دخــان ليل حــــزين - عادل المعموري - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

السبت، 21 يناير 2023

دخــان ليل حــــزين - عادل المعموري


أوقظَتْني تلك الضربات المتلاحقة على الباب. فتحتُ عينيّ ، زوجي يغطُّ في نوم عميق .لفتت انتباهي الساعة الجدارية، كانت تشير الى الساعة الثانية صباحا .داهمني احساس مخيف جعل قلبي يخفق بشدة ، جلستُ على طرف السرير، انتابني توجس غريب تسلّل إلى نفسي الخائفة ، ماذا لو كانوا .....أعوذُ بالله من الشيطان ..

نهضتُ متجهة صوب الباب، قدماي لم تعد تحملاني، سمعتُ همهمة أصوات تزعق في الخارج ...أصوات لرجال غاضبين.. التفتُّ نحو زوجي، مازال يغط في نومه.. فتحتُ الباب ببطء، فجأةً دفعته الأيادي المرتبكة بكل قوَّة..

اندفعَ ثلاثة رجال مسلحين ومعهم مختار المحَّلة وكبيرهم ضخم الجثة، كثيف الشاربين.. حملا زوجي من أطرافه وخرجا به وهو يصيح مندهشاً.. من أنتم.. من أنتم؟! وقفتُ عند عتبة الباب بثوب النوم منفوشة الشعر، أنظر إليهم وقد ألجمتني المفاجأة.. ربطوه بحبل على العمود الكهربائي المقابل لدارنا.. نظراتُ زوجي نحوي جعلتني أكاد أن أفقدُ وعيي.. أشعرُ أنه يستغيثُ بي من خلال نظراته المفزوعة.

سمعته يقول لهم:

-         لماذا توثقوني على العمود.. ماذا حصل؟

أجابه الرجل الضخم ذا البدلة الزيتونية بصوت عال:

-         خائنٌ وهارب.. أيها المجرم ستنال جزاءك العادل ...

أشار إلى الرجال الثلاثة بالتأهب.. تراجعوا جميعاً إلى الوراء وفتحوا نيران بنادقهم عليه ..بلحظات خارج مدى الادراك ..ألوى زوجي رأسه وخمدت أنفاسه ..رأيتُ الرجل الضخم يخرجُ مسدسه من حزامه وبحركة سريعة ، يطلقُ عليه رصاصة واحدة في صدغه.. الدماء انبجست لتصبغ بيجامة النوم ويسيل الدم ليشكل بقعة كبيرة تحت قدميه العاريتين.

من أين ابدأ وإلى أين أمضي في هذا الليل العاري؟

أبواب المدينة النائمة مغلقة، وهذا الدخان الذي مزَّق صدر حبيبي وزوجي يقضَُّ مضجع النجوم في عليائها.. رجال بلا ملامح عزموا على قتل زوجي لأنه هرب من الخدمة العسكرية عشرة أيام ..الأيام العشرة ومعها ثلاثون يوما أربعون يوما فقط ..تلك هي حياتي مع هذا السابح بدمه .. عمود الكهرباء الصامت ينتصب بشموخ وكأنه يشمت بي..   أسرعتُ نحوه.. أتهجسُ أعضاء جسده التي ثقبها الرصاص ..

الضابط الذي كان واقفاً بالخارج قبل أن يداهموا بيتي.. أمسكَ بمقدمة شعري وجرَّني إليه قائلا :

_أتركيه أيتها العاهرة ؟  يا وجهي الذي أمسى قارباً يسكنهُ الفقد، يستعيرُ قلوعاً وخرائطَ أضحت بلا دروب.. لا شيء يلُهمني الآن سوى أن أفعلها ردَّاً على تلك الإهانة.. بصقتُ في وجه الضابط.. ارتدَّ إلى الوراء خطوة واحدة ومسح بأصابعه تلك البصقة التي جلَّلت وجهه.. سكتَ قليلاً ثم همسَ بصوت يحاول جاهداً أن يكون متزناً :

-         خذوها إلى الحبس... دفعوني نحو سيارتهم.. حملوني معصوبة العينين.. بكيتُ كثيرا من غير دموع... مازلتُ أبحثُ عن لحظة النحيب، تلك اللحظة التي يتشظَّى فيها القلب ليحطَّم كل الأشياء .

لا شيء يحتويني إلاّ أنا... من ليل خرجتُ ولم أعد .حتى الشمس التي تطلع كل صباح.. لم تطلع ذلك النهار، إني أكابر تحت الضرب المبرح والركلات على بطني وظهري.. عيني اليمنى انطفأت..  لم أعد أرى فيها شيئا.. أصبح وجهي متورَّما أو أكبر حجماً من ذا كرتي ..

إني أحاول أن أتذكَّر شيئا يعيد إليَّ توازني وصمتي وهدوئي، المحقَّقُ يسألني؟

_هل حقاً..  شَتمتِ زوجة الرئيس ؟

_أبداً والله !

_إفادة الضابط تقول.. أنك شتمتِ السيدة .

_ صدَّقوني أنا بصقتُ في وجه الضابط فقط .

لم يبقَ عندي ما أقوله بعد أن أحمرَّ جسدي من الطعنات ولسعات العصي ونار المكواة التي طبعت لها في كل مكان من جسدي، مساحة بحجم الكون أو أكثر ..

ثلاثة أشهر وأنا حبيسة الزنزانة ..استدرجني ضابط تحقيق غير هذا ..يسألني إن كنت شتمتُ زوجة الرئيس أم لا ..أجبته كسابقه، إني لم أفعل ..ولمَّا ألحَّ في السؤال والاستفزاز، صحتُ به :

_لعنة الله على زوجة الرئيس والرئيس أيضا ..الله يلعنكم جميعاً ..

لم تعد تغمرني مخاوفي ويستفزني صوت السجّان وإلحاح المحقَّق ،فقد حكم عليَّ القاضي بعقوبة الإعدام ..لم أعد أتلقى الضربات ولسعات الكهرباء ..توقَّفَ التعذيب ،فقد انتهى كل شيء .

سيحدَّدون لي يوماً قريبا ليعدموني..  سأركن روحي على جدار الذكريات.. لعلني أستعيدُ ذكرى حبيبي وزوجي الذي فقدته في تلك الليلة، سأنتظر يوم تنفيذ الإعدام.. سأتوسد يأسي وأنام ..وإن كنتُ أفتقد لذراعك أن تحتويني كما احتوتني في تلك الأيام التي غدت من الماضي البعيد.. أو هي أشبه بالحلم.. لماذا الأيام السعيدة تدفع ضريبة الفرح بتلك الوحشية؟

يوم الخميس كان موعد تنفيذ الإعدام.. يوم الجمعة تم ترحيلي مع أُناس آخرين.. إلى أقاصي الجنوب.. قسمونا لمجموعتين.. المجموعة الأولى إلى مدينة البصرة وأنا ومجموعتي إلى مدينة الأنبار.. لا أعلم لمَ رحلوني إلى (الأنبار)؟!

أنا بنت كركوك ولادةً وسكناً..  يرحَّلوني إلى المنظومة الاستخباراتية العسكرية في محافظة الأنبار.. في الطريق سمعتُ أحدهم يهمس لي،  لم أتبَّينه لأني معصوبة العينين.. عرفته أنه المأمور الذي سيقلني مع السجناء قال لي :

__أنا أعرف قضيتكِ .. وأعرف أنكِ بريئة.

صمتَ قليلاً ثم همس لي بصوت خفيض لا يكاد يُسمَع

_سأفك وثاقكِ .. هل تستطيعين أن تفلتي من قبضتهم وتهربين بعيداً؟

_لماذا تفعل معي ذلك ؟!

_لا أعلم.. ولكني سأطلق سراحكِ عند أول وقوف للقافلة... حاولي أن لا تبوحي لهم أني من أطلقَ سراحكِ.

لم أكن أصدَّق ابدا.. هل أنا في حلم؟ هل ستعيد الحياة دورتها وتستفيق على أملِ جديد.. قرب أحد الأماكن التي تغص بالناس وزعيق السيارات، أنزَلني امهلني يازمن الخيبات قليلا ،فقد انجلت تلك الظُلمة ..سأبدأ رحلة الهروب. مازلتُ في منطقة ( بيجي) ليس بعيدا عن مدينتي.. خطواتي التائهة قادتني بين الجموع وأصوات الباعة. كهاربٍ يسابق الريح أبحثُ عن جبلِ يعصمني من هولِ الفناء .. هربتُ نحو مدن الشمال إلى بني قومي ومنفاي الأمين إلى حيث الخنادق الآهلة بأناس تتصاغر لديهم المُلمَّات وهم يقارعون تلك السلطة اللعينة التي حطَّمت عُشّي.. وهدّمت أركان سعادتي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق