أن تعيش لتحكي - كاظم الموسوي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأربعاء، 23 ديسمبر 2020

أن تعيش لتحكي - كاظم الموسوي

اصبح ماركيز اسما معروفا بعد نشره قصصا قصيرة ومقالات في الصحافة، ولكنه لم يعتبر نفسه صحافيا، أو الصحافة مهنته. كان يريد أن يكون كاتبا مختلفا، وهو هدفه الرئيسي، رغم عمله في الصحافة مهنيا، وتقييم النقاد والأصدقاء لعمله، ومنهم من قال له ذلك، "أصدر ثاباتا اوليفايي- ضد كل مبرراتي- على أن الصحافة والأدب سينتهيان في نهاية الأمر إلى أن يكونا شيئا واحدا، وعلاقة مع " اليونفرسال" يمكنها أن تؤمن ثلاثة اتجاهات في واحد: حل مشكلة حياتي بشكل كريم ونافع، العمل في وسيلة إعلام مهنية وهي مهمة محترمة في حد ذاتها والعمل مع كليمنتي مانويل ثابالا، افضل استاذ في الصحافة يمكنني أن اتخيله..." (ص309) ورغم خجله الطاغي واصل في هذا المجال. بطاقته الإبداعية التي تفجرت في كل الاتجاهات، ومع الصعوبات الأخرى في عمل كهذا في بلاد غير مستقرة، اضطر إلى العمل في مجالات متعددة، تدور حول الثقافة ووسائلها. وتمكن أن يضع بصمته في كل ما قام به وإنتجه أو أسهم فيه. وساعدت صداقاته في عالم الفن والأدب في تسهيل أعماله وخياراته. أو الاستمرار في الحياة في تلك السنوات التي كانت اكثر قلقا، كما كتب عنها. وتنوع في العمل الصحفي من كتابة الافتتاحيات الى المقالات الادبية والنقد السينمائي والتحقيقات الصحفية التي قدمت له مداخل أو مقدمات لمواضيع الروايات التي كتبها بعد فترة من التحقيق فيها. وتابع اهتماماته في القراءة والصحافة، وكانت"مقالاته في "الزرافة" تجعلني شديد الحساسية تجاه الثقافة الشعبية، بعكس قصصي التي كانت تبدو الغازا كافكاوية كتبها شخص لا يعرف في أي بلد يعيش، الا أنه في الحقيقة، كانت روحي تشعر بمأساة كولومبيا كصدى بعيد، وتقلقني فقط عندما تطفح انهار الدماء، كنت اشعل سيجارة  قبل الانتهاء من الأخرى، اتنفس الدخان بشوق للحياة يشبه تشوق مرضى الربو لتنفس الهواء، العلب الثلاث التي استهلكها يوميا كانت تترك آثارها على اظافري وكحة تشبه نباح كلب عجوز..." (ص363)

سرد في فصول كاملة من المذكرات عن العمل الصحافي في بلاده، وعن الكتاب والصحفيين الذين برزوا في مشهدها اليومي، واسماء الصحف التي عمل فيها، وزملاءه الذين شاركوه كل ايامه، ومغامراته ومتاعب المهنة والرقابة وصعوبات العمل اليومي والمكاتب والمقاهي وبيوت الدعارة والفقر والجوع والحرمان.. بواقعها المحزن وتاريخها المأساوي أو الغرائبي، وفي هذه الأجواء التي سردها أو مناخاتها توفرت له رواياته التي سجلت له وعرف بها، بأسلوبه المتميز وإبداعه الفني وقدراته الثقافية وخجله الذي لا يعرف سببه.

رغم كل ذلك، رفضت اهم دار نشر في وقتها رواية له، اختارها وشجعه عليها النقاد وزملاؤه في الصحيفة، وكان هذا درسا له، "في يوم من الايام سلموني في الهيرالدو رسالة كانت قد فقدت بين اوراق رئيس التحرير، كانت تحمل شعار دار نشر لوسادا في بوينس ايريس فتثلج قلبي، لكنني تمالكت نفسي حتى لا افتحها هناك وانتظرت إلى أن أصل إلى ركني الخاص، بفضل هذا استطعت أن اواجه وحدي وبلا شهود لخبر أن "الورقة الجافة" تم رفضها، لم اكن بحاجة إلى قراءة الأسباب كاملة لأنني شعرت في هذه اللحظة ببرودة الموت" (ص413). ومع تبريرات وتعاطف زملائه احتاج لوقت لاستعادة توازنه. واستمر في مغامرته ككاتب، يقرأ في الساعات  التي لا عمل لديه فيها وتحت حر الظهر وخلال أيام الجوع كل ما يقع امامه، حتى كتب الجراحة ونصوص تعليم المحاسبة وغيرها إضافة إلى الكتب التي تصله أو يستعيرها لتنفعه في حلمه الثقافي. إدراكا منه أنه يعيش في مجتمع يحب الثقافة والعلم، ويتعلم مع تقلبات ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مع أن  "المدارس قليلة ومتفرقة، وعلى التلاميذ أن يسافروا كل يوم عدة فراسخ سيرا على الاقدام أو في قوارب ذهابا وعودة. بعض هذه المدارس كثافتها عالية  إلى درجة أنهم يستخدمون المكان ايام الاثنين والأربعاء والجمعة للاولاد، وايام الثلاثاء والخميس والسبت للبنات، بقوة الواقع كانت تلك المدارس الاكثر ديمقراطية في البلاد، لان ابن الغسالة الذي لا يكاد يملك طعامه اليومي يدرس في المدرسة نفسها التي يدرس فيها ابن العمدة" (ص458-459).

من طرائف ما سجله في مذكراته تكراره عن سوء الحظ الذي لاحقه في كل أعماله وشمل ايضا أصدقاءه واوضاع بلده السياسية، والطبيعة التي تزيد في المشهد الكارثي الذي عاشه، ولكن صبره وجلده ومتابعته وقدراته وصداقاته وفرت له فرصا متعددة، وآخر ما كتب عنه تكليفه في تحرير صحيفة غيرت في سيرته ومنحته فرصا ثرية.  من بينها حصول ما سميت بأيام الجمعة الثقافية، ولقاءات الزملاء والأدباء والبرامج الثقافية المتنوعة، التي غيرت نمط عمله اليومي من اعباء تحرير الصحيفة، الى أجواء اخرى، وبعدها أيام الأحد التي سمحت له بالراحة بعد تلك الأيام المجهدة والتي اتاحت له سماع الموسيقى دون احكام مسبقة، بفضل أصدقائه وزملائه القريبين منه، وذكرهم بالاسماء والعناوين والاماكن، دون أن ينكر فضلا لهم أو دورا في اشهار  عبقريته.

أضاف وفاء ماركيز وصدقه واخلاصه مكانة له بين كبار الكتاب والمثقفين في بلده وخارجه، قبل جائزة نوبل وبعدها. كما كشف ثقة الآخرين به، وهو ما أشار له عند لقائه قائدا للحزب الشيوعي السري في مخبأه السري والمفاجأة فيه. وهو يكتب تحقيقا صحفيا اراد أن يلم بكل جوانبه، فاتصل بأصدقائه  ليحصل على معلومات أكيدة. "دون سابق انذار، فاجأني في التلفون صوت متناغم وهادئ؛

 - اهلا جابرييل، انا جيلبرتو فييرا.

رغم أنه كان الأكثر شهرة بين مؤسسي الحزب الشيوعي، فإن فييرا لم يعرف السجن ولا المنفى دقيقة واحدة، الا أنه رغم خطورة أن يكون أي من التلفونين مراقبا، املاني عنوان بيته السري لازوره في ذلك المساء."(ص 475). واكتشف ماركيز بعد وصف السكن السري، والحوار معه، وأنه الرجل الذي يبحث البوليس السري عنه في البلاد، متابعا لكتاباته وحتى مقالاته المجهولة التوقيع، وكان يتفق معه على "أنه أفضل خدمة يمكن أن أقدمها للوطن هو أن أبقى بعيدا عن الانتماءات السياسية"(ص 476). وحصل على معلومات ثرية واستمر في صلته به في علاقة صداقة سهلت عليه التواصل وحتى في الأيام الصعبة من إقامته السرية.

بعد إصداره روايته مائة عام من العزلة" عام 1967 مبدعا فيها بأسلوبه المميز، والذي سمي بالعجائبي أو السحري، وعدت الرواية ممثلة لنوع ادبي عرف باسم الواقعية السحرية الذي تفنن فيه الروائي، وسجل له ولبعض من اقرانه المبدعين في قارته. عمم المصطلح بعد النجاح الكبير للرواية. وترجمت الى أكثر اللغات الحية وطبع منها  قرابة ثلاثين مليون نسخة. وفي عام 2007، أصدرت كل من الأكاديمية الملكية الإسبانية ورابطة أكاديميات اللغة الإسبانية طبعة شعبية تذكارية من الرواية، باعتبارها جزءا من الكلاسيكيات العظيمة الناطقة بالإسبانية في كل العصور. واثارت صداقته مع الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو الكثير من الجدل في عالمي الأدب والسياسة. واراد بها العمل من أجل شعبه ووطنه، والدفاع عن حقوق الإنسان في الحرية والتقدم والسلام والتنمية، وله مواقف وتصريحات مشهودة، يذكر بها وترفع القبعة له.

صدر هذا الجزء الاول من المذكرات في مطلع عام2002 في طبعة من مليون نسخة، وقدمت في اربع عواصم في وقت واحد لتكون أضخم طبعة لكتاب واحد في التاريخ. وجرى نقاش حول الأجزاء التي تليه، حتى نشر وصيته، رسالة الوداع التي اتمنى قراءتها والاستفادة من عبرها.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق