يقال إن الطبيعة ملْك للإنسان، يغتذي منها وتمدّه بخيراتها، سواء
ما هو ناجز منها أو ما يستخرجه بالعمل. والحق أنه إذا جاز أن يقال ذلك في ما مضى،
أي قبل العصر الصناعي، فلم يعُد بالإمكان أن يقال ذلك اليوم. نعم، الطبيعة لم تعُد
ملكًا للإنسان. هي ملك للرأسمال بالأحرى. وحده يُنيخ عليها بِكَلْكَله، ويعتصر
مواردها لتعظيم الأرباح، ووحده يحتكر التصرف في ما كان قبل قرونٍ خلَت في حكم
المشاع بين الناس من أشياء.
من ذا الذي يملك أن يقول اليوم إن الماء والغذاء،
وربما الهواء (غدًا)، من المُتاحات الطبيعية للبشر التي تقدّمها الطبيعة إلى من
ينتمون إليها من الكائنات الحية ومنها الكائن الإنساني؟ لم يعُد شيءٌ من ذلك في
الحوزة العمومية بعدما حَوّلت الرأسمالية مواردَ الطبيعة من موادّ للاستهلاك
البشري المباشر إلى سلع تخضع لقوانين السوق. ما من شيء من أشياء الطبيعة، في عصر
الرأسمال، خارج رِبْقة الرأسمال والاستثمار والتسليع. حتى الإنسان نفسه خضع لسلطان
الرأسمال الذي اشترى قوّة عمله واستحوذ على فائض القيمة، تمامًا مثلما خضع للتسليع
فبات سلعة تنتقل ملكيّتها من مؤسسة إلى أخرى ومن شركة إلى شركة، كما يحدث اليوم في
انتقال لاعبي الكرة من نادٍ رياضي إلى آخر بعقود بيع وشراء!
في كل تاريخ الإنسان، ككائن حيّ طبيعي ثم
اجتماعي، كانت حاجاته طبيعية وموضوعية لأنّها في جملة الضرورات الحيوية التي لا
غنى عنها للبقاء. وكان يستطيع، باستمرار، أن يشبع حاجاته تلك من مجاله الحيوي
المباشر: الطبيعة. وحين كان يعسُر عليه وجودُها في الطبيعة، كان يوجدها من خلال
العمل؛ تلك الفاعليّة الفذة التي يحوّل بها عناصرَ الطبيعة لمصلحته. والحق أنّ
العمل المباشر- فرديًّا كان أو جماعيًّا- كان المصْهَر الذي أنجب الإنسان المنتِج
في التاريخ؛ بعد أن عاش طويلاً عالة على الطبيعة وخيراتها أسوةً بغيره من كائناتها
الحية.
لكنّ العمل الإنساني لم يعُد حرًّا منذ ميلاد
الرأسمالية وفشوّها في أصقاع الأرض، ولا حاجاتُه الموضوعية بات يمكنه إشباعها
بالقدر الذي كان يستطيعه قبلاً، من غير أن نقول إن إشباعها، اليوم، يقتضي جهدًا
مضاعفًا وثمنًا إنسانيًّا باهظًا. وهكذا، من استلابه إلى استغلال قوة عمله وتكديحه
في أقسى الشروط، إلى تحويله من كائن منتِج إلى كائن مستهلك، فإلى الاستغناء عن قوة
عمله اليدوية والاعتياض عنه بالآلة١، إلى إعدام وجود العمل الإنساني رُمّةً بإحلال
الروبوت محلّه، بل إلى موجة زحف الذكاء الاصطناعي. كان العمل الإنساني- وهو وسيلة
الإنسان الوحيدة لإجابة حاجاته- يتلقى الضربة تلو الضربة ويضمحلّ وصولاً إلى لحظة
الاختفاء، ومعها كانت قدرة الإنسان على الاستهلاك نفسُها تتراجع بتراجع مساحة
العمل، بل ويتقلص نطاق الاستهلاك عنده - الذي تفنّنت الرأسمالية في توسعة مساحة
معروضاته - إلى الحدود الدنيا التي يُسدّ بها الرمق.
لا شك في أنّ للعمل مكانة مفصليّة في التطور
الإنساني. إنه اللحظة الانعطافية الأعلى في التعبير عن فاعليّتين إنسانيّتين
وتجسيدهما؛ هما العقل والإرادة. إذا كان هذان سابقَين للعمل، أسبقية أنطولوجية
ومنطقية، وشرطين لازمَين له، فهو، (= العمل) لا يجسّدهما فقط، بل ينمّي طاقتهما
فيه كفعاليتين. وكلّما وقع نمو في الإدراك العقلي أو في الإرادة الإنسانية، انعكس
ذلك- بالتبعة- على العمل نفسه فولَجَ أطوارًا جديدة من التطور والتقدم بفعل تلك
الدينامية الإبداعية المتولدة من امتزاج فاعليات العقل والإرادة والعمل.
كان فلاسفة الإغريق في جملة من عَدّوا العقلَ
خاصية تفرّد بها الإنسان في النوع الحيواني، وبها انفصل عن محيط نوعه وتكوّنت
إنسانيةُ جنسه. ثم أتت مادّية القرن التاسع عشر تشدّد على مركزية العمل في صنع
إنسانية الإنسان وتمييزه عن الدائرة الحيوانية؛ لأنه بالعمل نَقَل عاقليّته من
النظر إلى الفعل، وامتلك مصيره الاجتماعي بيده. وهكذا مقابل تعريف دارج للإنسان
بما هو حيوان عاقل، انتصب تعريف ثانٍ وبديل له بما هو حيوان عامل ومنتج. غير أنّ
هذا الروح العملي- الإنتاجي لدى الإنسان بات يتعرّض للسّلب والمصادرة منذ بدأ
الاستيلاءُ الرأسمالي عليه، في القرن الثامن عشر، ومنذ شُرِع في تسليعه، وبالتالي،
في تشييء الإنسان.
والحق أن الفكر الإنساني الحر والنقدي لم يتوقف،
منذ أربعينيات القرن التاسع عشر، عن التنبيه من المخاطر التي تقود إليها عمليات
الاستلاب ثم الاستغلال والتشييء والتسليع لعمل الإنسان ومنتوجه، التي تصنعها
الرأسمالية، وإدخاله في قمقم الأرباح والمصالح الخاصة لفئات محدودة من المجتمعات،
ولو على حساب الروح الإنساني. وها هي عقيدة السيطرة على الطبيعة وإخضاعها بالقوة
العمياء، وتسخيرِها لحاجات الاستهلاك- وهي العقيدة المؤسِّسة للرأسمالية- تنتهي
بالإنسان السيّد إلى الصيرورة عبدًا للآلة والتقنية٢، وبالحيوان العاقل المنتِج
إلى حيوان مستهلك!
ما من نظام اقتصادي وإنتاجي في التاريخ نجح في إشباع الحاجات
المادية للناس مثل النظام الرأسمالي. نجح في ذلك لأنه حقق وفرة في السلع
والمنتوجات؛ وهي وفرة بلغت، أحيانًا، حدودًا ارتدّت عليه بجسيم الخسائر، خاصةً
حينما يزيد العرض عن الطلب زيادةً لم يكن يمكن السيطرة عليها بالنظر إلى نظام
المنافسة السائد وقوانينها التي كثيرًا ما كَبحت منازع الاستثمار إلى تعظيم
الأرباح.
ولقد تهيأت لنظام الرأسمالية شروطٌ تاريخية
موضوعية سمح له اغتنامُها بأن يحقّق تلك الوفرة الهائلة في المنتوجات، التي بها
أشبعَ تلك الحاجات. أظهرُ تلك الشروط الثورة العلمية الكبرى، التي انطلقت بين
القرنين السادس عشر والثامن عشر، والتي تولّدت منها مخترعات كانت الرأسمالية نفسها
شريكًا رئيسًا في إخراجها إلى الوجود، وغالبًا ما استُدخلت في جملة أدوات الإنتاج
التي سخّرتها. وهي ثورة لـم تفتأ تشهد على منعطفات كبرى في تاريخها، تُساوقها
انتقالات نوعية في التكنولوجيا- الخارجة من رحم العلوم؛ هذه التي ما تلبث هي
الأخرى أن تصير من عدّة الإنتاج الرأسمالي وعتاده، ومن الديناميات الدافعة نحو
مزيد من تحقيق الوفرة في السلع والمنتوجات.
إنتاج حاجات
جديدة
وما من نظام إنتاجي نجح في مخاطبة المادي
والغرائزي في الإنسان مثل النظام الرأسمالي. وما كانت مخاطبته له، دائمًا، من باب
إشباع ما يطفرُ منها ويفصح عن نفسه فحسب، بل كثيرًا ما نجح فيها من باب توليده
حاجات جديدة لدى الإنسان لم يكن ليَعيها كحاجات، أو لم تكن في حكم الحاجات لديه،
ولا كان يبحث لنفسه عن طريقة ما لإشباعها، لكن توليد الإنتاج الرأسمالي لها،
وتوفير العرْض لها حوّلها إلى حاجة جديدة لديه، وبالتالي، دفعه إلى السعي إلى
إشباعها ممّا يَعرضه عليه منتوجُها المهيّأ لهذا الغرض.
هكذا نجح النظام الرأسمالي في وضع البشرية
برمّتها أمام نوعين من الحاجات الذاتية؛ نوع مألوف هو الحاجات الطبيعية، المرتبطة
بضرورات النمو والبقاء؛ وقد فاقت الرأسمالية غيرَها في إجابتها وإشباعها بما غطّته
منتوجاتُها من خصاص فيها؛ وحاجات صناعية، غير طبيعية، اصطنعتْها للناس وأقنعتهم،
مع الزمن، بطبيعيتها وبضرورة إشباعها. ثم ما لبث المعروض عليهم من المنتوجات
المشبِعة لتلك الحاجات أن بات مألوفًا لديهم ومرغوبًا، وبالتالي جزءًا من عادات الاستهلاك
الجمعي، ومن يوميات إنفاقٍ ما يفتأ يتعاظم مع تعاظم الحاجات الاصطناعية إياها،
وتزايد قوّتها الإغرائية. هكذا أتت الصناعة- وهي من ثمرات الرأسمالية - تزاحِم
الطبيعة في إنتاج الحاجات الإنسانية، بل تتفوق عليها، أحيانًا، بمعروضاتها لتخلق
للإنسان طبيعةً ثانية تُجاور طبيعته الأولى.
ترسّخت، في الامتداد، نزعةُ الاستهلاك وتمكنت من
النفوس والأذواق، وقام على أساسها اقتصاد استهلاكي يوازي مطالبها ويجيبها، في
الوقت عينه الذي يخلق لها حاجات جديدة تستنفرها وتستدرج طلبها، أو يتفنّن في
إغرائها بمزيد من المعروض الجديد الجذّاب. ومثل أيّ اقتصادٍ يحتاج إلى تسويق جيد
وجذب للزبائن لتحقيق الدورة الاستهلاكية٣، كان على الاقتصاد الاستهلاكي أن يوفر
لمنتوجاته الأقنية المناسبة لاستدراج جمهور المستهلكين للإقبال على اقتنائها. وكان
على صناعة أخرى رديفة أن تقوم لهذه الغاية هي صناعة الإعلانات والإشهار، فتولّت
شركاتها ومؤسساتها دور إغراء جمهور المستهلكين بمنتوجات الاقتصاد الاستهلاكي.
سُخّرت لذلك وسائط إعلام متنوعة؛ من صحيفة وإذاعة وتلفاز ومواقع إلكترونية ومنصّات
تعليق الملصقات وكل وسيلة قابلة لتوزيع المادة الإشهارية البصرية بالمصاحبة الكلامية
ذات الحبكة السينمائية الفُرجويّة، أو بالبيانات المكتوبة تعريفًا بـ«فوائد»
المادة المعروضة.
هكذا بات للاستهلاك اقتصاده ومؤسساته ومهندسوه
وألسنته اللاهجة بجودة وسلامة منتوجاته. وتحولت المجتمعات إلى قطعان تنساق خلف من
يأخذها إلى المراعي ويختار لها نوع ما تقتات منه، مع فارقٍ هو أنّ على هذه القطعان
البشرية أن تدفع ثمن ما منه تقتات. في المقابل كان على الذين رسّخوا نزعة
الاستهلاك في ملايير البشر أن يطمئنّوا إلى عائدات صنائعهم وجزيل فوائدها؛ فلقد
تمكّن فيروس الاستهلاك من المجتمعات كافة، وكيّف أذواقها مع أنواع المعروضات عليها
منذ رَبِيَت أجيالٌ متعاقبة من أطفالها عليها، فصار الصناعي منها قاعدة والطبيعي
شذوذًا! ولم يكن ذلك كلّه سوى ثمرة شرَه دورة إنتاج رأسمالية مَهولة مَبْناها على
فكرةِ تقديس النمو والصناعة٤. شيئًا فشيئًا لم يعُد الاستهلاك عادة جمعية فحسب، بل
بات ثقافة موجِّهة للتفكير والوعي والفعل، فانتقلت البشرية بذلك من ثقافة الإنتاج
إلى ثقـافة الاستهلاك٥. وكما يمكن للمرء أن يُشبع حاجةً مادية (التغذية مثلاً)
باستهلاك منتوج غذائي، أصبح يسيرًا عليه- بدافعية الاستهلاك- أن «يُشبع» حاجة
«فكرية» باقتناص معلومات سائبة في الشبكة العنكبوتية مثلاً؛ فكلّ شيء جاهز ومعلّب
في عصر اقتصاد الاستهلاك!
ينظر
الكثيرون إلى الاقتصاد الاستهلاكي السائد، وإلى تزايد وتائره ووفرة معروضه، واتساع
نطاق الميادين الاجتماعية التي يشملها بحسبان ذلك كلّه من الآثار العاديّة
والمتوقعة لعملية التنمية الرأسمالية، ولتعاظم حركة الإنتاج التي تتولّد منها.
الرأسمال، في هذه النظرة، يتعاظم كلما اتسع نطاق الاستثمار، وتعاظمُه يدفع عجلةَ
الإنتاج في ميدان الحاجيات الاجتماعية، وبالتالي ينشِّط دورةَ اقتصاد يتميّز،
شيئًا فشيئًا، بانصرافه إلى إشباع حاجات متزايدة لمستهلكين متزايدين. والنتيجة أنّ
ما نعاينُه من رسوخ لثقافة اجتماعية استهلاكية في مجتمعات الأرض وفي المجتمعات
الغربية على نحو خاص، ليس أكثر من تعبير عن دورة إنتاجية واقتصادية موضوعية وحتمية
يفرضها التطوّر: من منظور سردية إيديولوجية تحَيّد الاستهلاك والنمط الحياتي
الاستهلاكي من أيّ غائيّة أخرى غير تلك التي يدّعيها منظّرو هذا الاقتصاد: إشباع
الحاجات!
ولقد يمكن أن
يُنظَر، بعين الحياد، إلى الاستهلاك بوصفه مسلكًا طبيعيًّا يأتيه الناس لإشباع
حاجات حيوية موضوعية لديهم. وبالمعنى هذا، سيُنظر إلى الإنتاج، بالتبِعة، بما هو
تلك الفاعلية التحويلية التي تجعل ذلك الإشباع ممكنًا وتوفّر له مادّته/ موادّه.
حينها، قد لا يُشتبَه في الاستهلاك ولا في نوع من الاقتصاد يخلقه. ولكنّ هذه
النظرة، وإن كانت تقول مبادئَ أولية في الطبيعة البشرية، تخفي الوجه الآخر
للمسألة؛ أي ذلك الذي يتحول فيه الاستهلاك من وسيلة حيوية، أو وسيلة لحفظ البقاء،
إلى هدف بعينه يُسعى إلى تنميته وتكريسه وبرمجة الإنتاج والاقتصاد والمجتمع
والإنسان عليه! والأنكى من ذلك حين يُسعى إلى توليد معيارية اجتماعية جديدة منه،
تتراتب بها المقامات، قائمةٍ على معدّلات الاستهلاك. نحن هنا لسنا أمام مفهومٍ
مجرّد هو الاستهلاك، بل أمام واقع مادي جديد يسمّى الاقتصاد الاستهلاكي أو نمطٍ من
العمل الإنتاجي يتغذى من تنمية قيم الاستهلاك في المجتمع.
الاقتصاد الاستهلاكي المعولم
هذا هو اليوم، من غير زيادة أو نقصان، الاقتصاد
السائد في العالم. بدأ في مجتمعات الغرب وتَعزز وعظُم حجمًا، ثم انتقلت نماذج منه
إلى مجتمعات الرأسمالية التبعية في بلدان الجنوب. إنه اقتصاد غير إنتاجي، في
المقام الأول، والرأسمال فيه يميل، حثيثًا، إلى أن يعيش داخل بيئات الاقتصاد
الطفيلي سريع العوائد والأرباح. وربما كان ذلك يلائم مجتمعات ما بعد الاقتصاد
الصناعي الجانحة نحو الرأسمالية المالية والاقتصاد الافتراضي (على ما فيهما من
كلفة باهظة تبيّنت في الأزمة المالية للعام ٢٠٠٨)، والمحقِّقة تراكمًا هائلاً من مرحلة
التصنيع، لكنه لا يلائم- قطعًا- مجتمعات لم تَلج العهد الصناعي بعد، أو هي وَلجتْه
في حدود نسبية رمزية. الأهم من هذا ومن ذاك، أن هذا الاقتصاد الاستهلاكي المعمَّم
يولّد، حيثما حلّ هنا وهناك، قيمًا اجتماعية استهلاكية (أحيانًا حيوانية) تستعبد
الإنسان، وتعطِّل فيه ملَكات العقل والإنتاج والعمل، والتوازن في الإنفاق،
ليتحوّل، من حيث لا يدري، إلى حيوان مستهلك!
لهذا الاقتصاد الاستهلاكي بيئة ينمو فيها
ويتكاثر، ولا يمكنه أن ينشأ إلا في وجودها، وهي البيئة المدينية. والتمدين
الاجتماعي لا يُقصد به الفضاء الجغرافي-السكاني (= المدينة) حصرًا، وإنما ما يقترن
به من علاقات ونظم اجتماعية وحياتية وقيم وعوائد لا تتكون إلا في العالم المديني.
ولقد تكفّلت الحداثة المادية- الاجتماعية والاقتصادية- بإنجاب هذه البيئة على مدًى
من الزمان طويل أعْملَ فيه التحديثُ أدواته، جنبًا إلى جنب مع الرسملة الشاملة
للعلاقات الإنتاجية. وحين انعطف الاستثمار الرأسمالي نحو إنتاج اقتصاد استهلاكي،
كانت بيئته المناسبة قد تهيّأت سلفًا لتؤمّن له يُسْر الاختراق والنجاح، وفي الوقت
عينه، الإمكانَ الفعلي لإعادة إنتاج نفسه ولديمومته. ولعل اتساع النطاق الاجتماعي
للطبقة الوسطى، في بلدان الغرب، مكّن الاقتصاد الاستهلاكي من أن يَفْشُوَ أكثر،
ومن أن يكتسي طابعًا جماهيريًّا أخرجه من النطاق الضيّق للطبقات العليا ذات القدرة
العالية على الاستهلاك، وفتح الباب أمام صيرورته نمطًا معمّمًا على الصعيد المديني.
وليس معنى ذلك أنّ قيم الاقتصاد الاستهلاكي لم
تطأ الفضاءات الاجتماعية غير المدينية، مثل العالم القروي، ذلك أن هذا الأخير لم
يَسلم من اجتياح تلك القيم له ومزاحمة النظم الحياتية والعوائد، الموروثة
والمرتبطة- أساسًا- بنظام الاقتصاد الزراعي. وزاد من تيسير الاختراق التدميرُ
الرأسمالي لأنماط الحياة القروية ولاقتران الاستهلاك فيها بالإنتاج المباشر،
والنجاحُ في الإدماج التدريجي للمجال القروي في النظام الاجتماعي العام، بما فيه
نظام الاستهلاك المعمّم. مع ذلك، يمكن دائمًا ملاحظة الفوارق الكبيرة بين أنماط
الاستهلاك الحادّة في المدن ونظيرتها في القرى في قسم كبير من مجتمعات الغرب.
ولكنها تترجم لحظة انتقالية في مسار جارف أكثر مما تعبّر عن «مقاومات» ريفية
لانتصار قيم المدينة واقتصادها وطبقاتها الاجتماعية.
على كل حال، يعكس الاقتصاد الاستهلاكي مفعول
دينامية موضوعية محايثة لمنطق رأس المال ومنطق الربح: يعيش الرأسمال من الإنتاج-
بتسخير قوة العمل أو الآلة- ويعظّم أرباحه، لكن دورة الإنتاج لا تستمر من دون
استهلاك يستوعب معروضاته. لذلك ليس أمام الإنتاج- ومن ورائه الرأسمال- غير تنمية
معدّلات الاستهلاك؛ ليس من طريق تجويد المنتوجات فحسب، بل من طريق اصطناع حاجات
جديدة تخلُق، مع الزمن، عوائدَ استهلاكية جديدة. كان يقال، في ما مضى، إن الحاجة
هي أمّ الاختراعات، وبِلغتنا: هي التي تفرض الإنتاج لتلبيتها وإشباعها. وهكذا كان
الاستهلاك والحاجة المستهلَكة الطاقة الدافعة لتحريك فاعلية الإنتاج. اليوم، لم
يعُد الاستهلاك هو من يخلُق الإنتاج ويبرّره، بل أضحى الإنتاج هو ما يخلُق
الاستهلاك وينوّع من أشكاله!
وسائل مخاطبة الغرائزي
تحرز استراتيجية «تنمية المنزِع الاستهلاكي» لدى
الناس نجاحًا كلّما نجحت في مخاطبة الغرائزي فيهم واستدرجتْه، بوسائل الإغراء
المختلفة، إلى النزوع نحو الإفصاح عن الرغبة في إشباع حاجاته. في هذا الباب، تبدي
همّةً كبيرة متسلّحة بخبرة علمية (مندمجة فيها): عضوية وسيكولوجية حول الكائن
المستهلك أو الذي يراد تعظيم نوازع الاستهلاك فيه. لا جَرَمَ أن مهندسي الاستهلاك
ومروّضي الغرائزي عليه يجدون أنفسهم مدفوعين إلى استثمار كل خبرة تتيح لهم اكتناه
مكنونات النفسيات الإنسانية (الفردية والجماعية)، وتسخير الوسائل الترغيبية جميعها
لاستثارة تلك المنازع. نحن نتحدث هنا عن استراتيجية؛ أي عن مشروع متكامل ابتنى
هندستَه من معارف علمية عن الإنسان- جسدًا ونفسًا٦- وتوسَّل إلى استدراجه بأدوات
الإغراء المختلفة: المكتوبة والمسموعة والمرئية، ووفّر لنفسه الجسم الضروري من
خبراء الهندسة الإنتاجية ومن خبراء التسويق. نحن إذن بإزاء صناعة كاملة تُجنَّد
فيها الموارد المالية الهائلة والموارد البشرية عالية الكفاءة قصد إنتاج ما هو شرط
ابتدائي لكل منتوج: تهيئة المستهلك وتنمية روح الاستهلاك فيه. وهي تحتاج منّا إلى
تحليل عميق لآلية المخادعة والاستدراج يتجاوز أدوات الوصف٧.
لا عجب، إذن، أن يسخَّر العلم في خدمة استراتيجية
تنمية الاستهلاك. ولا عجب في أن تنخرط في صناعة الاستهلاك جيوش هائلة من الخبراء
يجنّدها الرأسمال لهذا الغرض، وأن تتدخل مؤسسات عدّة ومتنوعة في هذه الورشة الضخمة
في شكل من الشراكة التعاقدية التي قد تصل، في بعض الأحيان، إلى حد الاندماج.
يتعلّق الأمر، في هذا، بشبكة متناسقة من وحدات الإنتاج والمختبرات العلمية ومؤسسات
الإعلانات ومؤسسات التسويق وفرَق عمل متخصصة من مهندسي الإنتاج، ومن الخبراء في
مجالات متخصصة، ناهيك بشبكات إعلامية خاصة أو متعاقَد معها على برامج لخدمة
المشروع. وقد تكون المؤسسات المنصرفة إلى تنمية الاستهلاك تابعة لشركات بعينها، أو
لمجموعة استثمارية مندمجة، وقد تكون مستقلّة عنها في شخصيتها القانونية والإدارية،
ومرتبطة بها بعقود عمل مشتركة، لكنّ وظائفها باتت حاسمة ولا غنى عنها بالنسبة إلى
أي مشروع استثماري في مجالات الاقتصاد الاستهلاكي.
على أن النجاح في مخاطبة الغرائزي في الإنسان
واستثارته وتحريكه بوسائل الإغراء لا يتحقق على مبنًى افتراضي، أي بمجرد الترغيب
في الاستهلاك (الغذائي أو الاقتنائي أو الاستمتاعي والاستجمامي، إلخ)، ولا يتولّد
منه- ضرورةً - دفعُه إلى الإفصاح عن الرغبة في إشباع حاجة ما، بل هو يكتمل فقط
بالتفنّن في تقديم المعروض المغري إليه على نحو يُحيّد فيه القدرة التنافسية
لشبيهه المنافِس، بما «يقنِع» المستهلِك بأنه أمام المعروض المناسب، قيمةً وسعرًا،
الذي يرغب فيه ويرى فيه ما سيُشبع حاجته. لذلك تسعى مؤسسات الإنتاج إلى تجويد
منتوجاتها الاستهلاكية كي تظفر بالطلب المناسب عليها، وتساعدها مؤسسات تنمية
الاستهلاك على مطابقة إنتاجيتها لرغائب المستهلك.
حدود في أسواق الاستهلاك
غير أن مشكلتين كبيرتين تظلان تلازمان كلّ سعي من
تلك المؤسسات إلى التفنّن في تصنيع منتوجاتها الاستهلاكية واحتكار مجال الاستهلاك:
أولاهما؛ المنافسة المحتدمة بين الشركات والمجموعات الإنتاجية داخل البلد الواحد
وفي العالم. وهي منافسة تحدّ من القدرة على السيطرة على مجتمع المستهلكين من قِبل
واحدة منها منفردةً ولو ارتفع سهمُها في مجال تجويد المنتوجات. لذلك تميل كبرى
المجموعات الإنتاجية، لفكّ قيود هذه المنافسة، إلى ابتلاع الشركات الأصغر وإدماجها
في مجموعاتها؛ شراءً أو شراكةً أو ما شاكل. وتجربة الاندماج بين شركات السيارات،
وشركات المنتوجات التكنولوجية والمجموعات العقارية مثالٌ لهذا المنحى الاحتكاري
الذي يغالِب المنافسةَ ويحتكر الإنتاج والاستهلاك. وثانيهما؛ مستويات القدرة
الشرائية العامة المنخفضة التي تكبح منزِع الاستهلاك، لتدنّيها، والتي لا يجد
المنتجون الكبار حلاًّ لها حتى الآن (لعلاقة الحلّ ذاك بتطور برامج التنمية)، ما
خلا العمل بنظام أقساط الدفع بدلاً من القروض البنكية.
جيشٌ جرّارٌ هو، إذن، ذلك الجيش الذي ينخرط في
معركة تصيير الاستهلاك هاجسَ البشرية اليومي الذي يُفني ملاييرُ النّاس قواهُم في
سبيله. مع الرأسمالية رُبطَت كل قيمة اجتماعية بالاستهلاك! حتى التحصيل المدرسي
والعلمي والعمل لم تعد لهما من وظيفة سوى تنمية الموارد المادية لتحصيل القدرة على
الاستهلاك. في الماضي كان الناس يستهلكون ما ينتجه عملهم من أجل أن يعيشوا،
وأصبحوا يستهلكون- في ما بعد ما لا ينتجونه (أيضًا من أجل أن يعيشوا)، ثم أمسوا
اليوم- مع نجاح الرأسمالية في تغيير كل القيم- مدفوعين إلى أن يعيشوا من أجل أن
يَستهلكوا!
قد يبدو معنى مفهوم الاستهلاك معنًى واضحًا بذاته، للوهلة الأولى،
بحيث لا يحتاج إلى بيان. وهذا هو الانطباع السائد عند الناس حين يتحدثون عنه،
فتجدهم يستبدهون معناه الذي وَقَر في نفوسهم؛ وهو المعنى الطبيعي، أي الاستهلاك
بما هو معطًى طبيعي، عضوي تدعو إليه الحاجات الحيوية للكائن الحي. والحق أن الأمر
ليس كذلك، دائمًا، أو – قُلْ- إنه لم يعد كذلك منذ خضع الاستهلاك لتلاعبات
اجتماعية ولاستثمار وتسخير من قِبَل من تراءى لهم فرصةً للتكسّب الفائض، ومغْنمًا
لتعظيم الأرباح. هكذا صار شأنه في المجتمعات الصناعية، الحديثة والمعاصرة،
المحكومة بسلطان النظام الاقتصادي الرأسمالي؛ وهكذا بات يرمز إلى حاجات لم تعُد
جميعُها موضوعية ولا حيوية.
اقتصاد الحاجات الكمالية
إذا ما تركنا جانبًا حقيقةَ ارتباط بعض ذلك
الاستهلاك بحاجات افتراضية، غير طبيعية، جرى تصنيعها ودمجها ضمن منظومة الحاجات
التي تنتظر إشباعًا، فإن العلاقة الطردية المألوفة بين الاستهلاك والحاجات- وهي
التي برّرت هندسةَ اقتصاد خاص مطابِق هو اقتصاد الحاجات- تُخْلي المكان، اليوم،
لعلاقة أخرى تقوم مقامَها، أو على الأقلّ، تُزاحمها هي العلاقة بين الاستهلاك
والكماليات. إن انتقال الإنتاج من إنتاج قيَم اقتصادية تُشبع الحاجات والضرورات
الحيوية إلى إنتاج سلع كمالية وتنمية روح إشباعها عند المستهلكين ينعطف بمعنى
الاستهلاك انعطافةً كبرى غير مسبوقة في تاريخ ما قبل الرأسمالية.
ما من شك في أنّ إنتاج الكماليات ينتمي إلى ذلك
النوع من الإنتاج القيصري للحاجات الافتراضية. إنه يصطنعها من دون أن يكون لها
أساس أو مبرّر في الطبيعة العضوية. ولكن الأهم من تصنيعها أنّ قواه تنجح في أن
ترسّخ النظر إليها لا بما هي كماليات فائضة عن الحاجات (لأنّ من شأن النظر إليها
بما هي كذلك أن ينزع عنها مبرر الوجود)، بل بما هي حاجات- وحاجات حيوية- لا سبيل
أمام الناس إلا إشباعُها والإقبال على استهلاك معروضاتها. وتقوم لتحقيق غرض تطبيع
العلاقة النفسية بهذه الكماليات مؤسساتٌ عدة شديدة الارتباط بوحدات الإنتاج
وشركاته. ولا تعوّل قوى هذا الاقتصاد الكمالي على «إقناع» المستهلكين- عبر وسائل
ترويض النفوس والأذواق- فحسب، بل تعوّل- في المقام الأول- على المفاعيل النفسية
لتعميم سلعها وصيرورتها، في بيئات عدة، من المقتنيات المألوفة التي يُقبل عليها
المستهلكون إقبالهم على الحاجيات والضروريات.
لعلّ حال الرفاه التي تتقلّب فيها مجتمعات غربية
عدة تفسّر لماذا استطاع اقتصاد الكماليات أن يفرض نفسه، جنبًا إلى جنب مع اقتصاد
الحاجات، بوصفه معطًى اجتماعيًّا عاديًّا وبديهيًّا؛ إذ المجتمعات هذه حققت من
الوفرة الإنتاجية ما غطّت به الحاجات والأساسيات ويمكنها، بالتالي، أن تترفّه في
الاقتناء والاستهلاك. ثم إنّ اقتصاداتها القوية وبرامجها التنموية الناجحة حققت
دخولاً قومية وفردية عالية، ومكّنت القدرة الشرائية لقسم عريض من المستهلكين من
التكيّف مع تدفّق السلع والمعروضات ولإغراءاتها. الأهمّ من ذلك أنها- أو قُلْ إنّ
بعضها الأقوى- هي من ينتِج تلك الكماليات ولا تستوردها إلا في الحدود التي يتوازن
فيها الاستيراد مع قدرتها التصديرية.
مع ذلك، يصطدم هذا المعطى بحقيقتَين لا مجال
لتجاهلهما، ولا لتجاهل محدودية اقتصاد الكماليات حتى داخل المجتمعات الغربية نفسها:
أولاهما، أن البلدان المنتجة للسلع الكمالية- أي
التي تفيض عن الحاجات الحيوية الأساس- محدودة نسبةً إلى البلدان المنتمية إلى
المنظومة الرأسمالية الغربية. فما كلّ بلدان الغرب منتجةٌ لها، وإن وُجد في أكثرها
إنتاج، فهو عاجز عن منافسة منتوجات البلدان الكبرى، وبالتالي، معرّض للخسارة في
ضوء أحكام التجارة العالمية الحرة من القيود. لذلك كثيرًا ما تكون كلفة اقتصاد
الكماليات باهظةً على الكثرة الكاثرة من بلدان الغرب التي تنفَق فيها استثمارات
كبيرة من دون عوائد مناسبة.
وثانيهما، أنّ سعة انتشار المنتوجات والسلع
الكمالية حتى في مجتمعات الغرب الأكثر تصنيعًا لها- مثل الولايات المتحدة وألمانيا
وبريطانيا وفرنسا وكندا وإيطاليا- ليست شاملة البيئات الاجتماعية كافة. إنها تمسّ
فئات برجوازية عليا وبعض الشرائح العليا من الطبقة الوسطى؛ وهذه، في مجموعها،
تمثّل قلة سكانية قد لا تتجاوز خُمس السكان. ومع أنّ أرباح الشركات المتخصصة في
إنتاج هذه الكماليات عالية جدًّا، إلا أنّ الاستثمارات فيها تكون على حساب
الاستثمار في القطاع الإنتاجي الذي يوفر السلعَ الحيوية لتغطية الحاجات، ويعود على
المجتمعات بأجزل المنافع. والنتيجة أنّ خللاً في بنية الاقتصاد الوطني يحصل على
نحو حادّ ومفارِق. وآيُ ذلك أنّ البلدان التي تقوى على بناء اقتصاد كماليات قوي
تعجز، أحيانًا، عن توفير مواد للاستهلاك الغذائي لمواطنيها، فيضطرها ذلك إلى
استيرادها من الخارج، وأحيانًا من بلدان الجنوب! هذا من غير أن ننسى أنها هي
نفسُها تخلّت، بالتدريج، عن الاقتصاد الصناعي، الأمر الذي يفسّر لماذا تجتاح
أسواقَها المنتوجات الصناعية الصينية والكورية الجنوبية والهندية والبرازيلية
وغيرها.
بيد أنّ الطامة الأطمّ في المجتمعات غير
الصناعية، وداخل الفئات والطبقات الوسطى فيها ذات المداخيل المحدودة، أنّ جاذبية
استهلاك الكماليات تفشو فيها وتتّسع نطاقًا، في امتداد فشوّ المنزِع الاستهلاكي
ورسوخ قيمه، على الرغم ممّا يرتّبه عليها ذلك من فادح الأثمان الاجتماعية. ولقد
يكون إثقال الظهر بالقروض وأقساطِها السامّة واحدًا من تلك الأثمان الثقيلة
المرهِقة التي يسترخصُها الصّرعى بنزعة الاستهلاك لمجرّد أنّ الأخير بات صَرْعة.
وهكذا؛ هؤلاء المستهلكون يستبعدهم الاستهلاك في مجتمع واقتصاد غير منتجيْن يخطّون
بمأساتهم ملامح صورة كأْباءَ لمجتمع أشد كآبة!
ما من قيمة من القيَم المادية والرمزية في الحياة الإنسانية لم
تُقِم الرأسماليةُ اقتصادًا خاصًّا بها. لقد حوّلتْها إلى موضوع للاستثمار ولإنتاج
سلع أو خدمات تُشبع الحاجات الاجتماعية من القيم لدى الناس، بما فيها الافتراضية.
لا يتعلق الأمر هنا بالقيم التي من النوع الذي يدخل في نطاق المواد الحيوية
كالغذاء والدواء، مثلاً، بل يتعلق بأخرى فائضة عن الحيوي في الوجود الإنساني،
لكنها تغطي بعضًا من الرغائب والمتع التي يسترْوح بها الناس، أو بعضًا من الحاجات
الرمزية: الثقافية والجمالية والروحية العميقة لديهم. إنها اقتصادات متخصصة تخاطِب
بها الرأسمالية بعضًا من الأبعاد الغرائزية وغير المادية في الوجود الإنساني،
فتستثيرُها وتوفر لها العروض للتحقق أو للتعبير عن نفسها حاصدةً، من وراء ذلك،
أرباحًا خرافية.
اقتصاديات الرضا والاستمتاع والاقتصاديات
الرمزية
يمكننا أن نُطلق على الاقتصادات المادية التي من هذا الضرب اسم
اقتصادات الرضا والاستمتاع. وهي مادية لأنها تنصرف إلى إشباع مطالب مادية لدى
الناس، من دون أن تكون حيوية في الغالب منها، أي من غير تلك التي يتوقف عليه
البقاءُ الحيوي. لنأخذ من هذه الاقتصادات مثاليْن شائعين ومعمّمين في العالم:
الاقتصاد السياحي والاقتصاد الرياضي. ويمكننا أن نطلق على الاقتصادات غير المادية
اسم الاقتصادات الرمزية؛ لأنها تشبع حاجات غير مادية: ثقافية في العموم، ولنأخذ
نموذجيْن لها: الاقتصاد السمعي والاقتصاد البصري. والتقسيم هذا اصطلاحي ومنهجي
فحسب؛ ذلك أنّ صورًا من التداخل توجد في كل اقتصاد من هذه الاقتصادات بين القيم
المادية والقيم غير المادية.
مَبنى الاقتصاد السياحي على الإمتاع وتحقيق الشعور بالرضا، على
استثمار الفراغ بما يولّد الشعور بتعبئته بوسائل تجديد الطاقة. لذلك هو اقتصاد
يقوم على إمبراطورية هائلة من الوسائل٨ والمرافق: فنادق وإقامات ومنتجعات
ومسابح وملاعب وملاه ومطاعم وبرامج رحلات استكشاف لمعالم مدن الإقامة، وصالات
رياضة، وخدمات أخرى سياحية لا حصر لها. إنه صناعة قائمة بذاتها تبدأ بأساطيل
الطائرات المدنية ولا تنتهي بخدمة التوصيل إلى المطار، وتقوم عليها دولٌ ووزارات
وشركات كبرى، وتُضخ فيها مئات ملايير الدولارات، سنويًّا، في بلدان العالم
الرأسمالي خاصة. وميزة هذا الاقتصاد أنه لا يعيش فقط من مستهلكين محليين بل هو
مفتوح على العالم وعابر للحدود. وهكذا صَنعت الرأسمالية للمتعة صناعتَها الخاصة
واستدرجت ملايير البشر لها، حتى أن السياحة تنوّعت: من سياحة استجمام وسياحة
استكشاف إلى سياحة جنسية، وأخرى ثقافية، وثالثة دينية، إلخ.
الاقتصاد الرياضي، مثل سابقه، مبْناه على صناعة المتعة ولكن، هذه
المرة، تلك التي تتولّد من مشاهدة عبقرية الجسم، وطاقته المتفجرة في الألعاب
الرياضية. وهو أيضًا اقتصاد إمبراطوري٩ تبلغ فيه معدلات الإنفاق مستويات
خرافية؛ على بُناهُ التحتية: من ملاعب وتجهيزات، وعلى موازنات جامعاته ونواديه،
وعلى رواتب لاعبيه وما يخضعون له من صفقات بيع وشراء، إلخ. وتقوم عليه دول ونوادٍ
تملك من المال ما تملكه الدول، ناهيك بالشركات الكبرى المتبنّية للأندية والمغدقة
عليها ألوان من الإنفاق شتّى. ولا تقلّ مداخيل هذا الاقتصاد الرياضي وفرةً عن
مداخيل الاقتصاد السياحي إنْ لم تفُقْه؛ فموارده ليست تُحدّ: من تذاكر الفرجة
لملايير الناس، إلى مداخيل الإعلانات والبث التلفزي، إلى الدعم المرصود من شركات
القطاع الخاص، إلى الموازنات الحكومية المرصودة، إلخ. وهو اليوم أضخم اقتصاد جاذب
للمستهلكين بعد الاقتصاد الغذائي والاقتنائي.
للاقتصاد الرمزي أيضًا جمهور مستهلك عظيم، وتتولّد منه أرباح
خرافية عائدة إلى من يقومون عليه. الموسيقى والغناء من أهم مواد الاقتصاد الثقافي
السمعي. وتقوم على هذا الاقتصاد مؤسسات لا حصر لها: شركات لتصنيع الآلات
الموسيقية، وأخرى لتصنيع الصوتيات، ومعاهد موسيقية عامة وخاصة، وصالات عرض
واستوديوهات تسجيل، وشركات إنتاج، وشركات توزيع، وأسواق، وعقود بث إذاعي
وتلفزيوني، ومهرجانات، ناهيك بموارد الدعم الخاص، إلخ. والأفلام والمسلسلات من أهم
مواد الاقتصاد البصري والتي تقوم عليها مؤسساتٌ خاصّة شبيهة: شركات إنتاج، وتسويق،
ومدن سينمائية، وعقود بـث تلفزي، وصالات عرض، واستوديوهات، ناهيك بما تعيش به من
موارد الإشهار، أو من الدعم الرسمي والخاص. والاقتصادان هذان مثالان فقط لِما قامت
عليه صناعات من مواد ثقافية لا تُحصى في العالم المعاصر، وإن كانا المثاليْن الأوسع
جماهيريةً للصناعات الثقافية في المائة عامٍ الأخيرة.
هي، إذن، قيم اجتماعية إنسانية- مادية ورمزية- تعبّر عن حاجات حميمية لدى الناس في الاستمتاع والاستجمام والفرجة والتخييل إلخ، لم يلْبث التصنيع والاستثمار والتسليع أن اقتنصها فحوّلها إلى مادة مجزية للاستغلال وتعظيم الأرباح. بهذا المعنى، لم تترك الرسملة ميدانًا لم تحتلّه وتحتكره في حياة البشرية. لقد صارت الكرة الأرضية بما عليها ومَن عليها ملعبًا لرأس المال ومادةً لجشعه الذي لا حدّ له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق