إعدام - د. أيمن الجندي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 19 ديسمبر 2017

إعدام - د. أيمن الجندي

كان البدر قد اكتمل وبدأ يبدد ظلام المدينة. دب فى أوصاله نشاط مفاجئ حينما تذكر الجارية. لابد أنها الآن فى انتظاره تمشط شعرها الطويل المسترسل حتى خصرها. بدت له الليلة خيالية، وتحفل بشتى المتع. تحسس فى جيبه قارورة العطر فنثره على وجهه ولحيته.

عند انحناء الدرب تصاعدت رائحة الشواء. ابتاع لفافة لحم ومعها رقائق خبز. نبح كلب جائع فى شبه توسل، فضم إليه اللفافة بحرص، ثم أوسع خطاه عائدا إلى البيت يلاحقه الكلب.

حينما اقترب من بيته شاهد رجالا من جيرانه. توقفوا حين شاهدوه فتوقف الكلب. صافحهم متعجلا الذهاب للبيت تحدوه الشهوة للشواء والشوق للجارية. نظروا إليه فى حزن وطالبوه بالصبر. قالوا بصوت مختنق إنهم لن ينسوه أبدا، وأجهشوا بالبكاء. نظر إليهم مستفسرا، فأخبروه بأن محاكمته قد انتهت الآن فى ساحة المدينة، وصدر عليه الحكم بالإعدام. وكان منطوق الحكم هكذا:

«يُقطع رأسه على النطع غدا عند فجر اليوم التالى».

هز رأسه فى غير فهم وكأنه ينفض ما سمع. نطع! قطع رأس! محاكمة! إعدام! من قال أصلا إنه مُتهم؟!. ومُتهم بأى شىء؟ وكيف يحاكمونه ويصدرون الحكم دون أن يخبروه ليدافع عن نفسه؟!

نبح الكلب محتجا وقد عذبته رائحة الشواء. لم يهتم أحد بالإجابة عن سؤاله وكأنهم لم يسمعوه. قالوا فى حماس إن الحكم جاء قاسيا، وكان يجب أن يستخدموا الرأفة لأنها أول مرة. ثم عانقوه فى عاطفة جياشة، وانصرفوا وهم يجهشون بالبكاء.

راح يرمقهم وهم يختفون فى قلب الظلام. وقف حائرا لا يدرى ماذا يفعل. بالتأكيد هناك لبس فى الأمر! خطأ شنيع! ولكن هل التبس الأمر عليهم كلهم؟! يتحدثون عن تهمة ومحاكمة وإعدام، فكيف يُقضى فى شأنه دون أن يُعلنه أحد؟!

كان البدر باسما فى السماء. والبيت على بعد خطوات. وفى يده لفافة اللحم، وقريب منه الكلب يبصبص بذيله فى حماس. الجارية تنتظره. تمشط شعرها الطويل المسترسل حتى خصرها. وفى جيبه قارورة العطر. الجارية أيضا تجيد الغناء. هذا كل ما يشتهيه من الدنيا. طِيْب وطَرَب وشواء ونساء. لكن فى المقابل هناك عنقه الذى قد يطير.

صحيح أنه لم يفعل شيئا يستدعى المحاكمة، ناهيك عن الإعدام. لكن يصعب على شخص فى مثل موقفه أن يتجاهل الأمر، ويذهب للاستمتاع بالجارية والشواء. لابد أن يستطلع الأمر أولاً.

سار إلى المحكمة والكلب يتبعه فى حماس. شاهد سكان المدينة يغادرون المحكمة، وكلما شاهده أحد راح يعانقه، ويطالبه بالصبر، ثم يجهش البكاء.

قال إن هناك خطأ فاحشا، وإنه لم يفعل أى شىء يستدعى الإعدام. أحس بالتعب من كثرة الكلام الذى لا جدوى منه، فغادرهم غير ملتفت لأحد، حتى وصل إلى الساحة، وهناك وجد الجلَّاد منهمكا فى إعداد النطع وحدّ السيف وتهيئة المكان. حاول أن يستفسر منه لكنه لم يرد عليه. دخل مبنى المحكمة. وجد القاضى يلملم عباءته ويهم بالانصراف. أسرع إليه وقد تجدد أمله، تهدج صوته وهو يشرح قضيته، وضع يده على صدره: «سيدى القاضى. كيف تتم محاكمتى دون أن أدرى، على تهمة لا أعرفها». نظر إليه القاضى فى صرامة وقال: «إن التهمة ثابتة عليه بشهادة الشهود».

سأله عن نوع التهمة، فأجابه «إنه قد تأخر فى المحكمة، وزوجته لا شك غاضبة من تأخره، وأن ملف القضية أمامه يمكنه أن يطالعه كما يشاء».

القاعة خالية تماما، فيما عداه هو ولفافة الشواء التى بردت وخمدت رائحتها، والكلب الذى يعوى فى توسل، قافزا برجليه الأماميتين. أزاح الكلب فى شرود دون أن ينتبه إليه. وبدأ يقرأ الأوراق، يقرؤها بسرعة، فى لهفة وذعر، الكتابة بخط اليد، منمقة قليلا، كتبها- ببال رائق- رجل ليس مهددا بالإعدام!

اسمه موجود. وضع أصابعه عليه. لكنه لم يفهم شيئا على الإطلاق. أما التهمة التى يُحاكم على أساسها فلم يستطع الوصول إليها. كانت أعصابه تالفة وحتى لو قرأها ما كان ليفهمها. أخذ يقلب الأوراق على غير هدى، حتى وجد أسماء الشهود: «على الدين العدنانى»، و«هلال الدين صنعان».

غادر المحكمة بسرعة، يتبعه الكلب بحماس. الشوارع شبه خالية، والليل ينقضى بسرعة، النجوم تشتبك كى ترحل، ومعها رأسه! وصل إلى بيت الشاهد الأول. دق الباب. أطل العدنانى من الشباك. وبّّخه لأنه يزعج الناس فى هذا الوقت من الليل، أما الشاهد الثانى فقد أوصد الباب فى وجهه، لأنه لا يحب الكلاب.

كانت هذه هى المرة الأولى التى ينتبه فيها إلى وجود الكلب خلفه. نظر إليه فى غير فهم، فاغرورقت عينا الكلب بالدموع، وراح ينبح مشيرا إلى لفافة اللحم. غادر الحارة مخذولا وقد صار يشعر بالتعب الشديد.

جر قدميه إلى بيت الوالى، لعله يؤجل تنفيذ الحكم، لكن الوالى قابله بوجه عابس، وهو مستاء من إيقاظه، قائلا إنه (لا مساس بأحكام القضاء!!).

جلس فى الساحة وقد فرغ من الأمل وبلغ به التعب منتهاه. بدت له الحياة ثقيلة جدا، كئيبة جدا، سخيفة جدا، ومن المستحسن أن يفرغ منها الآن حالا. المدينة نامت. النجوم نامت. الجارية نامت هى الأخرى وربما مستيقظة وتمشط شعرها لسيدها القادم. لم يشعر بأسى ولا أسف. لم يشعر بشىء على الإطلاق، سوى أنه مُتعب جدا، وأن الحياة لا تستحق كل هذا التعب، والموت - فى كل الأحوال - قادم قادم، ولن يختلف الأمر كثيرا لو عاش بضع سنوات أخرى أو مات الآن.

قرصه الجوع فتذكر لفافة اللحم. فتحها. بصبص الكلب بذيله وهو يتنهد تنهيدة النجاة. اقتسم طعامه مع الكلب. أغرورقت عينا الكلب من فرط السعادة. توقف عن المضغ فجأة وسأل الكلب متنهدا: «ما الفارق بين أن تُقطع رأسك بغتة وبين أن تموت فى فراشك فجأة، إذا كان كلاهما لم يُؤخذ فيهما رأيُك؟!».

هز الكلب رأسه موافقا أنه لا فارق كبير. ثم راح يمضغ اللحم وهو فى غاية السرور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق