مـطــــــــــــــــــار - نبيل عودة - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 5 أبريل 2020

مـطــــــــــــــــــار - نبيل عودة



(1)
افقت لتوي من غفوة عابرة، تثأبت وتلفت حولي مستنجدا خيرا من الملامح المتناقضة للمسافرين.
مددت عيني طولا وسحبتهما عرضا، ويقيني يقول لي أن لا شيء جديد بعد، حشد من الخلائق عبرتهم بنظراتي المتحررة للتو من اسر النعاس وسلطانه وحرت اين استقر بنظراتي.
(2)
مددت أطرافي بقوة وتشنج، محاولا أن أصل لأبعد مما أستطيع، وأنا لا أدري ان كان ما يمر بي هو نوع من القلق ام الزهق لطول الانتظار.
كان الزمن يمر بطيئا مثقلا بالهواجس. وقد جفت ينابيع افكاري او كادت من معاناة الانتظار، الذي يبدو ان لا نهاية له.
للحظات تتجلى لي رؤى غريبة، فانفضها غير قانع، ومن حيث لا أدري، كان يتسرب لنفسي اكتئاب شديد، فأحاول التخلص منه بالتنقيب عن فكرة جديدة، تأخذني لأجوائها فأخوض لجة التأمل، فينشط فكري وينشغل، حتى نرى ما يكون من أمر هذا التعويق في وصول الطائرة.
ولكن اكتئابي وهواجسي كانت اقوى من رغبتي، فلم أعد أطيق صبرا لما أنا به فأخذت ابحث عن الصغيرين بعيني، دون أن أتحمس لمغادرة مقعدي الدافئ.
للحظة مرت في فكري آخر أحداث الطيران. نفضت الفكرة من دماغي عندما لمحت الصغيرين يلهوان بسعادة، يجران عربة الحقائب، أحدهما يدفع والآخر يركب، وتكاد قاعة الانتظار الفسيحة لا تتسع لسعادتهما المنفلتة، غير عابئين بما يدور من هواجس وأفكار، يصدمان الخلائق بالعربة، ويتابعان شيطنتهما دون حساب لأنس أو جن.
(3)
في المحادثة التلفونية قبل ايام، أخبرتني ان طائرتها ستصل الساعة الثالثة والربع بعد الظهر، حسب توقيتنا المحلي. في اليوم نفسه اتصلت مرتين مع استعلامات المطار للتأكد من عدم حصول تغيير في موعد وصول الطائرة. قبل خمسة ساعات غادرت البيت برفقة الصغيرين، اللذين لم يتنازلا عن مرافقتي رغم كل الاغراءات ومحاولة البرطلة لإبقائهما في البيت. حسبت ألف حساب لشيطنتهما وعبثهما. في الساعة الأولى لوصولنا لحقتهما وحثثتهما على الهدوء. وعدتهما بعشرات الهدايا الرائعة التي ستجلبها "ماما" إذا كانا طيعين لا يعذبان ويسمعان الكلام، والا لا شيء، يعودان كما جاءا بلا هدايا، وربما بلا "ماما" التي سترى شقوتهما وتعذيبهما لي من الطائرة، وتعود من حيث أتت. هذه الانذارات والتهديدات لم تنفع الا للحظات، عاد بعدها كل شيء الى أصوله الشيطانية. ركضت ورائهما من زاوية الى اخرى، مخبئا وجهي كلما صدما شخصا بعربة الحقائب المنطلقين بها على سجيتهما، متمردين على الأصول متحررين من الضغوط. منفلتين ثائرين.
- خزيتموني .. ماما اتصلت من الطائرة تقول انها لن تجيء .. وسترجع مع كل الهدايا .. مع الدب ومع القرد ومع سنوبي ومع ليلى الحمرا.
استمعا لي بصبر، نظرا بعيني بعض، وأخذت ملامح ضحكة ترتسم على شفاههما، ثم انفجرت ضحكاتهما التي لا تعرف حدود الوجل وأطار المنطق. جلجلت وصدحت بسعادة منفلتة من قلقي المبالغ وحساسيتي المفرطة لتصرفهما التي هي عين المنطق كما يريان. لعنت الاولاد والذي يخلفهم، واستسلمت امام اصرارهما ساحبا نفسي نحو شاشة الاستعلامات، للتأكد من جديد بان الموعد المقرر لوصول الطائرة لا يزال بلا تغيير.
(4)
الهيت نفسي بتأمل وجوه المسافرين وما تبوح به من تعابير. ملامح الوجوه تكاد تفصح عما في النفوس. تتجلى تعابيرها المتناقضة بين الوجل والسعادة. بعض الملامح هادئة ومستقرة، ومن تعابير وجوههم تعرف ان الطيران صار روثينا في حياتهم.
في رحلتي الاولى بالطائرة أصابني الوجل ساعة قبل الصعود الى الطائرة، وما انفك عني الا بعد هبوطها بساعة او أكثر، واليوم انا أكثر قوة، او ربما أكثر استسلاما. السفر بالطائرة علمني ان اواجه المجهول بشجاعة .. او ربما بلا مبالاة.
بحثت عن الصغيرين بعيني، فلمحتهما في آخر القاعة، يتبادلان ركوب عربة الحقائب. نظرت الى ساعتي مستعجلا تقدم الوقت، انتهاء الانتظار، انتهاء المعاناة من تصرفات الصغيرين.
(5)
أيقنت بيني وبين نفسي أنى بالغت في تقدير الوقت، فخرجت ساعتين أبكر مما يجب، وهذه نتيجة تسرعي احصدها مع شيطانين. حاولت العودة لتأمل تناقض الوجوه وملامحها متفاوتة التعابير، ضحكة خافتة جذبت أنظاري، فرأيت عناقا مستفحلا بين فتى وفتاة، يكاد الفتى يفترسها برغبة مفضوحة، وهي مستسلمة ضاحكة كالعصافير، لا هم ولا غم. أحاول أن أتذكر أيام فتوتي، والساعات الرومانتيكية، وأقارنها بالحالة التي أمامي. ظلال لابتسامة تريح قسماتي المتوترة من الانتظار الطويل وشقونة الصغيرين. بمرارة غير مفهومة أغطس في مقعد مريح. يمضي الوقت بطيئا. تشدني السيقان الوقعة في مستوى النظر فأطلق لعيني العنان. هل يليق بي أن أتأمل اللحم المكشوف؟ نشب عراك بين نظراتي المنطلقة على سجيتها، وراء ما انجلى من جمال التكوين وأسس البناء، وبين ما يعرف مجازا بالأخلاق، الذي يشجب ما انا فيه من متعة النظر مع سبق الاصرار لما يسمى مفاتن النساء. رفضت فكرة ان يكون ما اراه عورات يجب سترها. بعض الملابس تضيق عن استيعاب هذا العاج المتلألئ الوهاج. لوهلة يخيل لي ان بعض السيقان ولشدة فتنتها، تكاد تخرج من داخل التنانير. انتظرت ولم يحدث. ربما الملل مما انا فيه يدفعني للعودة الى سني المراهقة وتأمل السيقان ومفاتنها. بدأ بالي يخلو شيئا فشيئا. أفكاري تخلو من الصراع وانا امارس على سجيتي اكتشاف عالم النساء الكامن في الطبقات المنخفضة، وبعدها لا أدري كيف .. أخذتني غفوة سلطانية تحت ظلالها.
(6)
نظرت لساعتي فجفلت، اذ أن الوقت الموعود لوصول الطائرة مر بأكثر من نصف ساعة. هل أكون قد غفوت ساعة ونصف الساعة؟ نفضت عني بقايا النعاس ووقفت ابحث عن الصغيرين .. فلم أجدهما. أسرعت اجتاز القاعة من أولها الى آخرها، من يمينها الى شمالها. بحثت عنهما بكل انتباه ودقة، ولكن لا أثر لهما. تسارعت نبضات قلبي بعض الشيء وأنا حائر في مكان وجودهما. أتكون امهما قد وصلت واهتدت اليهما؟ ولكنهما يعرفان اين غفوت؟ خرجت من القاعة ملهوفا للبحث عن العفريتين، فاطمأنت نفسي حين لمحتهما يتشيطنان خارج القاعة، غير عابئين بما يدور حولهما. بشرتهما بان الطائرة وصلت، وانطلقنا لباب الاستقبال.
(7)
كان الزحام شديدا وبالكاد نرى الممر.
_ ارفعني لأرى.
أمرني الصغير. فامتثلت للأمر غير القابل للرفض.
- ارفعني انا ايضا.
أصرت الصغيرة وألحت مهددة بالبكاء.
أنزلته ورفعتها.
- أخ ..
حبست صرخة ألم، حين تلقيت ضربة ببوز حذاء الصغير في ساقي اليمنى، وأمرا لا يقبل الجدل:
- ارفعني.
توترت اعصابي وكززت على اسناني غاضبا:
- لماذا لم تبقيان في البيت؟
حملت الاثنين بشيء من الصعوبة والجهد الزائد.
- مرحبا.
حيا اخته وهو مرفوع.
- مرحبا .
ردت عليه منفلتة من الضحك.
- كفى حركة . لا أستطيع حملكما أكثر.
صممت بعصبية وأنزلتهما على الأرض. فواصلا التعشبق بعنقي، ولم أستطيع منهما فكاكا الا بجهد وضربتين على القفا.
(8)
مر الوقت وخرج عشرات الأشخاص دون أن أرى أثرا لزوجتي.
بدأت النرفزة من طول الانتظار تفعل فعلها في نفسي غير المطمئنة، المرهقة من الانتظار والأولاد.
استفسرت من أحد المسافرين ان كانت الطائرة التي وصل فيها قادمة من حيث تجيء زوجتي. فأجاب بالسلب. حرت قليلا وازداد شعوري بالإرهاق وصارت روحي في حلقي. أكاد أشعر بالاختناق، ولا أعصاب لي لمواصلة ارضاء الصغيرين.
هل تحضر ام لا تحضر؟
شاشة الاستعلامات لا تشمل رقم الطائرة المنتظرة فيما تبقى من طائرات. تركت الصغيرين وذهبت أتأمل مرة أخرى شاشة التلفزيون ... وعبثا بحثت بعيني. موعد هبوطها حان منذ أكثر من ساعة. ساعة غفوت، هل غفوتي هي السبب في عدم وصولها؟
ربما غفوتي لا تحسب في مقياس الزمن؟
استعدت في ذاكرتي للتأكد، تاريخ اليوم وموقعه من أيام الأسبوع، استذكرت استعلاماتي التلفونية مع المطار قبل خروجي من البيت، وحين وصلت بعد سفرة استغرقت ساعتين. قرأت رقم الطائرة وموعد هبوطها غير النهائي. ثم عدل الموعد بربع ساعة. وأصبح موعد هبوطها نهائيا. أمر محير. هل غفوت لأكثر من ساعة؟ لأكثر من يوم؟
هدأ الصغيران، اللذان لحقاني، من عبوسي الظاهر وعصبيتي الواضحة. التزما الصمت. هل يستوعبان ما يدور؟ يستجليان أفكاري؟ هل لمسا ما يعتمل في خلدي؟ هل يفهمان جوهر الموقف؟ يقدران خطورته؟
نظرت حولي مضطربا قلقا. ولت الوجوه والسيقان. ضاعت الألوان. واحتقن وجهي .. واستفحلت حيرتي.
صمت الصغيران بكآبة غير مفهومة فأثارا شفقتي. أمرتهما بانتظاري على مقعد قريب وعدم التحرك. فجلسا منصاعين. نظرت اليهما مرة أخرى، ولم أستطيع الا ان أنحني لأقبلهما هامسا:
- ماما تأخرت، سأذهب لأعرف السبب . فاهمين؟
هز الصغير رأسه بموافقة وتسليم. أما الصغيرة فعبست، وطأطأت رأسها وبانت الدموع في مقلتيها:
- أريد ماما .
- الآن ستجيئ .. لا تبكي.
سرت. ركضت. لا أدري. نحو مكتب الاستعلامات والقهر يمزقني. والحيرة تفعل فعلها، تزيدني نرفزة وعصبية، هل فعلتها وتأخرت أم يخبئ لي القدر مفاجأة؟
(9)
زحام شديد أمام مكتب الاستعلامات، وثلاث موظفات جميلات مشغولات بالرد على عدة هواتف، واعطاء الاجابات للحشد الكبير. بعد سؤال واستفسار عابر مع عدد من المحتشدين امام مكتب الاستعلامات، تبين لي انهم بانتظار الطائرة نفسها ... وأن شيئا غير مفهوم قد حدث.
خف همي قليلا لوهلة. وازداد قلقي أضعافا.
سألت شخص بقربي:
- هل وصلت الطائرة ؟
- السؤال هل أقلعت ؟ أجاب وغرق في صمته .
- هذا ما نحاول ان نفهمه ..
أجاب آخر دون أن أوجه له السؤال. قلت وكأني أكتشف شيئا جديدا:
- وما المشكلة في معرفة ذلك ؟.. حين يعطون الموعد النهائي لهبوط الطائرة. معنى ذلك انه أقلعت وأقامت الاتصال مع برج المراقبة ...؟
- ربما..
- ربما ؟
- هذا ما نحاول ان نفهمه منذ أكثر من ساعة .
- لماذا لا يعطون الجواب ؟
- لا أعرف .
- هل خطفت الطائرة ؟
- أفضل من سبب آخر .
- أي سبب ؟
- مثلا سقوطها.. ؟؟
- سقوطها ..؟؟!!
لا لن يحدث ذلك. الصغيرين وأنا؟ أبدا. هذا صعب على التصديق.
قالت موظفة جميلة محاولة أن يصل صوتها للجميع:
- حتى الآن لا ندري شيئا . الطائرة قد تكون عادت للمطار الذي انطلقت منه. أو هبطت لسبب أو آخر في مطار آخر. أرجو الهدوء والاطمئنان. سنعلمكم بكل ما يصلنا من معلومات.
- عن أي هدوء واطمئنان تتحدثين ؟
انفجر أحد المحتشدين فأسكته الحشد:
- ما ذنبها .. هي موظفة ؟؟
- لماذا لا يخبروننا .. لماذا يتسترون ؟؟
صرخ آخر.
وقفت صامتا اسمع ما يدور من حوار وصراخ وتعليقات وهمومي تتكاثر.. وأنا في حيرة من أمري.
مرت لحظات ثقيلة والكل غارق في تأملاته وتأويلاته. لم أعد اطيق الصبر والصمت والتأويل .. تركت الحشد وذهبت أطمئن على الصغيرين.
(10)
أخذت الصغيرين شبه النائمين الى داخل القاعة، أجلستهما على مقعدين، وتركتهما يغرقان في نومهما الهادئ.
كان الوقت يمر مثقلا بالهواجس، والقلق الطارئ يتحول الى خوف حقيقي من حادث مفجع. طلبت محادثة خارجية من البدالة الدولية، تحدثت مع أقاربي فأكدوا ان زوجتي سافرت بالطائرة في الوقت المحدد حسب البرنامج، وحسب ما يقدرون، يجب ان تكون قد وصلت. قطعت المكالمة تاركهم لحيرتهم وكأن سكين جزار ماهر قطعتني نصفين من وسطي. كآبة دافقة ملأتني. مرارة شديدة تتسرب لأعماقي. اتجهت نحو مكتب الاستعلامات .. كانت الوجوه مرهقة وتبدو عليها ملامح معاناة شديدة. بعض النساء أطلقن العنان لدموعهن، مما زاد شعور المرارة في نفوسنا، واشتد خوفنا من حادث لا ندري قدره.
- في أخبار العاشرة لم يذكروا شيئا ...!
ايقنت ان الحديث يدور عن طائرتنا. رفض فكرة حادث مأساوي كانت تتأصل في نفسي. ترى هل ينفع ذلك؟ هل له أثر فيما حدث بالفعل .. أو قد يحدث؟
هل من خبر جديد يزيل الكرب من نفوسنا؟ هل من كلمة تزيل قلقنا؟ قلت لجاري محاولا أن أنفس بعض همومي:
- الطائرة أقلعت .. الطيار أقام اتصاله مع برج المراقبة .. ثم انقطع الاتصال .. ولا يدرون السبب أين المنطق؟
لم ينصت لي أو أنصت .. لا أدري. قال مخاطبا نفسه:
- كيف أستطيع أن أعيش بدونها ؟
واستأنف صمته الممتد كما يبدو ونظراته المكسورة تبحث عن بارقة أمل، ثم تسقط فوق الأرض.
وقفت مذهولا للحظات. تأملته وأيقنت أن في الأمر سرا، تصارعت في رأسي عشرات الأفكار المؤلمة. حرت فيما أستطيع فعله. رفضت الفكرة الرهيبة التي يقودني اليها تفكيري. نظرت لوجوه الموظفات الجميلات، اختيار ملائم لوضع غير ملائم. حاولت أن استقرئ ما تخفيه ثغورهن المصبوغة بالأحمر، وما تخبأه عيونهن البراقة وما يكمن وراء هدوئهن المبالغ لحد التصنع. عواصف من القلق. اشتد شعوري بالعطش الذي يلازمني منذ ساعة دون ان أعيه. لم تكن لي رغبة في شيء. . ولا حتى بقطرة ماء. تحركت حاملا ذهولي وحيرتي، وقفت أمام براد الماء، ضغطت بأصبعي. ارتفع ناقور الماء، انحنيت، رطبت فمي ولساني ولم أستطع أن أبلع الماء. تركت البراد وتوجهت الى الصغيرين  شاعرا بالألم . حاولت أن أفكر بشيء لا أدري ما هو. تأملت في نقطة غير مدركة وجلست. أخذت الصغيرين في حضني، ضممتهما بقوة، تنشقت رائحة الطفولة ودفئها، وزجرت دمعة كادت أن تفلت، وانتفضت كالملسوع. فتحت عيني. فركتهما لإزالة الغباش والأشكال السريالية للوجوه. اتضحت المعالم والصور. تذكرت الصغيرين، وانتصبت متثائب مذهولا مطلقا نظراتي في أرجاء القاعة بحثا عنهما ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق