ذٰلِكَ ٱلْغَبَاءُ ٱلْقَهْرِيُّ ٱلْتَّكْرَارِيُّ: طُغَاةُ ٱلْتَّقَدُّمِ أَمْ بُغَاةُ ٱلْتَّهَدُّمِ؟ (9) - غياث المرزوق - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الخميس، 13 فبراير 2025

ذٰلِكَ ٱلْغَبَاءُ ٱلْقَهْرِيُّ ٱلْتَّكْرَارِيُّ: طُغَاةُ ٱلْتَّقَدُّمِ أَمْ بُغَاةُ ٱلْتَّهَدُّمِ؟ (9) - غياث المرزوق


إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ ٱلْسَّاعَةِ ٱلْهَرْجَ.

قِيلَ: وَمَا ٱلْهَرْجُ؟ قَالَ: ٱلْكَذِبُ وَٱلْقَتْلُ [أَيْضًا].

قَالُوا: أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ ٱلْآنَ؟

قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ [أَعْدَاءً]، وَلٰكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا!

اَلْرَّسُولُ مُحَمَّدٌ

(9)

قلتُ كذلك أكثرَ من مرَّةٍ من قبلُ، ورَغْمَ أنَّ سَيْرورةَ هذا الثَّوَرَانِ الشعبيِّ العربيِّ، في أطوارِهِ الأولى، لمْ تدأبْ ذلك الدُّؤُوبَ المَأمُولَ نحوَ حُرِّيَّةٍ وعَدَالةٍ اِجتماعيَّةٍ كانتْ شُعُوبُ هذهِ البلدانِ المقهُورةُ في اليَقَاظِ وفي المَنَامِ، وما بَرِحَتْ، تَتُوقُ إليهِمَا أيَّمَا تَوْقٍ، كبدايةٍ لحَاضِرٍ جَديدٍ وبدايةٍ لمستقبلٍ مَجيدٍ، قلتُ وكُلِّي تفاؤُلٌ وافْتِآلٌ إنَّ ما شهدْناهُ قُبَيْلَ الزَّمَانِ «الكورُونيِّ» وإثْرَهُ من طَوْرٍ هَجِينِيٍّ، أو مِمَّا يبدُو على السَّطْحِ النَّقِيضِ أنَّهُ «طَوْرٌ لاهَجِينِيٌّ»، لِثَوَرَانٍ مُضَادٍّ تحملُ شتَّى «مشاعِلِهِ» سِفْلَةٌ، أو حُثَالةٌ، من أرْجَاسِ الظَّلامِ والشَّرِّ والعُهْرِ، على اختلافِ مَشَارِبِهَا وعلى ائتلافِ مَآرِبِهَا في المستوى المَحَلِّيِّ (أفرادًا وجماعاتٍ، على حَدٍّ سَوَاءٍ) وفي المستوى الدُّوَلِيِّ (دُوَلاً تابعةً ودُوَلاً متبوعةً، على حَدٍّ سَوَاءٍ كذلك)، لا يعدُو أنْ يكونَ، في إبَّانِ تَسْيَارِ المَسَارِ التاريخيِّ «الطبيعيِّ»، طورًا مذمُومًا من أطوارِ الثَّوَرَانِ الشعبيِّ (الكونيِّ) ذاتِهِ، طورًا محْتُومًا زمَانيًّا ومحْسُومًا مَكَانيًّا مهما امتدَّ زَمَانُهُ ومهما اتَّسَعَ مَكَانُهُ، طورًا محْمُومًا ومسْمُومًا لا بُدَّ لهُ من أنْ يسْعَى إلى حَتْفِهِ بِأظْلافِهِ، حينما تندلعُ ألْسِنَةُ اللَّهَبَانِ الكَنِينِ من جديدٍ عَاليًا عَاليًا، وحينما تُعْلِنُ هذهِ الألْسِنَةُ بسَعِيرِهَا العَارمِ إرْهاصَاتِ الطورِ القَرَاريِّ الأخيرِ، طورِ الحَسْمِ الثوريِّ الذَّخِيرِ، شاءَتْ أرْجَاسُ تلك السِّفْلَةِ، أو تلك الحُثَالةِ، ومَنْ تُكِنُّ الوَلاءَ لهُمْ من لفيفِ أسْيَادِهَا الطُّغَاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ المَعْنِيِّينَ، أمْ أبتْ. وكما هي الحَالُ في أيَّةِ ثورةٍ شعبيةٍ عربيَّةٍ، أو حتى في أيَّةِ ثورةٍ نظيرةٍ «عَالَمْ-ثالِثِيَّةٍ» لاعربيَّةٍ، تثُورُ على الطُّغْيَانِ وعلى حَيْفِ الزَّمَانِ، ينجلي في ذلك الطَّوْرِ الهَجِينِيِّ لِلثَّوَرَانِ المُضَادِّ الآنِفِ الذِّكْرِ انجلاءً، بأضْعَفِ الاِحْتِمَالِ، ينجلي عاملانِ قَمْعِيَّانِ «كَمِّيَّانِ» مكمِّلانِ لبعضِهِمَا البعضِ، فيما يتبدَّى، أوَّلُهُمَا داخليٌّ مباشرٌ (يُسَيِّرُهُ أزلامُ الحُكْمِ المُتَشَبِّثُونَ بالبقاءِ)، وثانيهمَا خارجيٌّ لامباشرٌ (يُصَيِّرُهُ أسيادُ أزلامِ هذا الحُكْمِ المُتَرَبِّثُونَ بالشَّقَاءِ)، عاملانِ قَمْعِيَّانِ «كَمِّيَّانِ» يعملانِ بجِدٍّ وكَدٍّ على إدَامَةِ هذا الطورِ الهَجِينِيِّ، وعلى دَيْمُومَةِ مُجْتَباهُ إلى حَدِّ اجتباءِ ذاتِ «الطَّوْرِ اللَّاهَجِينِيِّ» على السَّطْحِ النَّقِيضِ، بأيَّتِمَا ذريعةٍ سياسيةٍ براغماتيةٍ كانتْ، حتى لو كانتْ هذهِ الذريعةُ لاأخلاقيةً في الصَّميمِ، وحتى لو كانتْ هذهِ الذريعةُ لاإنسانيةً، لا بَلْ مَا دُونَ-حَيَوانِيَّةً، في صَميمِ الصَّميمِ – والمشهدانِ الثوريَّانِ الشَّعْبِيَّانِ في السُّودَانِ وفي الجَزَائِرِ، حتى ذلك الحينِ من الهَيَجَانِ والغَلَيَانِ الجَمَاهِيرِيَّيْنِ منهمَا ومَا وَلِيَهُ (ومَا يليهِ) من أحيَانٍ قمينةٍ، لا يُشَكِّلانِ البَتَّةَ استثناءً مُسْتَثْنًى بأيِّ شكلٍ من الأشكالِ، في هذهِ القرينةِ. ولٰكِنْ، ولٰكِنْ، ومعَ كلِّ أشكالِ هذا التَّدْوِيمِ الدَّخِيلِ واللادَخيلِ وكلِّ أشكالِ هذا اللااستثناءِ «الضَّلِيلِ»، وبالرَّغمِ من كلِّ ما ينجُمُ عنهُمَا عِلاوَةً عليهِ من حالاتِ الاسْتِعْصَاءِ المُسْتَطِيلِ، فإنَّ كلاًّ من هٰذَيْنِ المشهدَيْنِ الثوريَّيْنِ الشَّعْبِيَّيْنِ لَمْ يَزَلْ سَائرًا، حتى هذا الآنِ من ثَوَرَانِهِ السِّلْمِيِّ الجَلِيلِ، لَمْ يَزَلْ سَائرًا على قَدَمٍ وسَاقٍ مَتِينَينِ ثابِتَيْنِ بكلِّ ما يقتضيهِ السَّيْرُ من عَزْمٍ ومن حَزْمٍ لا يعرفانِ أيَّ معنًى لقيدٍ من القُيُودِ معنًى سَليلٍ، ولا حتَّى يعرفانِ، رَغْمَ تيك التقطُّعَاتِ «الكورُونيَّةِ» بالذاتِ، أيَّ مغزًى للخُمُولِ أوِ الخُمُودِ أوِ الحُيُودِ مغزًى غَلِيلٍ.

ففيما لهُ رباطٌ بالمشهدِ الثوريِّ الشَّعْبِيِّ السُّودَانيِّ، من ناحيةٍ أولى، وبعدَ الإطاحةِ بعَرْشِ طاغيةِ البلادِ، عمر حسن البشير (ذلك الطاغيةِ العَتِيِّ الذي أفرزَهُ نظامٌ أوتوقراطيٌّ عسكريٌّ قدِ استبدَّ بالحُكْمِ استبدادًا مديدًا، مَدى أكثرَ من ثلاثينَ عَامًا)، فقد كانتِ الثَّائراتُ والثَّائرُونَ السُّودَانيُّونَ يواصلونَ سَعْيَهُمْ بسَائِرِ أطيافِهِمْ تارةً في الاحتجَاجِ بسِلْمِيَّةٍ هَا هُنا، وتارةً أُخرى في الاعتصَامِ بأكثرَ منهُ سِلْمِيَّةً هَا هُنَاكَ أمَامَ مَقَرِّ القيادةِ العامَّةِ للجَيْشِ «الوطنيِّ» (في العاصمةِ الخرطومِ، في المَقامِ الأوَّلِ)، يواصلونَ سَعْيَهُمْ مطالبينَ بكلِّ إصْرَارٍ، على أقلِّ تقديرٍ، بتسليمِ «مقاليدِ» الحُكْمِ العسكريِّ إلى نظيرٍ مدنيٍّ قلبًا وقالِبًا، وبتمثيلٍ رَمْزِيٍّ من الجَيْشِ جِدِّ مَحْدُودٍ لأسبابٍ بَدَهِيَّةٍ بَيِّنَةٍ بذاتِهَا، مَهْمَا حاولتْ عناصرُ مِمَّا يُسَمَّى بـ«المجلس العسكري الانتقالي» أفَّاكَةً في تَسْويفِ التفاوُضِ الجَادِّ معَ قادةِ ذلك الائتلافِ المدنيِّ المُنْضَوي تحتَ لواءِ «قوى (إعلان) الحرية والتغيير»، وذلك تشبُّثًا بـ«مقاليدِ» ذاتِ الحُكْمِ العسكريِّ برئاسةِ عبد الفتاح البرهان (ذي التَّواصُلِ «الحَمِيمِيِّ» معَ طاغيةِ مصرَ، عبد الفتاح الآخَرِ!)، ومَهْمَا حاولتْ كذاك عناصرُ مِمَّا يُدْعَى بـ«قوات الدعم السريع»، أو بـ«الجَنْجَوِيدِ»، فَتَّاكَةً بالقوَّةِ، أو حتَّى بالفِعْلِ، في استخدامِ العُنْفِ بارتدادِهِ العَكْسِيِّ في الضَّرَّاءِ لا في السَّرَّاءِ، وذلك تشبُّثًا أكثرَ حتَّى بـ«مقاليدِ» ذاتِ الحُكْمِ العسكريِّ أيضًا بنيابةِ رئاسةِ محمد حمدان دقلو، ذي اللَّقَبِ العَامِّيِّ الشَّهيرِ «حْمِيدْتِي» (وذي التَّواصُلِ «الأكثرِ حميميَّةً»، بدورِهِ هو الآخَرُ، معَ طاغيتَيِ السُّعوديَّةِ والإماراتِ، المحمدّينِ الآخَرَيْنِ!)، حتَّى تكتملَ، هَا هُنَا، مهزلةُ المهازلِ في التَّطَابُقِ الغريبِ والعَجيبِ مَا بَيْنَ الأسْمَاءِ الأوائلِ – وهذهِ القواتُ الأخيرةُ، للتذكيرِ العَابرِ، إنَّمَا هي قواتٌ «بَلْطَجِيَّةٌ» بامتيازٍ لا تختلفُ، من حيثُ الفَحْوَاءُ، عن قطعانِ «شَبِّيحَةِ» النظامِ الفاشيِّ المَافْيَويِّ الطائفيِّ المتوحِّشِ المُخْتصِّ بشتَّى صُنُوفِ الإجرامِ مَا دُونَ-البَهِيمِيِّ في سوريا [ذلك الإجرامِ الذي لجأتْ إلى شيْءٍ منهُ قواتُ «الجَنْجَوِيدِ» قبلَ ذينك الاستسلامِ والاستخذاءِ الجَلِيَّيْنِ اللذين أبْدَاهُمَا قادةُ الائتلافِ المدنيِّ، «قوى (إعلان) الحرية والتغيير»، أبْدَوْهُمَا إبْداءً صَارخًا للعيانِ المَحَلِّيِّ والدُّوَلِيِّ أمَامَ قادةِ التَّحَالفِ العسكريِّ، تَحَالُفِ «المجلس العسكري الانتقالي»، من جرَّاءِ انجرَارِهِمْ إلى توقيعِ ذلك الاتفاقِ المشؤومِ على تسليمِ السُّلْطَةِ، أوَّلاً، إلى هذا «المجلسِ العسكريِّ» بكلِّ مَا يقتنيهِ من السِّلاحِ الخَفِيفِ والثقيلِ، ومن جرَّاءِ انحدَارِهِمْ بالتالي إلى وَأْدِ الثورةِ الشعبيةِ السُّودانيةِ، أو بالكادِ، حتَّى قبلَ أن تنضجَ وأن تكتملَ في نفوسِ أولئك الثَّائراتِ والثَّائرُينَ السُّودَانيِّينَ بكَافَّةِ أطيافهِمْ]. وفيما لهُ مِسَاسٌ بالمشهدِ الثوريِّ الشَّعْبِيِّ الجَزَائِرِيِّ، من ناحيةٍ أُخْرَى، وبعدَ الإطاحةِ أيضًا بعَرْشِ طاغيةِ البلادِ، عبد العزيز بوتفليقة، من طَرَفِهِ هو الآخَرُ (ذلك الطاغيةِ العَتِيِّ الذي أنْتَجَهُ نظامٌ بيروقراطيٌّ عسكريٌّ قدِ استبدَّ بالحُكْمِ استبدادًا أمَدَّ بكثيرٍ من استبدادِ «قَرِينِهِ» السُّودَانيِّ، مَدَى أكثرَ من خمسةٍ وخمسينَ عامًا)، فقد كانتْ، ومَا زالتِ، الثَّائراتُ والثَّائرُونَ الجَزَائِرِيُّونَ يُتَابِعُونَ جَهْدَهُمْ في الاحتجَاجِ وفي الاعتصَامِ السِّلْميَّيْنِ بكافَّةِ أطيافِهِمْ أيضًا، وقد تأوَّجتْ هذهِ الأطيافُ، قُبَيْلَ الزَّمَانِ «الكورُونيِّ»، بازديادِهَا الجَمَاهيريِّ المَلْحُوظِ في جُمُوعِ طالباتِ وطُلاَّبِ الجَامِعَاتِ أمَامَ مَقَرِّ قيادةِ أركانِ الجيشِ «الوطنيِّ»، أو «اللاوطنيِّ» بالأحْرَى (في العاصمةِ الجزائرِ أيضًا، في الأغلبِ والأعمِّ)، يتابعونَ جَهْدَهُمْ مطالبينَ بكلِّ إلحَاحٍ، في الحَدِّ الأدنى من الدستورِ الجزائريِّ بالذَّاتِ، بتفعيلِ كلٍّ من المادةِ (7) التي تنصُّ على أنَّ «الشَّعْبَ مَصْدرُ كلِّ سُلْطَةٍ» والمادةِ (8) التي تنصُّ على أنَّ «السُّلْطَةَ التأسيسيَّةَ مِلْكٌ للشَّعْبِ»، وبترحيلِ كُلٍّ مِمَّا تبقَّى من «أشلاءِ» النظامِ الفاشيِّ المَافْيَويِّ الهَرِمِ المُتَهَرِّئِ الهِرْدَبَّةِ الهِرْشَفَّةِ الآسِنِ حتَّى القِحْفِ من الرَّأسِ في مستنقعاتِ الفسَادِ والرَّذيلةِ والمُحَابَاةِ والمحسوبِيَّاتِ بكلِّ أشكالِهَا، وعلى رأسِهِمْ، آنَئِذٍ، رئيسُهُ المؤقَّتُ (عبد القادر بن صالح) ورئيسُ وزرائِهِ الأكثرِ توقيتًا (نور الدين بدوي) وقائد أركانِ جيشهِ الأقلِّ توقيتًا (أحمد قايد صالح)، حتى لو تَوَغَّنَ هؤلاءِ بقايَا «الأشلاءِ» عَلى إجراءِ مَا يختلقُونَهُ ومَا يُسَمُّونَهُ بـ«الانتخابِ الرئاسيِّ» المُصْطَنَعِ والمُزْمَعِ مَوْعِدُهُ يومَذاك في اليومِ الرَّابعِ من شهرِ تمُّوزَ من العَامِ الفائتِ 2019 – وهو، على فكرةٍ، ذاتُ «الانتخابِ الرئاسيِّ» المُصْطَنَعِ المَرْفُوضِ من أُسِّ أسَاسِهِ الاختلاقيِّ بالاِسْمِ رَفْضًا قَاطِعًا من لَدُنْ أولئك الثَّائراتِ المستمرَّاتِ والثَّائرِينَ المستمرِّينَ في ذلك الثَّوَرَانِ السِّلْمِيِّ الأُسْطُوريِّ بِجُلِّهِنَّ وجُلِّهِم، لا مَحَالَ، لولا تلك التقطُّعَاتِ «الكورُونيَّةِ» التي حَالتِ دُونَ ذلك إلى أجَلٍ غيرِ مُسَمًّى.

وبالنظرِ الوَكِيدِ إلى كُلٍّ من هٰذَيْنِ المشهدَيْنِ الثوريَّيْنِ الشَّعْبِيَّيْنِ بعينَيْنِ عقلانيَّتَيْنِ لابَخْسِيَّتَيْنِ، وعلى الأخصِّ أنَّهمَا مشهدانِ ثوريَّانِ يتبدَّيَانِ بوَصْفِهِمَا استمرارًا «ربيعيًّا» في الجَانبِ الإفريقيِّ من هذا العَالَمِ العربيِّ التَّائِهِ تَيْهًا والرَّائِهِ رَيْهًا جَمُوحًا كعادتِهِ في الخَوَالِي من تلك السَّنَوَاتِ الثَّمَانِي بالأقَلِّ، فإنَّ أيَّ جِنْسٍ من أجناسِ ذلك «التحليلِ السياسيِّ» المُتَمَرِّسِ بحُكْمِ المِهْنَةِ، أو حتَّى المُتَمَرِّسِ بحُكْمِ غيرِ المِهْنَةِ، يلْجَأُ مَحْثُوثًا بذلك «الحَمَاسِ الثوريِّ» المُفْرِطِ إفراطًا إلى حَدِّ الافتعالِ (أو، بالحَرِيِّ، ذلك «الحَمَاسِ فوقَ-الثوريِّ» Hyper-Revolutionary Fervour، إنْ جازتِ الاستعارةُ، هَا هُنَا، من مصطلحَاتِ علمِ النَّفْسِ الحَدِيثِ «المُسَالِمِ»)، يلجأُ مَحْثُوثًا إلى استخدامِ فَيْضٍ من بلاغيَّاتِ اللِّسَانِ التَّخْيِيريِّ، ومَا تَنْطَوِي عليهِ بدورِهَا من دلالاتٍ تمييزيةٍ، أو من دلالاتٍ تفضيليَّةٍ – لا بل جِدِّ تفضيليَّةٍ، في مَعْرِضِ الكلامِ عن «إنجازاتِ» الثورةِ الشعبيةِ السُّودَانيَّةِ، حتَّى هذا الحينِ أو حتَّى ذاك الحينِ منها، ودونَ الأخْذِ بالحُسْبَانِ بَتَّةً مَا يقابلُ هذهِ الـ«إنجازاتِ» فيمَا يتعلَّقُ بالثورةِ الشعبيةِ الجزائريَّةِ تحديدًا (أو أيَّةِ ثورةٍ شعبيةٍ عربيةٍ أُخرى، بقَدْرِ مَا يتعلَّقُ الأمْرُ بِهَا كذلك)، إنَّمَا هو جِنْسٌ من أجناسِ «التحليلِ السياسيِّ» الانتقائيِّ الاصطفائيِّ الحَائِدِ عن جَادَّةِ الصَّوَابِ والسَّدَادِ إلى حدٍّ كبيرٍ، ولا رَيْبَ، وخُصُوصًا كُلَّ الخُصُوصِ حينمَا يصْدُرُ هذا الجِنْسُ عن المصدرِ المَرْبُوصِ على «اليسارِ العربيِّ» تنظيرًا وَ/أوْ تطبيقًا، وسَواءً كانَ هذا اليسارُ العربيُّ  ماركسيًّا أمْ لاماركسيًّا أمْ في مَرْهَصَةٍ بينَ المَرْهَصَتَيْنِ. وقدْ أشرتُ، في القسمِ الثامنِ من هذا المقالِ، إلى شيءٍ من بلاغيَّاتِ اللِّسَانِ التَّخْيِيريِّ تلك، إشارةً إلى مَا قَامَ بِهِ الباحثُ الجَامعيُّ جلبير الأشقر بكلِّ جِدٍّ وجِدِّيَّةٍ قَوْلِيَّيْنِ في مقالِهِ التَّعَاطُفِيِّ المُفْتَعَلِ بالقَوْلِ ذاك وحَسْبُ، في مقالهِ المُشارِ إليهِ، «التضامنُ مع الثورةِ السودانيةِ ملحٌّ!» (القدس العربي، 23 نيسان 2019)، وذاك إشارةً إلى قَوْلِهِ «الحَمَاسِيِّ فوقَ-الثوريِّ» بأنَّ الثورةَ الشعبيةَ السُّودَانِيَّةَ إنَّمَا تشكِّلُ «الحالةَ الأكثرَ تقدُّمًا وخطورةً» وإنَّمَا تشكِّلُ «الحالةَ الأكثرَ صَلابةً وجذريَّةً»، لمجرَّدِ أنَّ هذهِ الثورةَ تَمْتَازُ بوجودِ قيادةٍ ثوريَّةٍ يقودُهَا قادةُ الائتلافِ المدنيِّ بالذَّاتِ، «قوى (إعلان) الحرية والتغيير»، المذكورِ قبلَ قليلٍ. وقلتُ هناكَ إنَّ في هذا القولِ «الحَمَاسِيِّ فوقَ-الثوريِّ» إجحَافًا وتسفيهًا غيرَ مباشِرَيْنِ – وقدْ صَارَا مباشرَيْنِ مُذَّاكَ، في حقيقةِ الأمرِ، بحقِّ الثورةِ الشعبيةِ الجزائريَّةِ، خاصَّةً (وبحُقُوقِ الثوراتِ الشعبيةِ العربيةِ الأُخرى، عَامَّةً)، لماذا؟ – لأنَّ الثورةَ الشعبيةَ السُّودَانِيَّةَ من طَرَفِهَا، ومعَ اتِّصَافِهَا بصِفَةِ الحُضُورِ القِيَادِيِّ الثوريِّ المُتَكَلَّمِ عَلَيْهِ، لمْ يميِّزْهَا حتَّى تلك اللحظةِ من نشوبِهَا أيَّ تمييزٍ موضوعيٍّ، ولا حتَّى ذاتيٍّ، من ذلك «الحَمَاسِ فوقَ-الثوريِّ» عن شَقِيقَتِهَا الثورةِ الشعبيةِ الجزائريَّةِ، ومعَ اتِّسَامِهَا بسِمَةِ الغِيَابِ القِيَادِيِّ الثوريِّ على النَّقِيضِ. حتَّى أنَّ هذهِ الشَّقِيقَةَ الجزائريَّةَ الأخيرةَ، من طَرَفِهَا هي الأُخْرَى، قدْ أثبتتْ للعَالَمِ كُلِّهِ، من جَرَّاءِ سِمَةِ الغِيَابِ القِيَادِيِّ الثوريِّ التي تَتَّسِمُ بِهَا، أنَّهُ مَا مِنْ قُوَّةٍ فيزيائيَّةٍ، ومَا مِنْ قُوَّةٍ مِيتَا-فيزيائيَّةٍ حتَّى، يُمْكِنُ لَهَا أنْ تَعْلُوَ بَتَّةً على قُوَّةِ مَا يُعْرَفُ بـ«المَنَابِ الإنسَانيِّ الجَمْعِيِّ» Collective Human Agency، وعلى الأخصِّ حينمَا يكونُ هذا المَنَابُ مُدَجَّجًا بقُوَّةِ الإرادَةِ الإنسَانيَّةِ الجَامِعَةِ: حتىَّ أفراخُ الطَّيرِ تستطيعُ أنْ تُحَلِّقَ في السَّمَاءِ أعْلى مِمَّا تستطيعُ (على الأرضِ) بقُوَّةِ الإرادَةِ في حَدِّ ذاتِهَا، لا بقُوَّةِ الجَنَاحَيْنِ، كَمَا كَانَ الحُكَمَاءُ القُدَامَى يقولونَ وقدْ كانوا عَلى يَقِينٍ مُطْلَقٍ من هذا القَوْلِ، وأوَّلُهُمْ كُونْفُوشْيُوس. وهكذا، وهذا يعني بجَلاءٍ، بالغِرَارِ ذاتِهِ، أنَّ صِفَةَ الحُضُورِ القِيَادِيِّ الثوريِّ التي تَتَّصِفُ بِهَا الشَّقِيقَةُ السُّودَانِيَّةُ الأولى، ورَغْمَ «إيجابيَّاتِ» هذا الحُضُورِ السَّاطِعِ للعِيَانِ عَلى أكثرَ من صَعِيدٍ (قبلَ الانحدَارِ إلى وَأْدِهِ، أو بالكادِ، حتَّى حينٍ)، لَصِفَةٌ ليسَ لهَا مَحَلٌّ من الإعْرَابِ في التَّألُّقِ الأشدِّ سُطُوعًا لِقُوَّةِ المَنَابِ الإنسَانيِّ الجَمْعِيِّ، وبالأخصِّ حينمَا يكونُ هذا المَنَابُ مُدَجَّجًا بقُوَّةِ الإرادَةِ الإنسَانيَّةِ الجَامِعَةِ (لكي نُعِيدَ التعبيرَ ذاتَهُ، مرَّةً ثانِيَةً، للتَّوْكِيدِ – من بُدِّهِ). هذا هو الوَعْيُ الطَّبَقِيُّ الجَمَاهيريُّ اليقينيُّ بالصِّرَاعِ بينَ طبقةِ الطُّاغِيَةِ العَتِيِّ وبينَ طبقاتِ الشَّعْبِ المَعْتِيِّ (عَلَيْهِ) أيًّا كانَ، أيًّا كانَ، في تاريخِ مَدِّهِ، هذا هو الوَعْيُ الطَّبَقِيُّ الجَمَاهيريُّ اليقينيُّ الذي تمخَّضَ عن مَدَى القَمْعِ والقَسْرِ والقَهْرِ ومَا تمخَّضَ عنْهَا بدَوْرِهَا من بُؤْسٍ نفسيٍّ-اِجتماعيٍّ مدِيدٍ زائدٍ عنْ حدِّهِ، هذا هو الوَعْيُ الطَّبَقِيُّ الجَمَاهيريُّ اليقينيُّ الذي حَطَّ كلاًّ من أنظمةِ الطُّغْيَانِ المَعْنِيَّةِ في مَحَطٍّ مُنْحَطٍّ لَمْ يَعُدْ في مَقْدُورِهِ التَّحَكُّمُ فيهِ بالسِّيادَةِ والسِّيَادِ لَدَى اشتدادِ ذاك الزَّنْدِ، زَنْدِ الشَّعْبِ السُّودَانِيِّ أوِ الجَزَائرِيِّ أوِ اللِّيبِيِّ أوِ المِصْرِيِّ أوِ اليَمَانِيِّ أوِ العِرَاقِيِّ أوِ الأُرْدُنِّيِّ أوِ الفِلَسْطِينِيِّ أوِ اللُّبْنَانِيِّ أوِ السُّورِيِّ أوِ القَادِمِ والقَادِمِ، لا مَحَالَ، لَدَى اشتدادِ ذاك الزَّنْدِ، زَنْدِ الشَّعْبِ الزَّنُودِ العَنُودِ الشَّدُودِ في شَدِّهِ، هذا هو الوَعْيُ الطَّبَقِيُّ الجَمَاهيريُّ اليقينيُّ الذي سوفَ يُسَجِّلُهُ التاريخُ الإنسانيُّ وَعْيًا متزايدًا باطِّرَادٍ في سِجِلاَّتِ «النَّشَاطِ التاريخيِّ المستقلِّ» بالذَّاتِ – وقدْ تَطَرَّقَ إلى أشكالِ هذا النَّشَاطِ التاريخيِّ بالذاتِ لينينُ عَيْنُهُ مِرَارًا وتكرارًا في أكثرَ من سِيَاقٍ ثوريٍّ مَاثِلٍ، وخُصُوصًا بالاستنادِ السَّنِيدِ إلى مَا عَنَاهُ ماركسُ عَيْنُ عَيْنِهِ من مرحلةِ التناقضِ الحَتْمِيِّ بين قِوَى الانتاجِ وبينَ علاقاتِ الانتاجِ، قبلَ أن يستحيلَ هذا التناقضُ الحَتْمِيُّ إلى قوَّةٍ تدميريَّةٍ شَاملةٍ لكَيْمَا يستهلَّ استهلالاً مرحلةَ الثَّوَرَانِ الاِجتماعيِّ الشَّاملِ.

وفَوْقَ ذلك كُلِّهِ، أيَّتُهَا القارئةُ الفَطِينَةُ وأيُّهَا القارئُ الفَطِينِ، لَمْ نَفْتَأْ في هذا الآنِ والآوانِ نَرَى مثقَّفينَ لامِعِينَ مِمَّنْ هُمْ (وهُنَّ) في عِدادِ المنتمينَ إلى «اليسارِ العربيِّ» الماركسيِّ أوِ اللاماركسيِّ أوِ الـ«مَا بَيْنَ بَيْنَ»، لَمْ نَفْتَأْ نَرَاهُمْ يلجأُونَ مَحْثُوثِينَ بذاتِ «الحَمَاسِ فوقَ-الثوريِّ» إلى استخدامِ فَيْضٍ (أو فُيُوضٍ) من بلاغيَّاتِ اللِّسَانِ التَّخْيِيريِّ المُنَوَّهِ عنهُ آنِفًا، مَثَلُهُمْ في هذا اللُّجُوءِ كَمَثَلِ ذاك الصَّبيِّ «العبقريِّ» حينَ يشاهدُ، وَهْوَ مُخْرِجٌ بجهازِ التَّحَكُّمِ مِنْ بُعْدٍ، مَشَاهِدَ لُعْبَةٍ إلكترونيَّةٍ من تلك الألعَابِ المُسَمَّاةِ جَمْعًا بـ«حُرُوبِ النُّجُومِ» Star Wars، فيختارُ مَا يَشَاءُ من هذهِ الحُرُوبِ «مثالاً مَلْحَمِيًّا» يَحْتَذِي بِهِ احتذاءً في تَجْوالهِ الاِفْتِرَاضيِّ المَائِرِ، ويُكْسِيهِ من ثَمَّ «فُسْتَانًا أُسْطُورِيًّا» بكُلِّ مَا يَبْتَنِيهِ من خَيَالاتِ الاِسْتِيهَامِ الحَمَاسِيِّ الفَائِرِ، وبغضِّ الطَّرْفِ كُلِّ الطَّرْفِ، في مَعْمَعَانِ هذهِ «الحَرْبِ الضَّرُوسِ»، عن أيِّمَا «مثالٍ مَلْحَمِيٍّ» آخَرَ. فهَا هو، على سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، مثالُ الكاتبِ الرِّوَائيِّ اللبنانيِّ إلياس خوري، في مقالِهِ المَعْنِيِّ، «السودانُ والربيعُ العربيُّ» (القدس العربي، 6 أيار 2019)، هَا هو يتحدَّثُ عن الثورةِ الشعبيةِ السُّودَانِيَّةِ بوَصْفِهَا «مِرْآةً ناصِعَةَ» تسمحُ، والحَالُ هذهِ، بإعادةِ النَّظَرِ في كَافَّةِ الثوراتِ الشعبيةِ العربيةِ التي سَبَقَتْهَا (بما فيها كذلك الثورةُ الشعبيةُ الجزائريَّةُ التي تُزَامِنُهَا قُبَيْلَئِذٍ)، دونَ أنْ يتجشَّمَ أيًّا من عَنَاءِ القولِ بالنَّحْوِ العكسيِّ تمامًا بأنَّ هذهِ المِرْآةَ الناصِعَةَ ذاتَهَا، ولا شكَّ فيهَا بتَّةً، إنَّما استمدَّتْ نُصُوعَهَا، بنَحْوٍ أو بآخَرَ، من هذهِ الثوراتِ ذاتِهَا في الحَيِّزِ الأوَّلِ، رغمَ كلِّ مَا اعتراهَا ومَا يعتريهَا من إخفاقٍ ومن إحباطٍ، على مدى تلك الثَّمَانِي من عِجَافِ السِّنِينِ، على الأقلِّ. وقدْ أشارَ الكاتبُ الرِّوَائيُّ مُنَاقِضًا نفسَهُ بنفسِهِ إلى بعضٍ من أسْبَابِ هذا الإخفاقِ وهذا الإحباطِ، إشارةً إلى أتْرَاحِ المشهدِ السُّورِيِّ الرَّثِيمِ، وبعدَ الإسْهابِ الرِّوَائيِّ في بلاغيَّاتِ اللِّسَانِ التَّخْيِيريِّ الرَّنِيمِ، تلك الأسْبَابِ التي تأزَّمَتْ في آخِرِ المَطافِ في وُقُوعِ السُّوريَّاتِ والسُّوريِّينَ، أيَّامَ غُلِبُوا عَلى أمْرِهِمْ وأيَّامَ غُرِّرَ أيَّمَا تَغْرِيرٍ بِهِمْ، في وُقُوعِهِمْ بينَ فَكَّيْ نظامَينِ طُغْيَانِيَّيْنِ تَكَتُّلِيَّيْنِ يتقاتَلانِ تقاتُلاً هَمَجيًّا، لا بَلْ مَا دونَ-بهيميًّا، على السِّيَادةِ والنُّفُوذِ في أرضِ الشَّآمِ، من جهةٍ، ويتباريَانِ تباريًا لا يقلُّ هَمَجيَّةً ولا يقلُّ مَا دونَ-بهيميَّةً على إخْمَادِ الثورةِ الشعبيةِ السُّوريَّةِ باسْتنفَارِ شتَّى أولادِ الحَرَامِ، من جهةٍ أُخرى. وهٰذانِ النِّظامَانِ الطُّغْيَانِيَّانِ التَّكَتُّلِيَّانِ هُمَا: نظامُ السُّحْتِ الأسديُّ الإجْرَامِيُّ العَمِيلُ بقَرْنَيهِ الرُّوسيِّ والإيرانيِّ الجَلِيَّيْنِ (إضافةً إلى قُرونِهِ الخَفِيَّةِ من دولِ الغربِ الإمبرياليِّ الحَدِيثِ، بما فيها إسرائيلُ)، أوَّلاً، ونظامُ الزِّفْتِ السُّعُوديُّ النَّهْيَانيُّ الاجْتِرَامِيُّ الأجَلُّ عَمَالَةً بمخالبِهِ الجَلِيَّةِ من أشتاتِ المتوحشينَ التكفيريِّينَ والظلاميِّينَ (فضلاً كذلك عنْ مخالبِهِ الخَفِيَّةِ من دولِ الغربِ الإمبرياليِّ الحَدِيثِ، بما فيها إسرائيلُ)، ثانيًا – فـ«شجاعةُ» السُّودانيَّاتِ والسُّودانيِّينَ في تحطيمِ جُدْرَانِ الخَوْفِ، ولا ريبَ فيها بَتَّةً أيضًا، ليستْ مُنْعَدِمَةً على الإطلاقِ في أذْهَانِ الجزائريَّاتِ والجزائريينَ (ولا حتَّى مُنْعَدِمَةً في أذْهَانِ السُّوريَّاتِ والسُّوريِّينَ، ولا حتَّى مُنْعَدِمَةً في أذْهَانِ أيٍّ من الشُّعُوبِ التي ثارتْ والتي لم تَثُرْ بعدُ)، حتَّى يفتتحَ الكاتبُ الرِّوَائيُّ بلاغيَّاتِهِ التَّخْيِيريَّةَ بهَا (أي بـ«الشجاعةِ» المُتَحَدَّثِ عنهَا) متفرِّدًا بالسُّودانيَّاتِ والسُّودانيِّينَ، دُونَ غَيْرِهِنَّ ودُونَ غَيْرهِمْ، ودُونَ أنْ يختتمَ البلاغيَّاتِ ذَاتَهَا إنْ كانَ يعلمُ أنَّ هذهِ «الشجاعةَ» المُتَحَدَّثَ عنهَا بالذاتِ إنَّمَا اسْتَقَتْ بَريقَهَا، بِنَحْوِهَا هي الأُخْرَى، مِنْ «شَجَاعَاتِ» مَنْ قَوَّضْنَ ومَنْ قَوَّضُوا جُدْرَانَ الخَوْفِ ذَوَاتِهَا قبلَ تلك «الثَّمَانِي من عِجَافِ السِّنِينِ»، ومِنْ قُدَّامِ أنظمةٍ طُغْيَانِيَّةٍ أكثرَ وَحْشِيَّةً وأكثرَ بربريَّةً وحُوشِيَّةً في الظَّنِّ واليقينِ.

وهَا هو، على سَبِيلِ التَّمْثِيلِ كذاك (والأنكى من ذاك كلِّهِ)، مثالُ الكاتبِ الرِّوَائيِّ الجزائريِّ واسيني الأعرج في مقالِهِ المَعْنِيِّ، «أيقوناتُ الثوراتِ العربيةِ، والحراكُ السلميُّ؟» (القدس العربي، 21 أيار 2019)، هَا هو يتكلَّمُ، من زاويتِهِ هو الآخَرُ، بتفرُّدٍ أشدَّ عَلى المستوى الجَمْعِيِّ، وبتفرُّدٍ أشدَّ شِدَّةً حتَّى على المستوى الفرديِّ تحديدًا، هَا هو يتكلَّمُ عن شخصيَّةٍ أنثويَّةٍ برزتْ فجأةً حينذاك في المشهدِ السُّودَانِيِّ، كمثلِ الشابَّةِ السُّودانيةِ آلاء صالح (ولا شكَّ، لا شكَّ، في كُلِّ الثَّنَاءِ وفي كُلِّ التقديرِ اللذَيْنِ تستحقُّهُمَا استحقاقًا، في هذهِ القرينةِ)، يتكلَّمُ عنهَا عَلى اعتبارِهَا «أيقونةً جَمِيلةً» أنْشَأتْهَا الثورةُ الشعبيةُ السُّودَانِيَّةُ تعبيرًا عن الحَرَاكِ السِّلْمِيِّ في هذا الزَّمَانِ، وعَلى اعتبارِهَا كذلك صُورةً أنيقةً و«تمثالاً للحريَّةِ في كلِّ مكانٍ»، وعَلى اعتبارِهَا عِلاوةً عَلى ذلك كلِّهِ جَسَدًا أُنثويًّا تجسَّدتْ فيهِ رُوحُ «الملكةِ النُّوبيَّةِ الأسطوريَّةِ كَنْدَاكَةَ» بالرُّوحِ فأصَابَهَا شيءٌ من خُلودِهَا المُصَانِ، إلى آخرِهِ، إلى آخرِهِ، من أمثالِ بلاغيَّاتِ اللِّسَانِ التَّخْيِيريِّ الدِّعَائيِّ والدِّعَاوِيِّ التي تختصُّ بِهَا وسَائلُ الإعلامِ الغَنِيَّةُ عن التعريفِ في الشَّرْقِ قبلَ الغَرْبِ (إنْ أرادتْ أنْ تُشْهِرَ شخصيَّةً أنثويَّةً، أو ذَكَرِيَّةً، إشْهَارًا لمَأْرَبٍ من المَآرِبِ، تمامًا مثلمَا تريدُ أنْ تُغْمِرَهَا إغْمَارًا، أو حتَّى أنْ تُفْنِيهَا إفْنَاءً، بمَقْلَبٍ من المَقَالِبِ). وهكذا ببساطةٍ، وهكذا لمُجَرَّدِ أنَّ هذهِ الشابَّةَ السُّودانيةَ وقفتْ حتَّى حينٍ على ظَهْرِ سيَّارةٍ «تُهَوِّسُ» وَسْطَ الحُشُودِ ببضْعٍ من عباراتِ الزَّجَلِ الشَّعبيِّ (الثوريِّ)، تحوَّلتْ بينَ عَشِيَّةٍ وضُحَاهَا إلى «أسطورةٍ ثوريَّةٍ» بهذا الزَّخْمِ الرِّوَائيِّ العتيدِ الذي استقطبَ كُلَّ الاِستقطابِ يَرَاعَاتِ الكاتبينَ وحَنْجَرَاتِ المُغَنِّينَ من «اليَسَارِ العربيِّ»، أو المَحْسُوبِ عليهِ (كمارسيل خليفة وسميح شقير، مثلاً لا حَصْرًا)، وعلى الرَّغْمِ الرَّغِيمِ من أنَّ هكذا «أسطورةً ثوريَّةً»، في حَدِّ ذاتِهَا، لَمْ تتحوَّلْ حتَّى خالدة زاهر (1926-2015) إلى أيِّ شيءٍ منها، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، تلك الناشطةُ اليساريَّةُ الماركسيَّةُ الحقيقيَّةُ التي كانتْ من أُولَيَاتِ النِّسَاءِ اللواتي كُنَّ غَيْرَ آبِهَاتٍ بالاعتقالِ والتنكيلِ إلى حَدِّ الجَلْدِ بأنواعِهِ، حينمَا كُنَّ يَقُدْنَ المُظاهراتِ تنديدًا بالاستعمارِ الإنكليزيِّ في الأربعينيَّاتِ ومطلعِ الخمسينيَّاتِ من القرنِ الفارطِ (قبلَ خُرُوجِ هذا الاستعمارِ إبَّانَئِذٍ)، وحينمَا كُنَّ يَقُدْنَها كذلك احتجاجًا على كلِّ أشكالِ الطُّغْيَانِ والاستبدادِ (بعدَ خُرُوجِ ذاك الاستعمارِ عَامَ 1956) – وثَمَّةَ الكثيرُ الكثيرُ، عَلى اختلافِ الِانتمَاءَاتِ بكُلِّهَا، ثَمَّةَ الكثيرُ من أولئك الناشطاتِ اللواتي ارْتَقَيْنَ والناشطينَ الذينَ ارْتَقَوْا إلى مَصَافِّ «الأسطورةِ الثوريَّةِ» وإلى أرقَى مِنْهَا بكثيرٍ مَصَفًّا حتَّى، ثَمَّةَ الكثيرُ مِمَّنْ لَمْ يلتفتْ إليهِنَّ ولا إليهِمْ ضَميرُ «اليَسَارِ العربيِّ» أيَّ التفاتٍ بذلك الزَّخْمِ الرِّوَائيِّ الحَمَاسِيِّ العتيدِ. كَمَا قالَ أحدُ المُعلِّقينَ الفُطَنَاءِ مَا مَعْنَاهُ، هُنا، إنَّ أيَّ عَاملةٍ تعملُ في مَعْمَلٍ للمَلابسِ عَمَلاً شريفًا لكيمَا تُقَدِّمَ للنَّاسِ المَلابسَ جَيِّدةً، وحَسْبُ، إنْ هي إلاَّ أيقونةٌ وطنيَّةٌ لَأَهمُّ بكثيرٍ مِنِ امْرَأةٍ تَصْدَحُ بالصَّوتِ، لا لشيءٍ سِوَى لكيْ تكونَ «كَنْدَاكَةً»، ليسَ إلاَّ! وكَمَا يقولُ لِسَانُ الحَالِ كذاك لدَى أيَّةِ ذاتِ وأيِّ ذِي ضَميرٍ إنسَانِيٍّ في هذا الزَّمَانِ الفَقِيرِ إلى الضَّميرِ الإنسَانِيِّ مَا فَحْوَاهُ، هَا هُنا، إنَّ ظُفْرًا واحِدًا مِنْ أظْفَارِ الصَّبِيِّ الأبِيِّ حمزة الخطيب، تلك الأظْفَارِ التي اقتلعَتْهَا بكُلِّ وَحْشِيَّةٍ وبكُلِّ هَمَجِيَّةٍ وبكُلِّ حُوشِيَّةٍ كَمَّاشَاتُ نظامِ السُّحْتِ الأسديِّ الإجْرَامِيِّ العَمِيلِ، إنَّمَا يُعادلُ وَزْنًا لَأَجَلَّ بكثيرٍ مِنْ وَزْنِ «كَنْدَاكَةٍ» فَوْقَهَا سِتُّونَ ألفَ «كَنْدَاكَةٍ» مِمَّا يَعُدُّونَ!

وإنْ كانَ ثَمَّةَ مَنْ لا بُدَّ لَهُ مِنْ أنْ يَتَحَلَّى مَحْثُوثًا بفَيْضٍ مِنْ ذلك «الحَمَاسِ فوقَ-الثوريِّ» في هذا الزَّمَانِ الفَقِيرِ إلى الضَّميرِ الإنسانيِّ، وإنْ كانَ ثَمَّةَ مَنْ لا بُدَّ لَهُ مِنْ أنَ يَتَمَلَّى مَحْثُوثًا إحْثَاثًا أشدَّ مِنْهُ فَيْضًا أوْ فُيُوضًا مِنْ بَلاغيَّاتِ اللِّسَانِ التَّخْيِيريِّ، ومَا تَنْطَوِي عليهِ بدورِهَا مِنْ دَلالٍ تمييزيٍّ، أوْ مِنْ دَلالٍ تفضيليٍّ أوْ جِدِّ تفضيليٍّ، وسَواءً كانَ هذا الـ«مَنْ» بَاحِثًا جَامِعِيًّا أمْ كاتبًا رِوَائِيًّا أمْ مُؤَلِّفًا مُوسِيقيًّا أمْ نَاشِطًا سِيَاسِيًّا (يَسَارِيًّا ماركسيًّا أوْ لاماركسيًّا أوْ بَيْنَ بَيْنَ)، أمْ حتَّى أيَّ شَيْءٍ غَيْرَ ذلك في الفَضَاءِ الرَّقَمِيِّ واللارَقَمِيِّ، فليسَ لَهُ عندَئِذٍ إلاَّ أنْ يُوَظِّفَ هذا الحَمَاسَ كُلَّهُ، وليسَ لَهُ عندَئِذٍ إلاَّ أنْ يُوَظِّفَ هذهِ البَلاغيَّاتِ كُلَّهَا، لِصَالِحِ رُمِّ الشُّعُوبِ العَرَبيَّةِ (أوِ اللاعَرَبيَّةِ) المُسْتَمِرَّةِ في ثَوَرَانِهَا السِّلْمِيِّ، وليسَ غيرَ هذهِ الشُّعُوبِ. ذلك لأنَّ هذهِ الشُّعُوبَ بالعَيْنِ، بمَا تُبدِيهِ للدُّنْيَا بِأسْرِهَا من وَعْيٍ فَرْدِيٍّ حقيقيٍّ ومن وَعْيٍ جَمْعِيٍّ أحَقَّ بوجودِهَا المَسْلُوبِ، لا تحتاجُ بَتَّةً إلى أيٍّ من «أيْقُونَاتِ» الحُضُورِ القِيَادِيِّ الثوريِّ، لا تحتاجُ بَتَّةً، لا في الشُّرُوقِ ولا حتى في الغُرُوبِ، بِأَيٍّ من تمثيلاتِها البنيويَّة – ولِهٰذَا الكَلَامِ، فِيمَا بَعْدُ، بَقِيَّة!

[انتهى القسم التاسع من هذا المقال ويليه القسم العاشر]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق