الرجل الأعمى - كيت شوبان - ترجمة: أميرة الوصيف - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الخميس، 26 سبتمبر 2019

الرجل الأعمى - كيت شوبان - ترجمة: أميرة الوصيف


 رجل يحمل صندوق أحمر صغير بيدِ واحدة يهبط أسفل الشارع.
قبعته القديمة المصنوعة من القش, وثيابه الرَثة تبدو وكأن المطر ضربها كثيراً, وبأن حرارة الشمس جففتها مرات عديدة.
لم يكن الرجل عجوزاً, إلا أن علامات الوهن تبدو جَليةَ عليه.
مشى الرجل ذاهلاً تحت الشمس على امتداد الرصيف الكالِح الحارِق.
في الاتجاه المُعاكس من الشارع, يوجد المزيد من الأشجار؛ التي تُلقي بظلالها, كان الناس جميعهم يمشون في ذلك الاتجاه إلا ذلك الرجل , وذلك لكونه أعمى, وعلاوةَ على ذلك, لأنه غبي.
في الصندوق الأحمر الصغير أقلاماً رصاصية, التي كان الرجل يسعى جاهداً إلى بيعها.
لم يكن الرجل الأعمى يملك عصا, ولكنه كان يُرشِد نفسه, إما بسَحب قدميه على امتداد أحجار الواجهات, أو من خلال تَتَبع يديه للسياج الحديدية.
عندما وصل الأعمى إلى درجات منزل ما , حاول أن يصعده, في بعض الأحيان  عندما يصل الرجل إلى الباب بعد تكبده العناء, لا يفلح في إيجاد الزر الكهربائي, وعندها يحاول الرجل النزول بصبرِ واضح ويذهب في طريقه.
بعض البوابات الحديدية مُقفَلة, سافر أصحابها من أجل إجازة الصيف, كان الرجل الأعمى يستهلك وقتاً طويلاً يُجاهِد في فتح تلك البوابات, ولعل ما يحدث فارقاً هو أن الأعمى يظن أن الزمن كله تحت تصرفه.
في ذلك الوقت, نجح الرجل الأعمى في إيجاد الزر الكهربائي, ولكن الرجل أو الخادم الذي أجاب جرس الباب, لم يكن بحاجة إلى أقلام رصاص, وليس لدية أية نية للتورط في إزعاج سيدة المنزل حول مثل تلك الأشياء التافهة.
ظل الرجل في الخارج طيلة الوقت, ومشى لمسافاتِ طويلة من دون أن يبيع شيء.
ذات نهار, قام شخص ما بمنحه ذلك الصندوق المليء بالأقلام الرصاص, وأرسله ليكسب عيشه بعد أن سأم من تجوال ذلك الأعمى في كل مكان.
الجوع بأنيابه الحادة قرص معدته, والظمأ الشديد جَفف فمه, وعذبه.
كانت الشمس تغلي, تجول الرجل الأعمى في ملابسه الثقيلة, كان يرتدي سُترَة ومعطف فوق القميص, كان بإمكانه تغيير هذه الثياب, وحملها على ذراعه, أو إلقائها بعيداً, لكنه لم يفكر في ذلك.
شاهدته امرأه عطوفة من نافذتها بالأعلى, شعرت بالأسى حياله, وتمنت لو بإمكانه عبور الطريق إلى حيث الظِل.
عرج الرجل الأعمى إلى الشارع الجانبي حيث الجَلَبة, والضوضاء التي أحدثها مجموعة أطفال أشقياء أثناء اللعب.
جذب لون الصندوق الصغير الذي يحمله الرجل الأعمى انتباه الأطفال, وأرادوا بشدة أن يكتشفوا ما يوجد في داخل الصندوق, حاول أحد الأطفال أن يأخذه ويهرب, إلا أن غريزة الرجل الأعمى لحماية نفسه , والدفاع عن مصدر رزقه الوحيد, جعلته يُقاوِم, ويصرخ في الأطفال, وينعتهم بالشتائم.
جاء أحد رجال الشرطة إلى حيث الجَلبَة الموجودة في زاوية الشارع, وعندها وجد أن الرجل صاحب الصندوق هو مركز التوتر والإزعاج, اقترب منه الشرطي, وجذبه من ياقته , ولكن عندما رأى أنه أعمى, امتنع عن ضربه , وأرسله في طريقه ليكسب عيشه.
عاد الرجل مرة أخرى, يمشي تحت الشمس الحارقة, هائماً على وجهه , يتجول بلا فائدة, ثم انعطف إلى شارع مزدحم بالسيارات الكهربائية الوحشية التي لا تَكف عن إصدار أصواتاً صاعقة ذهاباً وإياباً, تُطلَق أجراساً مُفزعة, حرفياً كانت الأرض ترتعش تحت قدميه من قوة دفعها المُريعة.
عندما بدأ الرجل الأعمى يعبر الشارع, شيء ما حدث, شيء ما مُريع حدث, شيء ما جعل النساء تُصعَق, وجعل أقوى الرجال يشعرون بالمرض والدوار!
شفاه السائق كانت شاحبة تماماً كوجهه , ارتعش الرجل و تَرَنح من هَول الجهد البشري الخارق الذي بذله من أجل إيقاف سيارته.
من أين أتت كل هذه الجماهير فجأة؟! هل جاءت بفعل السِحر؟
الأولاد يهربون, الرجال والنساء يذرفون الدمع لمُصافحة أعينهم ذلك المشهد البغيض, الأطباء يندفعون مع حقائبهم , وكأن السماء هي مَن قامت بإرسالهم مُباشرةَ إلى هنا.
تنامى الرعب والفزع عندما أدرك الحشد أن الرجل الميت , صاحب الوجه المُشَوه هذا هو أحد الأشخاص الأكثر ثراءَ, الأكثر قيمة, الأكثر تأثيراً في المدينة!
رجل مثله معروف بحصافته, وحكمته , و بصيرته النافذة كيف يلاقي هذا المصير الرهيب؟!
كان المسكين يقود بسرعة بالغة من مقر عمله حتى يَلحق بأسرته التي ستبدأ عطلتها الصيفية خلال ساعة أو اثنين في منزلهم الصيفي على ساحل المحيط الأطلسي.
أثناء عجلته, لم يَلمح السيارة الأخرى القادمة من الاتجاه الآخر, وعندها تكرر الشيء الشائع, المروع , الأليم نفسه.
لم يكن يعرف الرجل الأعمى عما كانت كل هذه الضَجة , كان قد عبر إلى الشارع, هناك, حيث لا يزال يتعثر تحت أشعة الشمس الحارقة, ساحباً قدميه على امتداد أحجار الواجهات.

أميرة الوصيف كاتبة ومترجمة مصرية من مواليد 1990, تكتب باللغتين العربية والإنجليزية





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق