سيرةُ رجلٍ تافهٍ! - موسى رحوم عبَّاس - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأربعاء، 5 يناير 2022

سيرةُ رجلٍ تافهٍ! - موسى رحوم عبَّاس

 لم أجد في سيرتي ما يستحق الكتابة، أو التفاخر أمام الآخرين، وكنت أقول لأبنائي إنني لن أورثهم شيئا يفخرون به، وأحيانا هذا يشعرني براحة الضمير، فلن أترك لهم ما يتصارعون عليه، وسأحمل أوزاري على كاهلي وحدي، وأنا أعلم أنهم سيحاربون زمنهم كما فعلت، وسيحصون خيباتهم كما أحصيت، لكنها وحدها ابنتي (حياة) ترفض الاعتراف بهذا، وتصرُّ أن تشارك في مشروع الكتابة لطالبات فصلها، ذلك المشروع الذي لا أعلم من هو الذي اخترعه! وحدد له عنوانا واحدا، السيرة الذاتية لك أو لأحد أفراد عائلتك، اكتفيتُ في البداية بلعن أجداد من جلب لي هذه الكارثة، لكنها استمرتْ في خطتها، وجلبت لي قصاصات ورقية لما تنوي بعض زميلاتها تقديمه؛ لتغريني بالكتابة ومساعدتها في الحصول على الدرجة، وذكرت لي أسماءهن، حنين، بيانكا، سيلين، ليلي، كادي….مرفقة باسم عائلاتهن.

قرأت لي بعضها، ومنها:

” … تقدم والدي الجنرال قائد اللواء المدرع الخامس في الحرب، واخترق دفاعات العدو، وواصل ملاحقة فلوله، وكان قد وضع خطة محكمة للإيقاع به، واستطاع الالتفاف على طلائعه، ثم عاد إلى القيادة من الخلف، إنه يضرب به المثل في حسن التدبير، مدرسة في العلوم الاستراتيجية تدرس في الكليات العسكرية لجيوش العالم، كرمته القيادة ومنحته نوط الشجاعة؛ لأنه عاد سالما! …” فسألتُ ابنتي بخبثٍ لعلي أثنيها عن هذا المشروع، ماذا حلَّ بجنوده؟ مطَّت شفتيها، وقالت: سأسأل بيانكا غدا، وإذا لم تعرف ستسأل أباها الجنرال!!

بنى أبي أول مصنع للحلويات قرب العاصمة، وسماه على اسمي” مصنع كادي للحلويات العربية والشوكولا” ولأنه كان عصاميا، أقبل التجار على تمويله، فأسس مصنعا آخر للألبسة العسكرية مع والد بيانكا، وثالثا للأغذية المحفوظة مع والد سيلين وزير التجارة في الحكومة السابقة ، … “

ورغم احتجاجي على بعض التفاصيل وأن الشوكولا تسوس الأسنان، والمواد الحافظة ضارة بالصحة… إلا أنَّ حياة أصرت على أن أكتب سيرتي؛ لتدسها مع هؤلاء، وظلت تشرح منافع المشروع حتى نامت، وحُمِلتْ إلى سريرها حملا.

وبينما هي تعدُّ الخراف، بين النوم واليقظة، ربما كانت تصنع لي سيرة بطل يجعل أحلامه حقيقة، ويضرب بعصاه البحر، فتمطر عليه السماء فراشات من ذهب، وقصورا مسورة بالياسمين، كنت أكتب لعلَّ الكتابة تجلب لي النعاس: ” … هناك في تلك القرية ولدت، سنوات لم أتعرف على شيء اسمه الحذاء، كنت أظن أن العجاج الذي يملأ أفواهنا وعيوننا أمر طبيعي، ترسله قوة عظيمة لا راد لها، وأن الناس في كل مكان يأخذون حصتهم منه، التراخوما التي تفتك بعيوننا مثل العجاج شأن عادي وكل عين بشرية لا بد أنها تصاب في مرحلة ما به، عندما كبرت، فكانت أول فلقة في المدرسة؛ وعدت متكئا على أكتاف زملائي إلى بيتنا، أتذكر عبارة المواساة من والدي ” ضرب الحكومة شرف” عندها أدركت قيمة هذا الشرف الذي نالني، وتكرر عشرات المرات، في المخفر، وفي الوحدة العسكرية التي خدمت بها العَلَمَ، لأنني لم أضرب بقدمي  الأرضَ جيدا في تحية الملازم حَسُّون، وعلى الحدود عندما هربت إلى لبنان للعمل في مدجنة الخواجة جورج، وعبرت النهر الصغير؛ كيلا أدفع ضريبة الخروج، ظننت أني وفرتها ؛لأدفعها للحافلة اللبنانية التي ستأخذني إلى المدجنة، لكنني وقعت بأيدي حرس الحدود، ألم أقل أنني خائب حتى في الهرب! هل أحدثك عن الجامعة؟ كنت أتجول بين طاولات الطلاب في المقصف، مدعيا أنني كنت هناك لتناول القهوة، نعم، كنت أكذب، أدخل، وأخرج دون أن أتناول حتى الماء، قلتُ في إحدى المحاضرات للدكتور وقد سألني عن نظرية نقدية من إنتاج محلي، قلت له ببساطة إنَّها تافهة! ولا تستحق الوصول للمقررات الجامعية، وفندت له رأيي في نقاط عديدة، رسبت في ذلك المقرر أربع دورات، لم أكن أعلم أنهما صديقين ورفيقين في المنظمة! أخيرا تخرجت في تلك الجامعة، وهأنذا أمامك يا حياة، جثة تمشي في شوارع المدينة، أبيعكم المواعظ والأكاذيب عن مستقبل وشمس ستشرق من جديد، حتى إمام المسجد يبتسم عندما يراني أصلي في الصف الأول أحيانا، وكأنه يحسُّ بالحرج ممن يجب أن يكونوا في هذا المكان من وجوه الحي وتجاره… “

  في آخر الليل يصبح الزمن لزجا، وكأنني أغوص في وحل الساعات والدقائق، تهاجر الروح إلى سموات بعيدة، وتعود بألواح كتب فيها تاريخ أوجاعنا، لا شيء يفصل هذا المدى المظلم الذي تنفتح عليه نوافذي، كأنني أسمع ذئاب قريتنا الجائعة تفتك بحظائر فلاحيها، فلا نجد صباحا سوى الأشلاء والدماء والصوف الذي تذروه رياح الكوانين الباردة، ويعلق على أغصان الأشجار العارية، فتصعد الشكوى إلى السماء المغلقة دروبها في وجوهنا، تتركنا نجمع أوهامنا؛ فنحيلها أغنيات تجرح الحناجر، وعويلا يردد صداه النهر القريب، نهر الفرات الذي تحيطه أشجار الغَرَبِ أو الحَوْر الفُراتي، وغابات الزَّلِّ الذي يؤكد أبناء قريتنا أنَّ ” السعلوَّة” تسكن فيه، لهذا يضعون في أعناقهم أحجبة سميكة معلقة في خيوط خضراء من المُلَّا حاجي النقشبندي

   في اليوم التالي عادت ابنتي تحمل الورقة التي تركتها قريبا من وسادتي، وفاتني أن أمزقها قبل النوم، وهي تخبرني أنها أخذتها إلى مشروع الكتابة للسير الذاتية المدرسي، وتشكرني على مؤازرتي للمشروع، لكنها وجدتها بدون عنوان، رفضها صاحب المشروع ؛فأعادتها؛ لتسألني عن العنوان المناسب لهذه السيرة التي تود أن تطاول سير الآخرين المشاركة ، أدركتُ أنْ لا مجال للتراجع أمام إصرارها، وأنني في حفرة غميقة لن أتمكن من الخروج منها إلى برِّ الأمان، حاولت خطف الورقة بغية تمزيقها، لكنها كانت أسرع مني، ابتعدت مسافة أمان مناسبة، يبدو أنها تقدر جنوني جيدا، وتحسب له الحساب، عندها وبعد برهة صمتٍ وذهولٍ، قلتُ لها هذه سيرة شخصية عنوانها سيرة رجل تافه

السويد،إسكلستونا 2022

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق