زهرة بيضاء - عادل المعموري - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 22 يونيو 2020

زهرة بيضاء - عادل المعموري



أستوقَفَتْني في عرض الشارع ، سحبتني من يدي و تأبطتْ ذراعي، سرتُ معها منقاداً بلا مقاومة ، لم أسـألها من أنتِ..وماذا تريدين ؟
قطعنا مسافة ليست بالقصيرة ، طوال سيرها معي كنتُ أستمعُ لترنيمة أغنية تدندن بها بصوت خفيض ، يمنعني الحياء أن اكلمَّها أمام الناس ، ربما ألجمتني المفاجأة وأُسقط في يدي ، لا أريدُ أن أفقد تلك اللحظة التاريخية ، سيكون حديثي معها دقيقاً ومحسوبا، أعتقد أنها تعرف ًاني رجلا مشهورا ..وجوه المارة تحدق فينا جيئة وذهابا ، لم التفتُ إليها ولم تلتفت نحوي ، فترة صمت تخيم على رأسينا ، تمشي معي وكأنها تعرفني ، قادتني نحو الحديقة العامة القريبة ،أجلستني على الأريكة وجلست إلى جانبي، تاركة مسافة بيني وبينها ، التفتْ إلي وهمست :
_
لماذا لا تدخن ...أخرج علبة سجائرك (الأسبين) لم أُبدِ لها استغرابي من معرفتها نوع سجائري ..أشعلتُ سيجارتي، نفثتُ دخانها سألتني دون النظر إلي :
_
عطرك من النوع الرخيص
_
أَي نعم ..ابتعته بالف دينار .
_
أنتَ لستَ وسيماً .
_
نعم صحيح .
_
من أنتِ؟ أنا لا أعرفكِ ..أقصد لم أ تشرَّف بمعرفتكِ .؟
_لماذا الناس ينظرون إلينا ؟
_
ربما لجمالكِ الطاغي وكاريزمتك الفائقة.
_
لا يهمني ذلك ..ربما ينظرون إليك كرجل معروف ..أو ربما هم مستغربون من فتاة جميلة تجلس مع رجل عجوز ...يسرني أن أراكَ غدا ؟ قالتها دون أن تنتظر مني جوابا ومدت أصابعها البضة الناعمة لتعدّل من خصلات شقر انسدلت على وجهها
الملائكي ..أخرجتْ علكة ملونة من حقيبة يدها الصغيرة ، مضغتها ثم دورتها في فمها ، فانبثقت من بين شفتيها بالونة شفافة ، ثقبتها بلسانها بطريقة طفولية، سمعت طقطقة العلكة لتلتصق حوافها الممزقة فوق شفتيها ، قالت :
_
انا معجبة بك ...وهذه الزهرة البيضاء احتفظ بها معك.. عربون صداقتنا
_
شكراً ..امسكتُ بالزهرة ودسستها في جيبي .
_
لماذا تقولها من وراء أنفك ؟...نهضتُ من مكاني واقفا ..نهضتْ هي الأخرى ، وقد بانَ قصر قامتها ، رأسها يحاذي كتفي ..قالت لي وهي تعدّّل من وضع حزام حقيبتها على كتفها :
_
أ غدا القاك ؟
_
لا أعتقد.. يا كوكب الشرق.
_
من هي كوكب الشرق؟!
_
لا عليكِ ...لم تخبريني من أنت ِ وماذا تريدين ؟
لم تحر جوابا ..خرجتْ ماشية إزاء بوابة الخروج، أشارت لي بأصابعها بإشارة الوداع سمعتها تقول لي (أراكََ في الأحلام )..واختفت عن ناظري ..عند الباب استوقفني صديقي الشاعر الذي كان معي قبل لقاء الفتاة
قال لي بعتب وهو يمسكني من ذراعي :
_
لماذا تركتني وجلست في الحديقة لوحدك ؟
_
هل كنتَ تراقبني ؟
_
كنت أراقبكَ وأنت تتكلم مع نفسك .
_
كانت معي فتاة كالقمر ..ألم تشاهدها وهي تاخذني منك ؟!
هزّ صاحبي يده باستخفاف وأردف قائلا:
_:يا صاحبي: لقد شاهدتُكُ وأنت تسير لوحدك ..وجلستَ على الأريكة لوحدك ..سمعتكَ تتكلم مع نفسك
واستوقفتُك عند بوابة الحديقة ..هل كان معك أحد ؟!
_
لا أدري ..ولكن لحظة من فضلك
مددتُ كفي داخل جيب سترتي ..أخرجتُ له الزهرة البيضاء وقلت له :
_
هه..هذه الزهرة الجميلة أهدتني إياها قبل قليل .؟
ضحكَ مني صاحبي ،أخذ يتمعن في شكلها وهو يقلبها بين اصابعه وقال : :
_
تلك الزهرة... أنا قطفتها لك.. من حديقة بيتي !
.
.
بعد انتهاء مهمتي ، عدتُ الى البيت أفكر بتلك الفتاة.
ولقائي بها وجلوسي معها في لك الحديقة العامة ..أتساءل مع نفسي ..هل أصبتُ بمس من الجنون ..تلك الفتاة هل هي من نسج الخيال وتجسدت في الواقع كالقصص التي أكتبها ؟ ،اختلط لدي الواقع بالمتخيل..أيعقل أنها احدى بطلا ت قصصي ؟ دفعتُ باب دار ي ودخلت ..وقعت عيني على فتاة لا يظهر منها سوى جذعها من الخلف تجلس في أرجوحة حديقة داري ...فوجئت بالفتاة نفسها جالسة، عندما شاهدتني ابتسمتْ وهي تلوّح لي بوردة حمراء تشبه ورود حديقتي ..نظرتُ حواليَّ مستغربا لم أجد أحدا من أفراد أسرتي..ليس من المعقول ان تتركها ابنتي تجلس هكذا.. أين أولادي ياترى ؟ سألتها بجفاء :
_
كيف دخلتِ إلى بيتي ؟
_
دخلتُ من الباب طبعا .
_
لا تمزحي معي ..من سمح لكِ بالدخول ؟
_
لا تغضب ..اهدأ أرجوك أنا ضيفتك
تركتها واقفةً واتجهتُ صوب صالة الاستقبال فتشتُ الغرف الأخرى ..هالني عدم وجود أولادي ..عدتُ إليها مسرعا ..رأيتُ ابنتي الوحيدة جالسة في الأرجوحة ..ولا أثر للفتاة ..سألتني باستغراب :
_
عمن تبحث ..أنا هنا أمامك ؟
_
الفتاة التي .....
لم اكمل كلامي فقد رأيت الوردة الحمراء بيد ابنتي هذه المرة ..صحتُ بها غاضبا :
_
من أعطاكِ تلك الوردة ؟
_
أنسيت أنك قطفتها لي صباح اليوم قبل خروجك من البيت ؟!
توقفتُ طويلا قبل أن أستعيد رباطة جأشي ..ابنتي تنظر نحوي بغرابة ..اقتربتُ منها ، وضعتُ رأسي على كتفها وتمتمتُ مستسلماً :
_
هل تظنين ..إني بحاجة إلى معالج نفساني
.
في تلك الليلة نفسها كنتُ أريد اكمال الفصل العاشر من كتابة رواية ، كنتُ قد شرعت بكتابتها منذ خمسة أشهر..دخلتْ إلى غرفتي حاملةً صينية فيها كوب شاي.. وضعته أمامي ، قفَّ شعر رأسي وانتابتني رعشه هزّت كياني .. سألتها عن كيفية دخولها غرفتي؟ لم تجب على أسئلتي ..قالت لي وهي تمرر كفها على كتفي :
_
من فضلك.. لا تظلم بطلة الرواية لتجعلها تدخل تلك المواخير القذرة وهي بامكانها أن تعيش بدون تلك القذارة ..نظرتُ نحوها وقد إمتلأتُ رعبًا ..كيف عرفتِ ما أكتب ؟ اختفت فور سماعها صوت ولدي الصغير وهو يدلف إلى غرفتي طالبا مني حبة "براستول" لصداع يصيبه بين فترة وأخرى .
.
في اليوم التالي حسمتُ أمري بمراجعة معالج نفسي استعنتُ بصديقي الشاعر على ارشادي لأحدهم ..
ما أن صعدت الدور الثاني بصحبة ابنتي وولديَّ .. بعد لحظات استطعتُ أن أقف امام السكرتيرة التي كانت منهمكة بترتيب أحد الأدراج السفلية لمكتبها الصغير، ألهثُ من صعود السلم ..ما أن رفعتْ رأسها نحوي ، ابتسمت لي بذات الابتسامة ..كاشفةً عن شعرها الأشقر بازاحة الربطة بأصابعها البيضاء ، قالت لي بصوت خفيض هي تنظر في عينيَّ وثمة ابتسامة على شفتيها :
_
عبد الحميد عبد الله ..اجلس من فضلك بالدور .
_
هل تعملين هنا ؟!
_
نعم ياسيدي.
_
اخبريني بصراحة ..لماذا تطارديني في كل مكان ..من دلكِ على بيتي .. من سمح لك بذلك ؟
نهضت من مكانها ، ذات الابتسامة مرتسمة فوق شفتيها ، قالت :
_
أهديتك زهرة بيضاء في الحديقة العامة ..ثم اهديتكَ وردة حمراء من حديقة منزلك ورفضتها ..لماذا تكره الأشياء الجميلة ؟ هل بطلة روايتك الجديدة تستحق كل هذا المصير ؟ على كل حال انتظر لأدخلك على المعالج النفسي كي تتخلص من تلك الأوهام والكوابيس .
كانت ابنتي في حيرة مما حصل ، لم تستطع فهم مايجري، أمَّا ولداي فقد التزما الصمت ..بعد قليل أدخلتني امرأة عجوز ،أظنها عاملة التنظيف إلى غرفة المعالج النفسي ..تمددتُ على الأريكة لوحدي فيما بقي أولادي في الخارج ..فتحتُ عينيَّ لأرى المعالج كيف سيبتدئ بطرح أسئلته علي ؟ رأيتها تقف عند رأسي وبيدها رزمة أوراق بيض وقلم رصاص..اعتدلتُ في جلستي وصحتُ بها ، بلا شعور مني، فقدتُ اتزاني كلياً ..كان صوتي هذه المرّة عالياً كأنه ينطلق من جوف طبل صفيح هائل !
_
ياإلهي .......أنتِ أيضا ؟!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق