أذكر، كان المطر غزيرا
وريح باردة تلفح وجنات النوافذ
كل يبحث عن موقد أو فخذ يداري به البلل
وكنت أبحث عن ذاتي
بعيدا عن الكتب
وأحلام الشعراء
لم أشعل موقدا
أو أفتح مظلة تقيني من الأفكار المزعجة
لكني طلبت من النهار
أن يبطئ قليلا في مشيه باتجاه الغروب
كي لا تطرق وشوشات النصوص وسادتي
وهواجسُ الكتابة
كنت بحاجة إلى نهار أطول
أمحو فيه ذاكرتي تماما
ثم أعيد تشغيلها
مثلما يحدث مع الأجهزة الحديثة
عساي ألامس المناطق المعتمة
المركونة على رف خلفي مثل أسفار ملعونة
وأعثر لي على اهتمامات أخرى
كأن أدعو نورسا على الشاطئ
إلى أن يحكي لي عن زبد البحر
وكيف انبثق عنه وجه "فينوس" بصباحته النادرة
يحكي عن مهاترات الآلهة
والحكايا المعتادة التي تبقي البشر لصيقا بالأرض:
بقايا السمك المذبوح على الصخور
وقنينات الخمر التي تركها الصيادون فجرا
وصدى كلام فاحش
صاغته إحدى بنات الليل على عجل
لكنه مر سريعا كقطار البراق
مر كلمح البصر
ذاك النهار
ولم تضئ السماءَ نجمة
كان الذهن حالكا
وكان مدججا بأصوات تشبه الأسلحة القديمة
من أول حجر صوان
إلى نبل أصاب كعب "أخيل"
ومنجنيق يطلق الحجارة والنار على قلعة العدو
ثمة أعداء دوما
تقذف بالشرر
من منجنيق ربما كان له شكل قلم
أو قطع نقدية بالعملة الصعبة
في البلد الفقير
ثمة دوما فكر شيطاني يحسن تدبير المكائد
لدحر الناس الطيبين
وأنا لم أصادف نورسا
)لأن النوارس ادخرت أجنحتها لنهار آخر(
ولم أنس هواجس الكتابة
كنت أفكر في النبتة التي في العراء
أفكر في النبتة فقط
شجرة ضئيلة الحجم وشائكة
تدافع شح الماء وعنف العناصر
وتحتفل كلما ولدت شمس يوم جديد
لكنها رأت النخله أمامها
مرة أخرى تراها
النخلة ذات السعف والعراجين
ممشوقة القوام
التي تغازل السحب
فتحركت دواخلها بنفس الرغبة الدفينة
" أريد أن أكون نخلة"
قالت
وبالصدفة كانت الريح مارة بالأنحاء تمشي الهوينى، مثل أي
شخص شاحب النوايا، فتوسلت الشجيرة للريح بأن تغدق عليها بهبة عاتية ترفعها إلى
أعلى، وها أذرع الشجيرة تغادر خشاش الأرض تطلب السحاب
"رباه ها قد صرت نخلة،
واعجبي"
صاحت الشجيرة ضاحكة من فرط السعادة
" كم هو الأفق جميل"
كانت ما تزال ضاحكة
حين اشتد هبوب الريح (الريح التي لم تعد رحيمة(
واجتثت الشجيرة من الجذور
أسقطتها جثة هامدة
هل كنت أفكر في النبتة حقا؟
أم هي ذاتي التي كانت في العراء
ولم يكن ثمة غراب يرنو إلى الجثة في فضول
ولا أخ حائر في أمر الدفن؟
لقد ألف الإخوة فعل القتل، والمشي في جنازة القتيل
والدم صار مستساغا أكثر
كرمانة مدعوسة
حلمة امرأة على الناصية
تتوق إلى عين حاذقة تراها
وبجمرة في القلب، تذكر ماضي الجسد
كان المطر غزيرا
والبرق يشق كبد السماء بمدية مضيئة
فيصدر عنها أنين موجع يشبه الرعد
" أكلما طأطأ البرق رأسه لي
أحسب أني سيد العناصر
وأني أكبر من أن
تقع عيناي على أحد؟"
كانت الشوارع خالية
وحدها المرأة على الناصية
تكويها حسرة عميقة
وبصيص دقيق مرهف من أمل
عسى أن تقر عين بوجودها
تسأل عن مباهجها القديمة
التي أتلف الزمن أسرارها
كنت النبتة التي أصرت على أن تصير نخلة
وكانت المرأة نبتة ثانية
فالتقينا على ناصية الشارع
في يوم غزير المطر
جثتين تبحثان عن حيلة أخيرة
تنفخ بعض حياة في الرماد
شكراً جزيلاً لنشركم هذا هذه القصيدة الرائعة؛ كما اشكركم لهذه اللمحة عن الكاتب الكبير الأستاذ حسن البقالي؛
ردحذفأبدع الكاتب، و أَدهَش؛ دام له الألق، و المزيد المزيد من العطاء والإبداع
تقديري واحترامي
ميرڤت بربر
جمانيات
ردحذف21 مارس 2023 في 3:18 ص
شكراً جزيلاً لنشركم هذه القصيدة الرائعة؛ كما اشكركم لهذه اللمحة عن الكاتب الكبير الأستاذ حسن البقالي؛
أبدع الكاتب، و أَدهَش؛ دام له الألق، و المزيد المزيد من العطاء والإبداع
تقديري واحترامي
ميرڤت بربر