الهـذيـان و المطر - عادل المعموري - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

السبت، 9 مايو 2020

الهـذيـان و المطر - عادل المعموري


لم أشاهد وجه الغيمة ، تساقطِ المطر يشعرني أن السماء لا تريدني أن ألتقط أنفاسي ، ركضتُ أخوضُ في الماء الذي غمر الأرصفة والشوارع المعبَّدة بالإسفلت ، أحملُ مظلَتي ، المطر الذي يهمي يشعرني أنه يسخر مني ، هربتُ نحو جدار يظللني ، لا فائدة، ملابسي تبلَّلت ولازمني رجيف شديد ، التصقت ملابسي بجسدي ، يُخَّيل إليَّ أني أسيرُ عارياً ، الشوارع أُقفرت والسيارات لاتُرى سوى أضواءها الشاحبة من بعيد ، رحتُ ابحث عنها ، خشيتُ أن تفتش هيَ عني ولاتجدني ، ماذا دهَّاني ، السماء كانت صافية كصفاء نيتَّي بعد دقائق قليلة تفصلني عن اللقاء بها ، تجمعت الغيوم بشكل غير معقول ثم اسودّت وأرعدت ونشرت بريقها ضاربة وجه السماء.
أخرجتُ هاتفي من جيبي ، ضغطتُ على زر الأسماء ، رنّ هاتفها،
_أين أنتِ يا سهام ؟
_الووووو
_أنا معك ...كلَّميني سهام أين انت ؟
انقطعَ الصوت،أعدتُ المحاولة ...الرقم مشغول ، جسدي بدا يختض واعترتني رجفة من رأسي حتى أخمص قدمي ، تَسوَّرني القلق .أين ذهبت حبيبتي في هذا الجو الماطر ، ماذا لوحدث لها مكروه أسالُ مَن عنها .؟ عبرتُ إلى الجهة الثانية من الشارع ، وجدتُ مظلُة لمحلِِ مغلق ...اختبأتُ تحتها أراقبُ المشهدَ ،أسمع ُصوت ارتطام حبَّات المطر بسقفها الحديدي ، الاضوية تشع بضوء باهت خجول ، مرَّت الدقائق ثقيلة ،هبَّت ريحٌ لفحت وجهي ، ريحٌ باردة تيَّبست على إثرها ملامحي ، أُمسكُ بالمظلَّة ويدي ترتجف من البرد .
وقفتُ كمنارة آيلة للسقوط . ثمَّ تركتُ مكاني، الطريق ينبذُ خطواتي والبلل يتكور تحت بنطالي وفي تجاويف حذائي ، داهمتني نوبة حزن عقيمة ، خطواتي ضاعت في الماء الذي غمر الأرصفة، عينايَّ ترنوان إلى البعيد ، لاشيء غير العتمة الموحشة ، مازلت أحثُّ الخُطى ، لا أعرف إلى أين أذهب ـافتشُ عن ملامح الطريق .
ابحثُ عن إمراة أنا من تسبَّبَ في ضياعها ، موعدنا كان هنا في هذا المكان ،قرب هذا المطعم الشهير ، المطعم مُغلق أول مرَّة أراه مغلقاً، كم من مرَّة تواعدنا هنا ،ياإلهي ماذا جرى ، كيف أعود إلى البيت وفتاتي لا أعرفُ مصيرها ؟عدتُ من جديد أضغطُ على زر الاسماء في الهاتف،..أسمعُ صوت طقطقة ... أجفلني صوت المذيعة وهو يقول يقول (لايمكنك المكالمة ) تضببَّت الرؤية كثيرا ، السماء مازالت ترعد وتنذر بسقوط أمطار غزيرة أخرى .
تعبتُ من المسير وسط الاوحال ، الساعة قاربت الثانية عشرَ ليلاً ، موعدنا كان في الساعة العاشرة ،أختها الكبرى تعلم بموعدنا ، ماذا ساقول لها لو سالتني عنها ؟ ليتني احتفظتُ برقم هاتف أختها .
بغتةً ظهرَ لي شبح من بين الظلام ، لم أكن أميّز الأشياء التي أمامي البتة ، لا أعلم من أين ظهر لي ، رجل ضخم الجثة يرتدي جاكيتة أكبر من حجمه ، وجهه مكفهرا، لحيته مبعثرة ، سحنته سمراء قاتمة ، قسمات وجهه تدل أنه رجل خمسيني ، اقتربَ مني بهدوء و قال لي بصوت أجشَّ :
_اعطني الفُ دينار ؟
قالها ومدَّ يده نحوي ، حركة يده تؤكد أنه متيقن أني سأعطيه ما يطلب ،
اعطيته ورقة فئة الألف دينار ، تفحصَّها و وضعها في جيبه وقال :
_سأردَّها لك في المرّة القادمة .
قالها وراح يجرَّجر قدميه بصعوبة...بعد قليل ابتلعه الظلام، مرَّت لحظات أشدُّ قسوة من سابقاتها..شعورٌ بالإحباط يتملَّكني حد اللعنة ، غشى بصري ضوء من بعيد قادم نحوي ، أضواء سيارة لم أتبين شكلها إلا بعد أن اقتربت منَّي ، أخرج السائق رأسه وصاحَ بي :
_تاكسي ؟
_نعم
_اصعد؟
_لمْ تسالني إلى أين؟
_أصعد ...سأوصلك إلى أي مكان يعجبك.
جلست في المقعد الملاصق له دون أن أنظر إليه ، ما أن تحرَّكت السيارة حتَّى
رنَّ هاتفي ، أخرجته بسرعة ..قرَّبته من عينيَّ، ظهرَ لي إسم المتصل ،
_الوووو سهام.... أين انتِ؟!
_أعذرني لم أستطع تحمَّل قسوة الطقس ..ورصيدي نفد ...لم أكن املك المال لشراء الرصيد فتأخرتُ عليك بالرَّد .
_أين أنتِ الآن ..في أي مكان ؟
_أنا في البيت لمْ أخرج..... سامحني حبيبي ،
لم أجبها ،المهم أني اطمئننتُ عليها ، تنفستُ الصعداء وارحتُ رأسي على مسند الكرسي، أغمضتُ عينيَّ برهة ثم فتحتهما، شيء ما جعلني التفتُ نحو السائق ، فوجئتُ بذات الرجل الذي داهمني في عمق الظلام وطلب مني الألف دينار.. هوَّ بعينه ..أدار وجهه نحوي وابتسمَ كاشفاُ عن أسنان غريبة ، أردتُ أن أسأله عن مغزى فِعلَته معي واستدانته المال منَّي ، إلا أني أحجمتُ عن ذلك، لمحتهُ يرفع البنطال ليكشفَ لي عن ساقين رفيعتين يغطيهما وبرٌ كوبر البعير تنتهيان بقدمين كالخُفَّ..خُفَّا بَعير تماماً ، ألجمتني المفاجأة ، روادتني صرخة أرادت أن تنطلق من أعماقي ، جاهدتُ في أن ألجمَ خوفي، وبحركة سريعة فتحتُ البابَ وقفزتُ بكل ما أملك من قوَّة ، ارتطمَ جسدي بمخاضة الماء التي غمرت الشارع ، نهضتُ أجري صوب الجَزرةُ المكتضَّة بالأشجار.. بعد قليل ، رأيتُ السيارة تنطلق بأقصى سرعتها قاطعةً الشارع الطويل وتختفي خلف البنايات البعيدة ..اغمصتُ عينيّ محاولا ً استرداد رباطة جأشي، تنفست الصعداء وابتسمتُ في سرّي من تلك الاوهام التي أتعبتني كثيرا..ما أن رفعتُ رأسي حتى وجدته أمامي..الرجل سائق التاكسي هذه المرة رأيته حافياً ..خفا البعير ذاتهما يغمرهما ماء المطر وبيده الألف دينار مبللاً وهو يقدمه لي قائلا:
_ امسك فلوسك ..انتظرني هنا كي أجلب لك السيارة....لا تهرب انتظرني هنا ؟!.

عادل المعموري
٣/ ١٠/ ٢٠١٨



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق