لم تكن "داده" امرأة ممراضة، فأنا لا أذكر
أنّي رأيتها يوما، قبل أن تتغيّر بها الأحوال، مزكومة أو محمومة أو ملازمة للفراش
لأيّ سبب من الأسباب، الآن صار يغلب الظّنّ عندي أنّها كانت تمرض هي الأخرى، عكس
ما كان يظنّ النّاس جميعا، لكنّها لسبب مّا كانت تخفي كلّ ذلك وتتجاهله كي لا
يراها النّاس إلاّ كما كانت تريد هي أن يروها...
مع ذلك كان لها حكاية مع "غُلْظِ الدّمْ" كما
كانت تسمّيه...
منذ سنواتي الأولى، كنت أراها من حين لآخر تنزع
"المحارم" الكثيرة الّتي تلفّ بها رأسها، فأرى على جبينها تلك الخطوط
المائلة القصيرة، كأنّها زخّ المطر توقّف فجأة أعلاه... ندوب قديمة جدّا، هي آثار
شفرة الحلاقة "تشلّط" بها كلّما أحسّت أنّ رأسها قد استغلق وثقل عليها،
تنفّس بها وتتنفّس، وتجلو عينيها...
كانت حين أسألها تجيبني بأنّها تفعل ذلك كلّما شعرت بأنّ
الدّم "يغور عليها" ...
أتذكّر كيف كانت تُكبُّ في الحوش، تخنق نفسها
بـ"محرمة" تلويها وتمسكها جيّدا باليسرى، وتمسك باليمنى شفرة الحلاقة،
وتروح تضرب منابت الشّعر بكلّ تركيز وهدوء، والدّم يتسايل على جبينها حتّى يغطّي
حاجبيها ويبلغ أنفها، ونحن الصّغار نقعي أمامها بقلوب واجفة ننتظر أن ترفع رأسها
وتمسح الدّم ثمّ تعصب جبينها "بالمحرمة"، وتبتسم في وجوهنا فتشرق الشّمس
في قلوبنا من جديد...
لم تكن تؤمن بالأطبّاء أبدا، وكانت تقول عنهم:
"ذرّي تتراقص"، إلاّ من كان منهم بشعر أبيض ويضع النّظّارات السّميكة،
ويفحصها "بالتّلفزة" كما تقول هي...
أخذها عمّي ذات يوم إلى "بن زايد"، و لم يكن
في بوسالم كلّها طبيب غيره، المشكلة أنّ الطّبيب، قاس لها الضّغط فوجده 8 على
عشرين، فأخبرها أنّها لا تعاني ـ كما كانت تظنّ دائما ـ من "غُلْظِ
الدّمْ"، بل العكس من ذلك، هي تعاني من انخفاض دائم في ضغط الدّم، وعليها أن
تأكل المشوي والمقوّيات لكي يرتفع ضغطها قليلا إلى المعدّلات الطّبيعيّة... ومنذ
ذلك اليوم، ضمّته هو أيضا إلى قائمة "الذّرّي" الّذين رأتهم في مستشفيات
العاصمة...
لم يكن من السّهل أبدا أن يقنعها أيّ إنسان في الوجود،
بأمر سخيف ومضحك كهذا... كانت حين نلحّ عليها تقول بكلّ استخفاف: " لا ...
حتّى هو يعرف!!... الدّم متاعي نايَ هادِفْ"، ونسألها ما معنى
"هادِفْ" فتقول: " يِهْدِفْ هَدْفانْ" (يعني أنه يرتفع بشكل
مفاجئ)... وأصرّت على أنّ الأطبّاء لا يدرسون عن هذا النّوع بالذّات، وأنّهم لا
يعرفون كلّ شيء...
التجأت إلى طبيب المستوصف المحلّي ببلطة، فأعطاها حفنة
من حبوب الضّغط ممّا يعطى في الحقيقة لكلّ القاصدين، نزولا عند رغبتها وتوصيفها،
ولعلّه فعل ذلك فقط كي يرضيها، يعني من باب العشرة الطّيّبة وحسن الجوار...
حين كانت "داده" ينتهي عنها الدّواء، كانت
تستلف من الجارات مثلما تستلف شيئا من السّكّر أو "النّفّة" أو
اللّوبان... كانت ترسل ابنتها إلى أيّة امرأة من نساء الدّوّار، فجميعهنّ لا بدّ
يستعملن حبوب الضّغط، فتصف لها ما تريد: ــ قاتلك يمّه سلّفيني شويّة حرابش متاع
دم، عندكشي هاك اللّي كيف كعبة اللّوبياء؟
تجيبها : ــ عندي هاكا اللّي كيف الجلبانة الحمراء..
تاخذي؟ ..
ــ باهي ميسالش تو كي تمشي للمستوصف ترجّعهملك...
ـــ سلّمي عليها وقوليلها إن شاء الله لاباس!
إضافة إلى ذلك، كانت "داده" كلّ عام
"تبڨط"(بتثليث القاف)... وكان يقوم بذلك رجل يدعى "السّبتي"،
يشكّ العرق الرّئيسيّ في ذراعها اليسرى، ويجعل تحته القصعة الصّغيرة، فيشخب الدّم
منه حتّى يتغيّر لونه، ثمّ يضمّده ويربطه وتغلّه إلى عنقها حتّى يكفّ النّزيف...
عاما إثر عام، كبر ذلك الرّجل، وصارت يداه ترتعشان، فكفّ
عن ذلك التّطبيب خوفا من أنّ يقطع العرق لأحدهم فينتهي أمره في
"بوفرده"... لكنّ "داده" صارت مدمنة، ولم تعد تستطيع أن
تتخلّى عن تلك العادة، فكانت ترسل إليه من يترجّاه ويطمّعه بالعظم العربي وبسردوك
معشعش وما تيسّر من الزّيت والفلفل والطّماطم... فلا يستجيب!
آخر مرّة حضر فيها تحت الإلحاح الشّديد، (أو الطّمع
الشّديد) كادت تنتهي بمأساة وبتذكرة إقامة دائمة في بوفردة على حدّ تعبيره...
تحلّقنا حولها ومدّت ذراعها وضرب العرق بالشّفرة، فتدفّق الدّم سخينا أسود في
القصعة وتطاير طشيشه، وبقينا ننتظر أن يتغيّر لونه فلم يتغيّر حتى امتلأت القصعة
إلى نصفها، نظرنا إلى وجهها فإذا هو قد شحب وتلوّن بصفرة منذرة، وبدأت العيون تزوغ
والقلوب تنقبض، ثمّ التوى عنقها وسقطت إلى الوراء في حجر عمّتي...
تصايح الجميع وصعق "السّبتي" وضرب رأسه ووجهه
وكفّيه وراح يلطم خدّها ويصرخ ويستصرخها أن تستيقظ وتنقذه من تلك المصيبة... ومرّت
دقائق كأنّها القيامة، والدّم لا يتوقّف عن النّزف ونحن لا نتوقّف عن اللّغط
والصّراخ والصّياح... وفجأة فتحت عينيها ولهجت بصعوبة: "ما تشكوش بيه ...
راني مسامحاته... قولوا بقطت وحّدها...!" ثمّ أرخت رأسها من جديد...
حين أتذكّرها اليوم، يقف عقلي عاجزا أمام عظمتها في تلك
اللّحظة... لم تفكّر في نفسها وهي في تلك الحال... كان كلّ ما يشغلها وهي بين
الحياة والموت، كيف تنقذ ذلك الرّجل الّذي جنت عليه ولا ذنب له ...
بعد محاولات جرّب فيها السّبتي كلّ ما علم وما لم
يعلم... أفاقت أخيرا من الغيبوبة وكفّ النّزيف... فانطلق الرّجل يطوي الحصيدة
بفحجات لم أر في حياتي أوسع منها، لا يلوي على شيء، وهو يشتم ويسبّ ويلعن من كان
سببا في استجلابه، ومنذ ذلك اليوم لم نر له ظلاّ أو خيالا خارج حوش بيته...
بعد ذلك لم تعد "داده" تطمع في أن يحضر
السّبتي "ليبڨط" ذراعها ويخفّف عنها "غُلْظِ الدّمْ"... كانت
حين يحين أوان "البڨطان" كما تسمّيه، تنهار لأيّام، أذكرها ملقاة
كالخرقة على جلد خلف بيتها في الظّلّ... تغطّي وجهها وعينيها بمحرمتها ... تمسك عن
الأكل والضّحك والكلام... كنت أكبّ عليها وأبوس جبينها فترفع رأسها الثقيل قليلا
وتنظر إليّ بعينين موجوعتين: "جِيتْ آ بابا؟ ... اقعد بحذايَ... تو نفيق
ونهزّ راسي... ما تخافشْ"
وأجلس عند رأسها لساعات، أنتظر أن تفيق وترفع رأسها،
حتّى تكاد تغلبني الظّنون ... ولمّا يهتزّ النّفس في صدرها ... ينفرج صدري وأحمد
الله الّذي لم يأخذ منّي"داده" ... إلى حين !!
رحمها اللّه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق