رسول الفضة هي رواية للأديب الجزائري أحمد عبد الكريم،
الصادرة عن دار الحكمة في طبعتها الأولى عام 2023، وهي من النصوص التي تستدعي
شخصيات جزائرية تنتمي إلى
لحظات من تاريخ الجزائر. إذ تلتقط لحظة تاريخية ترتبط بالشاعر الشعبي عبد الله بن كريو لتعيد تمثيلها جماليا،
مركزة على الحياة الشخصية له، لاسيما قصته مع فاطمة (فاطنة) الزعنونية
بمدينة الأغواط.
كما تضعنا رواية رسول الفضة في سياق تاريخي عاشته
الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي، حيث تشتغل على جغرافيا محلية تمتد على المناطق التي عاش فيها الشاعر بن
كريو، بين الأغواط، وغرداية التي عمل بها قاضيا شرعيا للمالكية.
وسنحاول في هذه الورقة الاقتراب من حدود الرواية وقدرتها
على تمثيل الذاكرة الثقافية لاسيما لمدينة الأغواط، وأهم العناصر السردية التي
اعتمدها الروائي في هذه العملية.
تستند الرواية أيضا على الذاكرة الوطنية حين تستدعي ما
وقع لمدينة الأغواط عام 1852، أو ما يعرف بـ: "عام الخليّة" حين أقدم
الاستعمار الفرنسي على ارتكاب مجزرة في حق الجزائريين، حيث استعمل فيها قنابل
معبئة بمادة الكلوروفورم السامة التي تتسبب في التهابات خطيرة تلحق بأنسجة
الرئتين.
وبعد" حصار دام خمسة عشر يوما دخل الجنرال
"بلسييه" الأغواط على رأس جيش قوامه ستة آلاف جندي، قوبل بمقاومة
شرسة من طرف الأهالي الذين استبسلوا في الدفاع عن أرضهم، ولم يسلموا أو
يستسلموا... بعد أن دك حصونها بالدفعية، التي كانت محشوة "بالكلوروفورم"
السام، عاث الجنرال في الأرض قتلا للأرواح وتخريبا للبيوت والمساكن، وحرقا للأخضر
من الحدائق والواحات ولليابس أيضا..." ص34
وتقول المصادر التاريخية أن الاستعمار الغاشم قد قتل ما
بين 2500 و 3000 شهيدا،و"أباد ثلثي سكانها، انتقاما للجنرال
بوسكارين الذي لقي حتفه في حصار المدينة، وقد أعطى الفرنسيون اسمه للحصن الذي بنوه
على أنقاض البرج الغربي الذي هدموه ، تخليدا لروحه ووفاء لذاكرته، فصارت القلعة
الجديدة تعرف "بقلعة بوسكارين"..."ص 34
ومما تحيل عليه الرواية ما خلفته المجزرة في نفوس أهلها
الذين نجوا، وبقاء هذا الجرح غائرا في الوجدان الوطني، فكيف لنا نسيان هذه الجريمة
النكراء التي لا يمكنها أن تسقط بالتقادم، لهذا يمكن اعتبار رواية رسول الفضة من "نصوص الذاكرة الوطنية" حتى وإن
كانت تركز على التجربة الشخصيةللشاعر عبد الله بن كريو.
لقد "خربت الأغواط التي كانت سرّ فتنتها، وهدمت
بيوتها حتى كادت أن تمحى من الوجود، لذلك مازال الأغواطيون يسمونه "عام
الخلية"، لأن المدينة صارت خرابا، خلت وصارت مسرحا للموت والعدم. وكادت تصبح
أثرا بعد عين. حتى ذهبت مثلا سائرا في الروايات والأحاديث "لقواط زينة
وفسّدهاالزيش" في إشارة إلى المدينة الجميلة التي أفسدها جيش الجنرال
الفرنسي." ص 34
ولم يكتف الجيش الفرنسي بذلك، بل راح يتففن في طرق
الإبادة، حتى أن هناك من أطلق عليها بعام "الشكاير" فقد "كان الرجال والصبيان المسممون يوضعون
في خيش مربوط ويرمون أحياء في خنادق جماعية، حتى سمي أيضا عام "الشكاير"
أو الأكياس...ص35
ويربط الروائي بين ما وقع في هذا العام وبين بعض العادات
التي استمرت عند سكان المنطقة، حيث يرى أن "فكرة العيّاشة" وهو وضع
النساء أقراط في آذان الذكور من الأبناء طلبا للعيش وطور العمر، كان نتيجة لما
خلفته هذه الإبادة من ضحايا إذ "لم تنج ... إلا النساء الماكثات في البيوت
والصبايا الصغيرات، لذلك لجأت النساء إلى حيلة ذكية، وهي وضع أقراط في آذان
أطفالهن الذكور كي لا يكونوا عرضة للقتل، حتى صار ذلك عادة لدى الأغواطيين. استمرت
مدى الزمن لدفع الشر والنحس عن الأطفال الصغار ويسمى الخيط الموضوع في أذن الصبي
"العيّاشة" التي تمنحه العيش وطول العمر" ص35
وفي المقابل تسعى الرواية لاستدعاء
الذاكرة الثقافية للمدينة بناء على رؤية جمالية تخص عمران الاغواط، مركزا على بعض
الملامح الأنتربولوجية لهذه المنطقة التاريخية التي نجد لها ذكرا في نصوص الرحالة
مثل الأغواطي والعياشي وحتى عبد الرحمان ابن خلدون الذي تحدث عما يعرف بلقواط، وهي
تسمية الأغواط مع قلب الغين قافا، وجاء في تاريخه "وأما لقواط وهم فخذ من
مغراوة أيضا، فهم في نواحي الصحراء ما بين الزّاب وجبل راشد، ولهم هناك قصر مشهور
بهم." ص 29
وتستدعي الرواية حديثا عن علاقة مدينة الأغواطبالرسام العالمي إتيان دينيه
أو كما سمته "بالصوار الرومي" الذي عشق صحراء الجزائر، ورسمها وكتب عنها
قصصا عديدة، وتتحدث الرواية عنه حين وقف "قبل ثلاث سنوات على إحدى التلال
المشرفة يرسم غروب شمس الأغواط، وينقل على لوحته هذا المنظر الساحر لحي الشُّطيط،
ببيوته الطينية وحركته المسائية، وهو يودع الشمس الغاربة خلف واحات النخيل، تاركة
ألوانها الحنائية على الأفق." ص30
تحضر شخصية دينيه أو"الصوار
الرومي"عندما يراهبلقاسم البجاوي -وهو شخصية من شخصيات الرواية- غير مرة في
حواري الأغواط، يجوبها بحثا عن منظر آسر الضوء والألوان، أو شارع عتيق الظلال
يرسمه، أو قسمات صبي يسرق ضحكته الهانئة، وملامحه البائسة ليثبتها بفرشاته على سطح لوحة...ص 31
تحضر مدينة الأغواط في رواية رسول الفضة باعتبارها مكانا
يحيل على ذاكرة ثقافية، إذ يتم استحضارها من منظور نوستالجي فيه حنين إلى هذه
الحاضرة التاريخية ذات الأبواب السبعة، منها باب الوادي، وباب الدزاير وباب
الشطيط، وباب الحراق، وباب زقاق الحجاج وباب الرّبط...
ويأتي الروائي على تأثيث هذه الأبواب تأثيثا ثقافيا، حين
يربط بينها وبين مجموعة من العناصر الرمزية والحضارية التي تحافظ على ذاكرة
المدينة وتجعل منها حاضرة ثقافية بامتياز، فهذا بلقاسم البجاوي تاجر الفضة وصديق
بن كريو المقرب الذي يأتيها من منطقة صدّوق التابعة لحاضرة بجاية، وهو رجل طويل
القامة، بوجه أبيض وشارب كث أسود، ويبدو أكبر من عمره الثلاثيني، أسماه جده بلقاسم
بتوصية من الشيخ محمد بن أبي القاسم قطب زاوية الهاملالرحمانية، وكان قد زارها مع
أعيان صدوق ومشايخها تاركا زوجته حاملا في شهرها التاسع...ص26
يذكر الروائي أبواب الأغواط وأي منها سيدخل منه بلقاسم
البجاوي، هل سيدخل من باب الوادي؟ نسبة إلى واد مزيّ الذي ينطلق من ينابيعه بجبال
عمور وينتهي إلى صحراء بسكرة. إنه شريان الأغواط الذي يشق المدينة إلى قسمين، يروي
بساتينها والحدائق التي توجد على ضفافه، لكنه حين يفيض عن الحدّ يغمر هذه الحدائق
ويفسد بمده الجارف، الذي لا يبقى في طريقه شيئا...ص35
كم يمكن لبلقاسم البجاوي أن يدخل الأغواط من باب الشطيط،
الحي العامر بالحياة، ها هو جامعالصفّاح ، المبني على صخرة الصوان العالية، يبدو
بمنارتيه البيضاوين وصومعته التي تعتبر أول صومعة في المدينة، بني الجامع سنة 1874
على هضبة "تيزقراين" التي تشرف على بعض أحياء الأغواط، من طرف بناء
إيطالي يدعى موليناري دخل الإسلام، صممه تصميمها هندسيا مميزا، بالاعتماد على
الطراز الهندسي القوطي، كما أنه ثبت فوق سطحه رخامية دائرية الشكل، عليها أسهم
وكتابات، تبين اتجاهات القصور والمدن المحيطة، والمسافات التي تفصلها عن
الأغواط...ص36
يعد جامع الصفّاح معلما من معالم الأغواط وأحد مكونات
ذاكرتها الثقافية، لاسيما وأنه يتميز بمعمار هندسي خاص، ويمكن لتاجر الفضة أن يدخل
من باب الحراق، أي من حيث كان الرعاة يغادرون وراء القطعان صباحا إلى المراعي
ومواطن العشب والكلأ خارج أسوار المدينة المحصنة، لتعود مساء إلى زرائبها في الحي،
كل شاة أو عنزة كانت تعرف صاحبها ولا تخطئ بيته، تعود إليه عامرة الضروع،
معبرة عن بهجة العودة بجوقة الثغاء... باب
الحراق يدخل إليه القادمون من مدينة عين ماضي، معقل الطريقة التيجانية ومقر
خليفتها سيدي أحمد التيجاني...ص 36
كما إن بلقاسم البجاوي يمكنه أن يدخل من باب زقاق
الحجاج، هذا الحي المسمى باسم عرش الحجاج وهو أحد عروش قبيلة الأرباع المشكلة من
أولاد زيد، أولاد صالح والمعامرة... في هذا الحيّ يقع بيت محمد الحاج الطاهر
التخّي القاضي، الذي يدعونه كريو، حيث ولد صديقه عبد الله بن كريو....ص37 وربما يليق ببلقاسم أن يدخل المدينة من باب
الربط، الذي يربط بين شطري الأغواط، وجهتيها الشمالية والجنوبية، حيث ضريح سيدي
الحاج عيسى، قدس الله سره، ولي المدينة وحارسها المطل عليها من مقامه
العالي....ص38.
كما يكتشف القارئ أن الرواية قد مزجت بين التاريخ
والذاكرة والخيال، عبر برنامج سردي تتقاطع داخله مصائر شخصيات بن كريو و بلقاسم
البجاوي وفاطمة الزعنونية وغيرهم مخلفة نوعا من الخيال التاريخي وهو نوع من
الكتابة الأدبية التي قد تستوعب صيغا تاريخية متعددة بما فيها الوجدانية
والعاطفية، وقد تتصارع مجموعة من الصيغ في
نص واحد كما ترى الناقدة كيت ميتشل.
من جهة أخرى لقد حاول الروائي الاشتغال على عناصر الذاكرة الثقافية وذلك بالجمع بين الطبيعة والثقافة واللغة في قالب روائي بسيط وغير معقد استند كثيرا على وعي جمالي خاص بعيدا عن الصراع الإيديولوجي الذي نعثر عليه كثيرا في نصوص الذاكرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق