سليم دولة |
قال نيتشه،
مرّة، "بعض الناس يولدون بعد موتهم"- عذرا لهذا العدميّ النشط، علينا أن
نقلب الأمر، إذ الفلسفة كما علّمنا هيغل، هي "عالم مقلوب"، ونقول، أجل،
ورغم ذلك، "بعض الناس يولدون قبل موتهم"، وبهذا هم يدخلون فجأة، على
غرّة من مؤسسة الحقيقة الماكرة التي تراقب قدرة الأرواح الحرّة على المستقبل
اللعين، يدخلون في تمرين مبكّر على الخلود. فكلّ نصّ حقيقي هو بلا قبيلة، أي نصّ
"صعلوك" يبكّر إلى حتفه بكلّ مودّة، هو حريّة مبكّرة، حرية جاءت قبل
أوانها. إذ الحرية لا تكون في أوانها أبدا، هي "لا" سابقة لأوانها، بكلّ
محبّة،- لا معنى لحريّة "وراثية". أنت لن ترث حريتك من أحد، وإلاّ فهي
جثة نبيلة.
لقد تبيّن
لمن لا يرى أنّ تحيّة الأحياء لا تزال صعبة ومحرجة ومؤجّلة دوما. يفضّل حرّاس
الوضع الراهن للحقيقة، عادة، أن يؤجّلوا تكريم الأرواح الحرّة، إلى حين انسحابهم.
ليس أجمل من كاتب غائب؛ كذا، "بعض الناس يحضرون بعد غيابهم". هكذا يبرّر
الورثة ضغينتهم المنهجية على الكاتب. يبدو الكاتب دوما اسما صالحا للوراثة،
للتوريث كنوع من اللعنة الودودة. كل قارئ هو وارث لعين. هو خصم قديم ينتظر فرصته
كي يسرق خلود أحدهم. ولكن من يحمي كاتبا حرّا من خلوده؟
أجل، إنّ
تاريخ "لا" لا يزال مزعجا. وهو يفضّل دوما صيغة "الماضي": هو
"كانيّ" عمداً؛ "كان فلان كاتبا..."؛ "كان"- أفضل
الأفعال الناسخة للخلود. لا يزال الخلود في الماضي هو الصيغة المفضّلة في ثقافتنا
التي لا تحتمل أن يفاجئها "خالد" جديد دون أن تكون قد نصبت له كل فخاخ
الوراثة وسياسات التكريم المنظّمة. يبدو التكريم مثل جريمة منظّمة: أجّلت خلود
أحدهم من أجل الاستحواذ على مكانه في الذاكرة.
ربّما لأنّ
ادّعاء الخلود لا يزال حكرا على الموتى. طبعا، ليس كالموت عذرا لكاتب كي يدّعي دون
أن يقاطعه أحد بأنّه يستحق التكريم. وإذا بالكاتب الحر يجد نفسه محكوما عليه سلفا
وصمتا بأنّ عليه أن ينتظر خلوده في ناصية الوقت مثل حيوان لم يعد يصلح للسباق،
إلاّ أنّه لا يال غير قابل للاستعمال في سياسة الخلود المعتمدة. مثل "إنسان
مقدّس"(homo sacer) حكم عليه
الشعب بالإدانة لكنّه لا يصلح قرباناً، إلاّ أنّ من يقتله لن يُدان بتهمة قتل
إنسان. ليس أكثر هدرا من كرامة كاتب يقول "لا"، ويصمت، أو ينسحب، أو
يكتب خارج أوقات العقل.
إنّ الشكل
الوحيد لخلود كاتب حرّ هو أن ننتمي إليه، نعني أن ننقل خلوده من حياته إلى حياة
الذين يحبّهم. هو لم يكن كاتباً إلاّ بهذا الثمن: أن يراود المستحيل على نفسه. كل
كاتب هو وعد بالمستحيل الذي ترنو إليه هوية ما، طريقة ما في تعليم الحياة تقنيات
الجسد الخاصة بنا. المستحيل ليس صفة للأشياء. هو خروج الكاتب بحثا عن حريّته التي
تحتفظ بالقدرة على قول "لا" دون حماية أو ضمانات من مؤسسة الحقيقة
السائدة.
كان
"جراحات ومدارات"(1991) أكثر من عنوان: كان انتهاكا لقواعد الاشتباك.
لقد غيّر انفعال الكاتب: لقد قرّر أن يكون "كاتبا حرّا". إنّ "ما
الفلسفة؟" لم يكن عنده سؤالا "أكاديميا"، أي يجري تحت حماية
الجامعة أو فكرة عموديّة وأداتية عن الجامعة. تبدو "الحرية" هنا مثل
استفزاز غير متوقّع من "خرّيج جامعي" كان أيضا "طريدها
السياسي"، لا ينتج من "وقاحة" الكتابة إلاّ بقدر ما يبتكر من
"جروح" الكاتب أو "حقائقه": أن تكتب هو أن "تجرح"
نفسك في "المدار" الذي يفرضه عليك شكل من الحقيقة أو من الحياة التي
ليست كذلك. فجأة أصبحت الفلسفة "اجتراحا" اختياريّا لذنب لا يزال
مستحيلا، لنوع من الشرّ اللذيذ، يقول نوعا جديدا من الحقيقة بقدر ما ينتهك من
قواعد الحياة ويرتكب من حريات غير مسبوقة: الانخراط في "شوارعيّة"
مفكّرة. هو تذكير غير أنيق بأنّ سقراط لا يزال ممكنا؛ أنّ الفيلسوف ليس إشاعة.
لقد امتاز
سليم دولة بقوّة استفزاز، تنظر رأسا في عين العاصفة بقدر ما هي متطلّفة وربّما
ودودة مثل "شقيق الورد"؛ الاستفزاز بوصفه "وقاحة فكرية" مرحة
تحرّر الكتابة من الحاجة إلى حماية الحقيقة- كل نص أكاديمي يتمّ تحت حماية
الحقيقة- وتحمّلها نوعا حرّا من الألم: نعني من الفتح غير القابل للجماعة، على
الرغم من قدرته المستمرّة على اختراع الوطن.
ولذلك لم يكن
مفاجئا أبدا أن يعبر سليم دولة إلى "السلوان والمنجنيقات" (1995) أو إلى
"ديلانو شقيق الورد" (2002)؛ ربّما حتى لا يكون "كاتبا
مبتورا": إنّ الشاعر هو المكمّل اللعين لإرادة الخلود في نص ما. - من الصعب
أن يكون لك أكثر من أب. قال:" لكل كاتب أب مركّب، وقد يكون ثمّة أب سرّي في
طية من طيات لاوعيه المعرفي والعاطفي". ليس من السهل على كاتب أن يحدّد
"ماذا يحبّ"- إنّ "إروس حزين" دائما.
إنّ أجمل
تمرين على الخلود هو تكريم الأحياء؛ أي تقبّل هديّتهم الجسورة إلى "نحن"
لا تزال ممكنة رغم كل المستحيل الذي يكتنفها. أن نحتفي بكتابتهم بوصفها هديّة غير
متوقّعة إلى كل جرح لم يعلم به أحد، ولم يؤرّخ له أحد، أن نشدّ على أيديهم شدّة
خالدة كعهد مقلوب، يعاهد فيه الأحياءُ الأحياءَ على مزيد من الحياة بأقصى ما يمكن
من التهكّم على موتنا الخاص. فلم يوجد الكاتب إلاّ من أجل أن يعيد حياةً ما إلى
مكانها. -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق