الفقر ليس بسبب للإحساس بالذل والمهانة؛ فالتاريخ
يسطر أن أعظم الشخصيات كانت تنتمي لأسر شديدة الفقر، وبالرغم من ذلك جاهدوا إلى أن
احتلوا الصدارة. لكن ما يهن من عزم الإنسان ويقتل أي شعور بالفرح هو الإحساس بأنه
مستضعف؛ لا يوجد من يرتكن له أو عليه في وقت الحاجة، وإن أراد شيئاً، يكون على ثقة
بأنه لن يوجد هناك أي شخص ليقف بجانبه، وليشد أزره إلى أن يتجاوز محنته. ومن ثم،
لا يجد صديقاً سوى نفسه فقط، لتصير شريكاً، ورفيقاً، وسنداً في وقت الشدائد.
فالمستضعف يحمل همه بين ضلوعه، وكلما كبرت همومه، ينحنى ظهره؛ لعدم قدرته على تحمل
المزيد. لكن الحياة القاسية لا ترحمه، وتبدأ في إبتلاؤه بالمزيد والمزيد من
الهموم، والشجون، والأحزان، والأعباء، وتضعهم على ظهره، وكأنها شيطان مريد يضحك من
صبره ويفرح لقهره. وفي إطار محاولات المستضعف أن يواصل زحفه في هذا الكون القاسي
الذي لا يلتفت له ولشجونه، يحاول أن يقيم عوده قدر المستطاع حتى لا ينحني لبشر، أو
يجعل الدنيا القاسية تشمت حين ترى أن ظهره قد انكسر. ومن ثم، لا يجد المستضعف سبيلاً
إلا تناسي أحلامه ولو لردح من الزمن؛ لأنه حتى ولو حدث بها نفسه لسوف ينكسر بلا
رجعة، لمعرفته أن الدنيا قاسية بلا رحمة.
لم يعبر عن ذاك الشعور من الأدباء إلا القليل، مثل
فيكتور هوجو Victor Hugo في روايته الشهيرة البؤساء. لكن لا يفضل عادة الأدباء إلقاء الضوء
على المعاناة الفردية إلا في إطار من الثورية والتمرد على الأوضاع، وبلوغ النجاح،
وجميعها فرص لا تسنح إلا لقلة قليلة. أما الطبقة المستضعفة التي تحيا حياة مريرة،
وتموت في ذلك المرار عبر عنها القليل ومنهم الشاعرة، والمؤلفة، والمعلمة الأفريقية
الأمريكية جويندولين إليزابث برووكس Gwendolyn
Elizabeth Brooks (7 يونيو 1917- ديسمبر 2000) التي خاضت
بأعمالها في غمار الحياة الشخصية للأفراد العاديين في مجتمعها، مصورة كفاحهم
وصراعهم مع الحياة. وبالرغم من أنها كاتبة أفريقية أمريكية إلا أن جميع أعمالها
تنطبق على سائر أجناس البشر مهما اختلف لونهم؛ لأنها تعبر عن حالة إنسانية. وجميع
ما تصوره من مشاهد إنسانية صادمة في أعمالها، فهي بالفعل نماذج لحالات قد شاهدتها،
وراقبتها، أو عاشت معاناتها. فهي تحاول أن تصور ما يحدث في قاع المدينة. وتقول
جويندولين إليزابث برووكس Gwendolyn
Elizabeth Brooks : "لقد قضيت حياتي في شقة صغيرة تقع في
الدور الثاني تطل على ناصيتين، مما جعلني أبدأ النظر لجانب، ثم ألتفت لأنظر للجانب
الآخر".
ولم تكن نشأة جويندولين برووكس باليسيرة، فوالداها
بالرغم من محاولتهم المريرة لتوفير تعليم جيد لها، لم يكونوا سوى فقراء. فلقد أراد
والدها أن يصير طبيباً، لكن انتهى به المطاف ليعمل حارس لشركة موسيقية. أما
والدتها، فلقد كانت عازفة بيانو في أوركسترا، وكانت تعزف الألحان الكلاسيكية. أما
جدها، فلقد كان عبداً ثم هرب ليعيش حياة الأحرار بعدما انضم لقوات الاتحاد أثناء
الحرب الأهلية. ولقد شجعتها أمها على الكتابة منذ الصغر لما اكتشفته فيها من موهبة
لافتة. وكانت دوما تشجها بقولها: "لسوف تصيرين النسخة المؤنثة للكاتب بول
لورنس دونبار Paul Laurence Dunbar"، وهو كاتب أفريقي أمريكي كان أبواه عبيداً، لكن انبلجت
موهبته الأدبية منذ الصغر.
وبالفعل، بدأت جويندولين إليزابث برووكس Gwendolyn
Elizabeth Brooks مشوارها الأدبي وهي مراهقة، حيث نشرت أولى
قصائدها وهي في الثالثة عشرة من عمرها. وصارت شاعرة تنشر أشعارها بشكل منتظم وهي
في الرابعة عشرة من عمرها، وبالتأكيد كانت تخفي عمرها الحقيقي وتدعي أنها ربة
منزل، في حين أنها كانت لا تزال طالبة بالمدرسة. وتوالت نجاحات جويندولين برووكس
وخاصة بعد نشر ديوانها الأول "شارع في مدينة برونزفيل" A
Street in Bronzville عام 1945 والذي لفت جميع الأنظار. لقد نقده
الكاتب الأفريقي الأمريكي الكبير ريتشارد رايت بقوله: "أهم ما يمييز الديوان،
أنه يخلو من الإحساس بالشفة على النفس، فهي لا تجاهد أن تستنفر المشاعر. كل ما
تفعله أنها ترقب الواقع وتنقله كما هو. وبكل سهولة، استطاعت أن تلتقط الرثاء فيمن
قدر لهم العيش في شقاء، وأنين جرحى الحياة، وكذلك أدق الأحداث التي يبتلى بها من
يعيشون في فقر مدقع، أضف إلى ذلك وضعت يدها على مشكلة التمييز بسبب اللون التي
تنتشر بين الزنوج". وبسبب بساطة مفرداتها وسهولة مقارنة المشاعر التي تعبر
عنها بما يحدث للمستضعفين في جميع أنحاء العالم، فازت جويندولين برووكس بالعديد من
الجوائز القيمة في المجال الأدبي عالمياً، وكذلك تقلدت العديد من المناصب الهامة.
ففي عام 1950 حصلت على جائزة البوليتزر لتصير بذلك أول كاتب أفريقي أمريكي يحصل
على هذه الجائزة على الإطلاق. وانهالت عليها الجوائز الأخرى والمناصب الشرفية
وصارت الشاعرة المبجلة لمدينة إلينوي بشيكاغو على مدار 32 سنة وذلك حتى وافتها
المنية، وكذلك صارت "الشاعرة المبجلة مستشارة الشعر في مكتبة الكونجرس
الأمريكية" والتي على إثرها صارت ممثل الشعر والشعراء في الولايات المتحدة
بأكملها. ولقد قد وصفها أحد النقاد البيض بقوله: "شعر جويندولين لا يعبر عن
حياة الزنوج، مثلما شعر روبرت فروست لا يعبر عن حياة البيض"، ويقصد بذلك أنها
تتحدث في أعمالها عن مواقف إنسانية عالمية يمكن تطبيقها في كل مكان وزمان.
ولقد عبرت جويندولين برووكس عن المستضعفين في الأرض
بأشعار كثيرة اكتسبت صدى واسع. ولوصف إحساس المستضعف ونظرته للغد كتبت قصيدتها
الشهيرة "أحلامي وأعمالي يجب أن تنتظر إلى بعد عذابي في الجحيم". وفي
هذه القصيدة تقول:
أمسك
العسل، وأخزن خبزي
في
جرار صغيرة، وفي خزائن إرادتي
وأضع
عليهم بطاقات تعريف واضحة، وألتمس من كل غطاء ومزلاج
ألا
يتزحزح عن موضعه إلى أن أعود من الجحيم.
أنا
جائعة جداً. أنا أشعر أني غير مكتملة.
ولا
بمقدور أحد أن يواسيني سوى بكلمة "انتظري"
هذا
الضوء الخافت الذي أحملق فيه بثبات بناظري
على
أمل أنه عندما تنسحب أيام عذابي الشيطانية
إلى
مآلها الأخير، وأواصل بقدماي هاتين كما قد تكون حالتهما عندئذٍ
وبهذا
القلب قدر استطاعتي
تذكر
طريق عودتي للمنزل
وحينها،
لن أكون قد فقدت الشعور بطعم
العسل والخبز التي قد تعشقهما تلك الطهارة القديمة.
وبالرغم من الإحساس بالكآبة والحزن في تلك القصيدة
التي توضح أن تلك المرأة الفقيرة لا تعيش سوى حياة ممزقة تنهش في روحها وكأنها
الجحيم مجسد في صورة شيطان، إلا أنها لا تزال تعيش على أمل أنه في يوم من الأيام
قد ينتهي هذا العذاب. وحينها لسوف تحاول أن تستمتع بالحياة حتى ولو تركها الزمن في
حالة مزرية.
تلك القصيدة هي واحدة من مئات عبرت فيها جويندولين
إليزابث برووكس Gwendolyn Elizabeth
Brooks عن حال المستضعفين في الأرض. وبالرغم من
كآبة الموقف، إلا أن المستضعف لا يجب أن يتخلى عن آماله وأحلامه لطالما لا يزال
على قيد الحياة. فلن يشد أزره سوى نفسه، والاستسلام لقسوة الواقع معناها الموت.
لكن، القوة الداخلية هي السبيل الوحيد لفتح أبوب الأمل حتى ولو كانت موصدة، وستظل
موصدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق