أشياء فلسفية: العائدون إلى الكهف: حديث في الغربة - محمد أبو هاشم محجوب - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأربعاء، 2 فبراير 2022

أشياء فلسفية: العائدون إلى الكهف: حديث في الغربة - محمد أبو هاشم محجوب

 إلى فتحي انْڤزّو

من منّا لم يقرأ أمثولة الكهف لأفلاطون؟ من منا لم يتساءل بعد قراءة ذلك النص البديع عن مدى ما تحققه الحرية من المعرفة،

وما تحققه المعرفة من الحرية؟ من منّا لم تشدّه تلك العبارة التي يجيب بها سقراط محاوره (غلوكون) الذي تدهشه تفاصيل المشهد لأنها غير مألوفة: غرابة المكان، والإخراج الأغرب لتلاحق الضوء والظّلمة واشتباه الأصوات والأصداء، وطبيعة التعايش الذي يقبع داخله سكان الكهف ينظرون إلى مكان واحد، ويعرفون نفس ما يشيع بينهم من غير تفاوت. قال : «إنهم ليشبهوننا». ولكن الأمثولة قالت إنهم على تلك الحال مذ كانوا صغارا. وليس لهم في ذاكرتهم أي أثر لمعرفة أخرى، ولا لحياة أخرى، ولا لتجربة أخرى. ويبدو أن هذا الخلوّ من كل أثر سابق هو شرط الأمثولة، ومرجع إمكانها. فلا تكون حريتهم ولا معرفتهم في هذه الحال إلا نتيجة لتعلمهم وتدرجهم في الحرية

سأقترح عليكم أن نعيد قراءة الأمثولة عبارةً عن عصرنا، ولكن «بالمقلوب». سنتخيل أن سكان الكهف قد دخلوه من بعد حرية ومعرفة ونضج ، وسنعيد سرد سيرة دخولهم تلك وما كان من أمر عودتهم ومراحلها وأسبابها. ومع ذلك سيكون علينا أن نحترم إيقاع الحكاية حتى نناظرها مناظرة، فلا يكون في حكايتنا من المراحل أو من العناصر أو من المشاهد «بالمقلوب» أكثر مما فيها في الأصل.
لذلك أدرْنا الحوار ثانية، وأجريناه بين سقراط و أبي حيان من دون أي التزام بوجهيهما التاريخيين.

- سقراط: «تخيّلْ رجالا ونساء قد بلغوا من المعرفة والحرية ما صاروا به أسياد أنفسهم، مسؤولين على أفعالهم، منفقين على أحوالهم، سعداء على قدر طاقتهم، متعايشين، لا يصدقون من المعارف إلا ما حقّقوه، ولا يأتون من الأفعال إلا ما كانوا مسيطرين على أسبابه متيقنين من آثاره، ولا يقبلون من الآراء إلا ما تحاوروا فيه في فضائهم المشترك، واصطلحوا على قبوله دون إكراه.

- أبو حيان: ما أغرب ما تصف يا سقراط. ما سمعنا قط بمثل هؤلاء القوم إلا في ما تَخيله أجدادُنا من أخبار الغابرين.

- سقراط: لقد حلُمنا نحن أيضا بحالهم تلك. ولكن الزمان حال دون حلمنا وحوّله إلى خرافة، وحتى الخرافة لم يبق لنا منها إلا خيالات وأوهام. ثم تخيلْ أنّ هؤلاء القوم لا يرون إلا ما يرسمون لأنفسهم، ولا يفعلون إلا ما تعزم عليه إراداتُهم، ولا يستنيرون إلا بأضواء مصابيحهم، فليس فيهم إلا ما كان من صنعهم وتمثّلهم. فلا الأشياء أشياء ولا الطبيعة طبيعة ولا العالم عالم: وكلّ ما يحيط بهم صور رسموها، وأسماء سمّوها، لا ينطقون بالاسم حتى يمثل أمامهم الشيء من تلك الأشياء.

- أبو حيان: لا بد أنّ حياتهم تلك ستكون حياة مريحة، وأن حريتهم ستكون بلا عائق، ورفاههم بلا حدود. ولعلّهم لا يتخَيّلون أبدا ما صِرْنا إليه نحن اليوم من العبودية والعوَز والقصور والالتصاق بالأرض؟

- سقراط: لا شك في ذلك. ولتتخيلْ الآن ماذا يحدث لهم لو أن أحدهم قد أخذه الحنين.

- أبو حيان: وإلام الحنين يا سقراط، وقد صارت الأمور إلى إرادتهم لا تخرج عنها؟

- سقراط: تخيل أنّ بعضهم يحنّ إلى طفولة بعيدة روى له بعض أجداده أنها كانت أقرب إلى الله، فيغريهم بأن نظامهم ذاك ورفاههم الذي وصفتُ لك، ليس هو الخير، وأنّ السعادة التي يجدونها في يومهم وليلهم سعادة موهومة، وأن ما عند الله منها خير مما عندهم، وأنه ليس عليهم إلا أن يولّوا وجوههم جهة أخرى حتى يتجلّى لهم المقدّس، ويتحقّق الحلم.

- أبو حيان: وما عسى أن يكون هذا القرب الذي يوصِّف لهم؟ أتُرى فيه من الرفاه أكثر مما يجدون؟

- سقراط: هم لا يرونه ولكن يتخيلونه، ويقصّون عنه أروع الحكايات وأعذبها إغراء وأجملها، ويروون عنه ما يقولون إنه أتاهم عنه من أجمل الأخبار.

- أبو حيان: لا شك أن هذا المشهد أمر يصعب تصديقه، ولكنه لو صح لكان خيرا من كل السعادات.

- سقراط: أترى الأمر يقف بصاحبهم الرّائي عند هذا الحدّ يا أبا حيان؟ أتراه يحكي لهم حكاية طفولة بعيدة يستلذونها، ويبتهجون لها، ويكتفون برجائها؟

- أبو حيان: وماذا بعد ذلك يا سقراط؟ لا أرى الأمر يقتضي أكثر من الإيمان به، والتصديق، ثم العودة إلى يومهم هذا بما لهم فيه من القوة ومن سلطة الإرادة، ومن تطويع كل شيء لها.

- سقراط: تخيلْ أنهم سيذهبون إلى أبعد من ذلك. وسيطلبون من صاحبهم الرّائي أن يدلّهم على ما به يلتحقون بتلك الطفولة بعد أن غادروها ونسوها.

- أبو حيان: إنه لأمر عجيب حقا: فما الذي سيطلبه منهم ثمنا لذلك يا ترى؟

- سقراط: سيطلب إليهم أن يغادروا يومهم هذا، وسعاداتهم تلك التي وصفنا، وما كان يُخيَّل لهم من سلطان إرادتهم على الأشياء، وما كانوا يجدونه من حسن نظام حياتهم في مدينتهم. ألا ترى أنهم وهو يطلب منهم ذلك، ويعدهم بما يعدهم به، سيجدون أنفسهم على طريق أوثق من الحرية؟ ألا ترى أنهم سيتفطنون فجأة إلى أن ما كانوا يعتقدونه قوة وحداثة وحرية ليس إلا وهما وابتعادا عن السعادة الحقيقية التي وصفها لهم، وأن تلك السعادة تستحق منهم عناء التضحية وبذل النفس في سبيلها؟

- أبو حيان: إن ما تصفُ غريب حقا يا سقراط، ولكن لا شك أنهم سيفكرون كما تقول.

- سقراط: هل ستستغرب بعد ذلك أن يطلب منهم لا فقط أن يتركوا مدينتهم وعلمهم ومعرفتهم وإنما أن يبدّلوا كلّ شيء، وأن يجبروا صغارهم ويقسروا نساءهم على هذا النهج الذي يعتقدونه موصلا إلى سعاداتهم التي وصفها لهم زعيمهم؟

- أبو حيان: كلا لن أستغرب ذلك.

- سقراط: فإذا ما تَعيّبهم أحدٌ بأنّ ما يؤمنون به لا يستوجب أن يتركوا حياة الحرّية وما كانوا فيه من المدنية، ألا ترى أنهم سيجيبونه بأن الحرية هي ما يفعلون إذ يتحررون من وهم سياسات التمثيل والديمقراطية، ومعرفة التمثّل والسببية، والفعل الموظِّف للمعرفة والعلوم، وبأن كل ذلك لم يكن إلا عبودية للتقنية والحساب.

- أبو حيان: لا شك أن ذلك هو ما سيقولون

- سقراط: فإذا ما دعاهم صاحبهم إلى أن يتركوا ما خدعتْهم به التقنية والمعرفة، وأن يتلفّتوا عن ثقافة أقوام لا يؤمنون بسعادة أخرى، وأن يخرجوا من مدنهم التي شادوها على غير مثال أجدادهم، وأن يعودوا اليوم إلى كهوف طفولتهم الدافئة التي يطيب فيها الحلم، ويحلو فيها ترديد أناشيد الأوبة، ويجدون لدنها الجواب عن كل حيرة، أتراهم يتبعون كلامه أم لا يتبعونه؟

- أبو حيان: بلى إنهم لفاعلون

- سقراط: فإذا ما كان في مدنهم تلك من لا يرون ما يرى أولئك، واستبسل هؤلاء في التمسك بنظام مدينتهم، ودافعوا عن تربية صغارهم على الحرية وعن تمكين نسائهم وأطفالهم منها مثلهم، وتمسّكوا بالعلم والمعرفة في حياتهم، تاركين الإيمان بسعادة أخرى خارج الشوارع المشتركة بين الناس، أتراهم يقبلون بهم أم يقاتلونهم؟

- أبو حيان: أعتقد أنهم سيقاتلونهم.

- سقراط: ألا ترى أنه حقا مشهد محزن أن يقتتل الناس في مدينتهم من أجل معتقد لا معنى له إلا خارج مدينتهم. ألا ترى أنّه حقا مشهد
محزن أن يقتتل الناس في الدنيا من أجل الآخرة؟

- أبو حيان: بلى. ولكني أجدهم مشابهين لنا. بلى. إنهم ليشبهوننا. وإنك لعليم يا صاحبي بأني كنت أقرب إلى تلك الطفولة التي يحنّون إليها، ولكني أجد اليوم أن الناس قد تقدموا ومضوا أشواطا في العمران، واعتبروا بالتاريخ، وإني لسعيد بذلك. أما هؤلاء الذين تصفهم، فما أشد ما ستكون غربتي بينهم.

- عند ذلك الحدّ أخرج سقراط من ردائه كتابا مخطوطا بأحرف لم يألفها، ثم وضع زجاجته على عينيه وقرأ منه: « يا هذا .. الغريبُ من إذا نادى لم يُجَبْ.. يا هذا أنت الغريبُ في مَعْناك».
قال أبو حيان ضاحكا: هذا مما كنت كتبتُه وأحرقتُه حتى لا يقرأني الذين من بعدي، فإذا بي مقروءٌ ممّن سبقني: «نحن نجتهد دائما في قراءة أسلافنا وفي فهمهم، وربما حتى في فهمهم أحسن مما فهموا أنفسهم. ولكننا لا نطرح أبدا على أنفسنا هذا السؤال: كيف يمكن أن نكون نحن أيضا مقروئين لأسلافنا»؟

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق