لم أحظ ،منذ أن أدركت وجودي في
هذا البيت، بأية التفاتة تجعلني أشعر بأني كائن مرغوب فيه ، والأكثر من ذلك أن لا
أحد من أفراد عائلتي تساءل لحظة عن تواجدي بينهم ، رغم تضحياتي الجسام من أجل
عائلة جاءت للعالم خطأ ، فالأب حاضر غائب ، غارق في مشاحنات مع الناس كل يوم في
بار المدينة ، متيّما بصديقته وحبيبة عمره البيرة وكؤوس بولبادر ، التي حولت فمه
إلى كهف فارغ من الأسنان ، ووجهه إلى بطاقة شؤم على الحياة ، وعندما يعود ثملا من
البار بعد أن ملأ الأزقة والحواري صراخا وعويلا ، وملاكمات بصمت حواشي عينيه بزرقة
مقيتة ، يتحول البيت إلى جلبة يتعالى فيها صوته وصراخ أمي . أمي المسكينة التي
عشقت أبي وضحت من أجله ، وتخلت عن غضب عائلتها لتتزوج بمنحوس حول حياتها إلى جحيم
، لم تعد قادرة على مواصلة العيش مع هذا السلوقي أبي ، لقد خارت أحلامها وانهارت
مع مرور الزمن ، وكل ما تمنّته حالت رياح الحياة سفنها دون الوصول إلى برّ
أمانيها، لقد غرقت أمي في دزينة من الأبناء بفعل الحمل الذي لم يخطر على بال كل
مرّة ، فغدت معملا لإنتاج عشيرة من الغوغاء وفاقدي التربية ، إلا واحدا نجا من
ضريبة العبث الأبوي هو أنا . حيث بقيت بعيدا عن هذه الأجواء ، معلنا الحرب ضد أسرة
لم أجن من شجرتها إلا اللعنات التي يقذفني بها جيران منذورون للفقر والعيش في ظروف
قاهرة وغير قادرة إلا على الشعور بالندم والضجر .
ودارت الأيام مات أبي لعنة الله عليه
إلى يوم الدين في ذلك الفصل الشتائي الذي زاد من برودة الدم في الشرايين ، وانهالت
على عقلي كل الصور التي عشتها في كنف أب حالفته الخسارات والخيبات من كل جانب ، لم
يؤثّر فيّ رحيله بقدر ما غمرتني سعادة لا توصف ، لقد رقصت في داخلي كثيرا ، رقصت
ورقصت حتى ذبت مع الرقص، لكون القدر حالفني كي أتخلّص من وصمة عار كانت على جبين
طفل منكود ، فظلت أمي تكابد رغم فعل الزمن فيها ، إذ هي الأخرى غابت عنها
الابتسامة من محياها منذ أن رحل الكلب عن هذه الدنيا ، وحوّلت نهارها وليلها إلى
نكد أبدي عليّ وعلى من يشاركني البيت الملعون.تذكرني جدتي المنحوسة بأني قذفت إلى
العالم دون أن تصافحني زغرودة ولا أن تقام في حقي عقيقة ، ولم تخبر الجيران ولا
حتى أبي الذي قدم من السوق الأسبوعي متعبا جراء صياحه الدائم لبيع ما يملك من خضر
معروضة لزبناء محتملين، ومنهك الجسد النحيل بفعل التناول اليومي للسجائر الرخيصة،
فهو من عشاق كازا ، كازا حبيبته التي ربّى عليها لبزيزيلة ، لا يريد أن يفارقها
حتى تفرّقه عن الحياة، فظلت أمي تنتظر مجيء صويحباتها للتهنئة وتقديم الهدايا أي
الزرورة التي هي عبارة عن سلف أو دين ، والعضب يشتعل في قلبها ، والحزن يعتصر
أحشاءها التي مازالت لم تلتئم بعد بسبب عسر الولادة ، دخل عليها أبي جائلا بعينيه
الجاحظتين في أرجاء الغرفة الكئيبة ، فلم يشعر بوجودي لكوني ولدت دون صراخ أو عويل
، لكنه قبّل أمي وهذا ماحكته لي بعد أن كبرت ، وقال لها : على سلامتك
فردّت عليه والدتي : الله يسلمك ،
وزيد قرّب بعد وشوف الولد راه يشبهك
دنا أبي الذي سأكرهه كرها شديدا -
كما حكت لي أمي - إذ لم يلمسني ولو بقبلة على جبيني الغض وخرج من الغرفة مزبدا
لاعنا الدنيا والزمن وأنا .
فقلت في قرارة نفسي ماذا فعلت لك أبي وأنت تلعنني إلى جانب الدنيا والزمن ، فأنت الذي أنجبتني وأتيت بي إلى هذا المكان العطن ، مكان الحروب والقتل ، مكان مليء بالترهات والأوهام والأحلام . لقد كنت مقيما في غياهب عمودك الفقري ، لا أحفل بالحياة ، ولا أبالي بضجيج الحارات والغرف الساخنة والباردة ، والشوارع اللصيقة بالمقاهي المنتشرة كالفِطَر، كنت جامدا هامدا لكن شهوة اشتعلت نيرانها فيك قذفتني إلى رحم الوالدة ، وبعد تسعة أشهر ها أنا وسط الجلبة ، وصمتك وصمت جدتي الشمطاء وفرح أمي الذي دفنته في دواخلها مخافة مكائد جدتي وعمّاتي اللائي يكرهن الوالدة .آه لو تعلم أيها المنحوس كم وددت أن أراك لأبصق في وجهك ، وأطردك من جنّة القلب ، لكن يبدو أن هذه الحياة اللعينة خبّأت كل المشاعر الخبيثة تجاهك في أعماقي ، ومع ذلك حين أخبروني برحيلك تمرغت في تراب القبيلة ، وحزنت عليك العمر كله ، لكوني لم أفرغ بارود حقدي من جوفي أمامك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق