جنوبا .. جنوبا - عبد السلام مسعودي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 30 يناير 2018

جنوبا .. جنوبا - عبد السلام مسعودي


وهو يطلق صيحته الأخيرة قادما إلى هذا العالم، مكتشفا سر الحياة لم يخطر بذهنه أن القفز في مَلكوت الربّ ما هو إلا إمتحان سماويّ، دفتر على الحساب تُدوّن فيه الخطايا تِباعا بِتواريخ مُنزّلة، وهو.. هو.. ما عَليه يأتيه صوت منادي خلف خطوط القلب والعقل.. يَدعُوه لِلتريث.. لِلتعقّل.. لِلنكُوص عن التحرّر الوجودي. الرّغبة جامحة وخطيئة آدم تَسكُنه، ينتفض.. يقتحم غربته بأمنيات الجنوبي المقهور، ذاك الجنوبي الذي انتقل في رحلته الأبدية الى تخوم التّطهُّر.
 غادر قريته فجرا من زمن شبابي مُفعم بالحيوية والحلم، الطريق طويل لكنه يبدو سالكا نحو الشمال، تتسارع دقات الزمن في ثناياه لِبُرهة، اختل التوازن فيه، تبدو الخطوات مثقلة بتفاصيل مبهمة عن الحيّ، عن القبيلة، عن تشتّت النجوم وعن ملامح أولى اختفت زمن ولادة قيصرية، وهذه الأمكنة وتلك المنعطفات المنفلتة من ذاكرة الصبا تُرشده الى حكمة مُتطلّعة الى السماء، الى ترنيمة عشق أزلي تلوذ بتعويذة وطن جريح.
الخلاص.. الخلاص.. بحثا عن سُدرة المُنتهى تتجاوز أمنياته بحر الأرواح المشرّدة، يُغلق ستار لِيُفتح آخر في وجه الرّيح، تتبعثر أوراق الخريف جداولا للحزن والتّقيّة، يحطّ بِه الرِّحال منتصف العمر حيث يصارع خلايا هويته المُتوغّلة في التَشكّل.. الدهاليز تداخلت.. تهافتت.. تجمّعت قدرا موحّدا لسيره الجنوني صوب المجهول.. مجهولا أنت.. والذّهول.. ذُهول.
عانق تربة الجمال وصخب الممرات الضيقة، خَبِر حُروفها وشقاوة وسواسها الخنّاس، سار في دروبها زمنا، تداعت فيه الشطآن ملاذا لنفوره، صعوده نحو مجرة الخفاء أخفى قُدّاسه، قُدّاس روح غريبة ملّت الانتظار والرقص على النّار.
تلاشت الصور خلف ظله الكئيب حتى انتشرت في عروقه ابتسامة مريبة.. صمت طويل.. تحرّر فيه القمر من ظلمة المكان.. لِهنيهة تأتيه وشوشة.. وشوشة كائنات بعيدة تُنبئه عن موت قبيلة كانت هزيمته الأولى بالسليقة.. بالطريقة ذاتها اهتز القلم، صرخ الأفق على تخوم جينات ولائه القبلي والعاطفي حتى انكشف عري الحياء بداخله.. بحث هناك.. هناك لا وطن مرئي ولا خلود أزلي، بحث عن حزنه الخفي ليتركه جنوبا.. جنوبا ويقتسم فرحة اللحظة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق