهيمه؟ وهل يتميز رأس المال عن الاقتصاد السياسي فقط بموضوعه ومنهجه الجدلي الذي اقتبسه من هيغل؟ أم أنه نقلة ابستيمولوجية حقيقية في موضوعه ونظريته ومنهجه... ».(٣)
القراءة الجديرة بنص ماركس في نظر ألتوسير هي «القراءة العرضية» Lecture Sympthomale وهي التي تنحو الى تتبع ما في الخطاب من فجوات La cunes ، وبياضات، وأماكن يظهر فيها خطاب ماركس وكأنه ما لم يقله الصمت Le non dit du silence على حد قول ألتوسير.(٤) إنها قراءة تبحث في لا وعي الخطاب، في صمته وتناقضاته، قراءة تفكيكية منتجة باختصار.
يصف ألتوسير هذه القراءة بأنها غير بريئة، بل أكثر من ذلك تطالب بحقها في الخطأ. ويرى أنه منذ فرويد بدأنا نتهم السمع والكلام، وبدأنا نتساءل عن القصد منهما، وأخذنا نكتشف خطاب اللاوعي. لقد كان ماركس الشاب يمارس قراءة العالم، وهو يكشف جوهر الأشياء، وجوهر العالم التاريخي والانساني وانتاجاته الاقتصادية والسياسية والجمالية.(٥)
نقد النزعة الانسانية- التاريخية:
لقد أعجب الماركسيون الفرنسيون بالقدرات التقنية العالية للبنيوية، ولكنهم ظلوا متحفظين بخصوص نزعتها اللاانسانية. وبخلاف هؤلاء سعى بعضهم الى امتلاك عناصر المنهج من أجل «إثراء الطاقة التفسيرية للماركسية».(٦)
ومن هؤلاء ألتوسير ومن سار على نهجه أمثال بيار ماشري P.Macheris ، وفرانس فريني F,Vernier ، ورينيه واتيان باليبار، وتيري ايغلتون، لقد قاوم ألتوسير التقاليد الهيغلية- الماركسية التي تم التأسيس لها مع لوكاتش وهنري لوفيفر H.Lefbver وبشكل خاص عند غولدمان . I.Goldman
سادت في فرنسا في بداية الخمسينيات والستينيات نزعة فلسفية تدعو الى ابراز البعد الإنساني في الماركسية، وكان جارودي رائد هذا الاتجاه. لقد أظهر هذا الأخير الأبعاد المثالية في الفلسفة الماركسية ذات الأصول الكلاسيكية الألمانية (هيغل، كانط، فيخته). لم يتقبل ألتوسير هذه النزعة، ورأى فيها مفهوما ايديولوجيا تجاوزه ماركس في فترة نضجه النظري، حينما حقق القطيعة المعرفية مع الفلسفة الانسانية ومفاهيمها الايديولوجية مثل: الإنسان والاغتراب، واستبدالها بمفاهيم جديدة كالتكوين الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية.(٧)
لقد اعتبر ألتوسير مفهوم «الماهية الانسانية» مفهوما ايديولوجيا ينتمي الى الحقبة المثالية عند ماركس، تخلى عنه بمجرد انخراطه في مسار علمي جديد.
كما يرى ألتوسير أن من المفاهيم الخاطئة عند الماركسية اعتبارها ذات نزعة تاريخية Historosicme فهي في مرحلته الثانية بطبيعة الحال- نزعة مضادة للانسان والتاريخ.(٨)
ويبرر التوسير ذلك بكون ماركس لم ينطلق من الذات أو الفرد أو الماهية أو الانسان، وإنما انطلق من نمط الانتاج وعلاقاته، أو من البنية الاجتماعية. فالفرد هو حصيلة العلاقات الاجتماعية. وليست الذات هي التي تصنع التاريخ بل الصراع الطبقي الذي يمثل شكلا من الصراع بين البنى والعلاقات الخارجة عن الارادة الانسانية الحرة، والتاريخ في آخر الأمر هو تفاعل بين قوى(٩) وبين هياكل ونظم بنيوية قارة، وليس نتاجا للفاعلية الإنسانية.
وقد وصف غارودي طروحات ألتوسير بأنها «لا إنسانية نظرية» ورأى أنها أخطات في تصورها أن في الامكان انطلاقا من المفهوم (العلم) معالجة البنى والعلاقات الاجتماعية بصرف النظر عن الاختيارات الإنسانية، هكذا يلغى «الجانب الفاعل» من المعرفة الذي طالما ألح عليه ماركس بوصفه اللحظة الذاتية».(١٠)
لقد كرست هذه النزعة دوغمائية جمدت الماركسية، وقضت على روحها الحية من خلال قطعها عن تراث الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. وتكمن هذه الدوغمائية في نظرته الى التاريخ بوصفه كامنا في المفهوم لا في الانسان، حيث يتحقق التاريخ خارج إرادة البشر الذين «ينقلبون مجرد حوامل لعلاقات الانتاج، وتمسي الأخلاق والممارسة بصورة اعم خاليين من أي معنى».(١١)
لقد اراد ألتوسير تخليص الماركسية من أوهام الايديولوجيا، وضبابية المثالية التي أغرقتها في متاهات البؤس النظري، ومن ثم اجتهد في ابراز الأطر العلمية والمنهجية التي تأسس عليها فكر ماركس في فترته الثانية، كما توخى ألتوسير تفعيل الفلسفة الماركسية الفرنسية، وإثراء الخطاب النظري الفرنسي الذي أوشكت أن تقضي عليه السجالات السياسية والصراعات الايديولوجية.
ومهما تكن وجاهة الانتقادات الحادة التي وجهت لألتوسير خاصة من قبل الفلاسفة والانسانيين Humanistes ، فاننا لا نستطيع أن ننكر القيمة المعرفية الكبرى للمقاربة الألتوسيرية، حيث أثرت الماركسية، وكشفت عن نواح مستورة فيها. ولا عجب فإن النظم المعرفية الكبرى هي التي تتيح مثل هذا الجدال لما تنطوي عليه من معالم الثراء والخصوبة والقابلية للتأويل وتعدد القراءات.


إشكالية الأدب والايديولوجيا:

إذا كان ماركس يرى ان الايديولوجيا ذات طبيعة وهمية وضبابية وتزييفية، فإن التوسير ينظر إليها بوصفها وظائف عملية ليس من السهل الاستغناء عنها.
وينظر ألتوسير إلى الأدب على أنه «نسق من التمثلات (من صور وأساطير وأفكار وتصورات حسب الأحوال). يتمتع داخل مجتمع ما بوجود ودور تاريخيين».(١٢)
ولكن من جهة أخرى يرفض أن يكون الأدب شكلا من أشكال الايديولوجيا، ويضعه في منزلة بين الايديولوجيا والمعرفة العلمية. والعمل الأدبي الممتاز لا يقدم رؤى مطابقة للواقع، كما انه لا يتوقف عند التعبير عن ايديولوجيا معينة. إن العمل الفني الجاد لا ينقل الايديولوجيا، بل يقع على مسافة منها. ان التخييل الجمالي لا يكتفي بإعطاء معنى للعالم، بل يتجاوز ذلك الى تقنيع علاقاتنا مع هذا العالم بل وقمعها كما يقول رامان سلدن.( ١٣)
يذهب أنصار المدرسة الألتوسيرية الى أن الأدب يمارس شكلا من التعمية الجمالية، ينزع فيها الى فضح الإيديولوجيا، وابراز زيفها وتناقضاتها، بل نقلها أو التعبير عن تكاملها وتماسكها.
لقد انطلق ألتوسير من مقاربة مختلفة لعلاقة البنية التحتية بالبنية الفوقية، حيث تجاوز الطرح التقليدي القائل بالعلاقة الحتمية بين البنيتين، «فهناك درجات من البعد عن التأثير بالاقتصاد تحظى بها بعض عناصر البنية الفوقية، ومن اهمها الأدب والفن، بل إن هذه العناصر تمتلك - في لحظة تاريخية ما- دورا فعالاً يجعلها قادرة على التأثير في الاقتصاد ذاته».(١٤)
وهكذا يكون ألتوسير قد طرح رؤية ديناميكية للعملية الابداعية، نأى بها عن الطرح الماركسي المحتحجر الذي يسجن الفن في بوتقة القوى الاقتصادية والصراعات الطبقية.
وعلى العموم، فان المدرسة الألتوسيرية استطاعت- بفعل عمق طروحاتها النظرية- أن تحتل مكانة هامة في الساحة الفكرية الفرنسية التي زخرت خاصة في الخمسينيات والستينيات بتيارات فكرية وفلسفية متميزة، وشهدت صراعات حادة بينها، شكلت ثورة الطلاب سنة 1968 احدى وجوهها ومعالمها البارزة ، لقد أثرت هذه الثورة الى أزمة الفكر الفرنسي ومأزق النزعة البنيوية الصارمة، ولكنها أبانت- في الوقت نفسه- عن عمق الصراعات بين الماركسية والوجودية من جهة والوجودية والبنيوية من جهة أخرى، وأشير هنا الى ذلك النقاش الخصب الذي دار بين سارتر وكلود ليفي شتروس.


الهوامش
١ - عمر مهيبل، البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر، ديوان المطبوعات المركزية، الجزائر، ١٩٩١، ص180.
٢ - المرجع نفسه، ص182- 183.
٣ - Louis A Ltusser et Etienne Ballibar, Lire le Capital, Maspero. Paris, 1973, p11-12.
٤ - عمر مهيبل، البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر، ص183.
٥ - المرجع نفسه ، ص١٢- ١٣.
٦ - Marc Marxisme et theorie litteraire aux Etas Unis: Auto critique des premieres
mediations esthetiques in sociocritique; ouvrage collentif, Fernand Nathan, 1979, p54.
٧ عمر مهيبل، البنيوية في الفكر الفلسفي، المعاصر، ص١٢٢- ٢٢٢.
٨ - . Lire Le Capital, P150
٩ - عبدالسلام المسدي، قضية البنيوية: دراسة ونماذج، دار الجنوب للنشر، تونس، 1995، ص١١/ ٢١١.
١٠ - روجيه جارودي، ماركسية القرن العشرين، تعريب نزار الحكيم، منشورات دار الآداب، بيروت، ط٤، 1978، ص248.
١١ - المرجع نفسه، ص250.
١٢ - محمد سبيلا وعبدالسلام بن عبدالعالي، الايديولوجيا، سلسلة دفاتر فلسفية، دار توبقال، الدار البيضاء، ط١، ١٩٩٩، ص١٠.
١٣ - رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة سعيد الغانمي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط١، بيروت، ١٩٩٦، ص٦٧.
١٤ - سيد بحراوي، علم اجتماع الأدب، الشركة المصرية العالمية للنشر، ط١، ١٩٩٢، ص٣٣.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق