ما أعلن عنه ترامب البارحة ليس، ولا يمكن أن يكون مجرّد هرطقات مفاجئة لرجل
مجنون ناتجة عن نوبات صرع حادّة أو سكر ثقيل أو نزوات سريعة عابرة!
لا يا بنيّ! إنّهم ليسوا مثلنا!
لقد صدّروا إلينا وصفات الأكلات السّريعة
"الشيز برغر" و"الهوت دوج" و"دجاج الكنتاكي"
و"الميلك شايك" و"فطائر التّفّاح"، كي نبتلعها نحن سريعا في
قضمة واحدة، في حين يطبخون هم العالم على مهل وببطء واستمتاع شديد عبر عقود من
الاستشراف والتّخطيط ونسج حبائل الموت العنكبوتيّة وتطويع التّاريخ والجغرافيا
وتحضير الزّمان والمكان والحلفاء والعملاء بصبر جميل ومكر طويل لا يدركه أمثالنا
يا بنيّ!ممّن ولدوا على رمل ساخن ملتهب وعاشوا لاجئين من محتلّ إلى محتلّ ومن حاكم
لحاكم وظالم لظالم وغاصب لغاصب، لا يطلبون سوى متر من التّراب لقبورهم، أو متر
ينصبون عليه خيامهم إذا بقوا أحياء لليلة أخرى، وفي الصّباح يجمعونها ويرحلون!
هذا هو العالم يا ولدي!
ما قاله ترامب عن قرار السّطو على غزّة وتهجير سكّانها، أو إبادتهم ودفنهم
هناك تحت أنقاضها، لا فرق... بالتّأكيد صادق عليه وزراؤه وشركاؤه وداعموه في
الانتخابات ومجلس شيوخه ونوّابه، وصادق عليه أيضا حكّام مصر والأردن والإمارات
والسعودية وكلّ حكّام العرب، فملوك العالم ومُلاّكه يا بنيّ لا ينطقون عن الهوى،
حتّى وإن حاول بعض حكّام العرب وبعض منظّمات العالم "المرتهن" أمريكيّا
أن يظهروا اليوم لشعوبهم ولبعض العالم أنّهم فوجئوا، أو يظهروا بعض التّمنّع
الخفيف في شكل بيانات استغراب أو استنكار أو حتّى احتجاج أو إدانة، كلّ ذلك لا
يضرّ ولا يزعج المالك الجديد القديم للعالم على الإطلاق! بل هو شيء ممتع ومسلّ
ويزيد الأمر إثارة، فشيء من التّمنّع الخفيف لدى الغانيات وهنّ الرّاغبات، يزيد في
حالة الإثارة والاهتياج لدى مريدهنّ، ويمتع ويسلّي أكثر!
كان يعرف أنّهم سيقبلون الأمر في النّهاية، بل هو يعرف أنّهم يقبلونه منذ
البداية، بل هو يعرف أنّهم لا يرفضونه كي يقبلوه، بل هو يعرف أنّهم يطلبونه
ويريدونه ويرغبون فيه بلهفة وإلحاح، حتّى وإن تظاهروا بغير ذلك...
جميعهم يريدون الانتهاء من الصّداع الفلسطينيّ إلى الأبد، ولا توجد فرصة كهذه
ولا شخص مثله يستطيع أن يحقّق لهم هذا الحلم دفعة واحدة وبلا أيّة خزعبلات!
هكذا هم التّجّار يا ولدي، وهو شهبندر تجّار هذا العصر، يعرف كي يقرأ عيون
زبائنه بذكاء، وهو السّيّد المالك، ويعرف كيف يقرأ طباع عبيده وكيف يعاملهم، وهو
السّلطان العاري في مخدعه الوثير، ويعرف ما تريده الجواري وكيف يدلّلهنّ ليمتعنه
أكثر وأكثر داخل هذا الحرملك العربيّ الحزين يا ولدي!
هذا هو العالم يا ولدي!
عندما تكون قد ولدت ضعيفا ووحيدا ومحاصرا وجائعا ومنبوذا من أهلك وجيرانك
وإخوتك وبني عمومتك، ويجتمع عليك كلّ العالم بكلّ ما أنتجته مصانع أدمغته من أحقاد
وسموم وما أنتجته مصانع أسلحته طيلة تاريخه الدّمويّ الطّويل من فنون الدّمار
الشامل والموت الكامل ... عندها... لا يبقى أمامك سوى أن تختار كيف تموت لا كيف
تعيش!
أن تموت راكعا أو واقفا ذلك هو قرارك وخيارك الوحيد يا بني!..
لن يبقى أمامك سبيل للحياة سوى أن تحياها شهيدا عندك ربّك "يرزقون"! وتحياها
بطلا ومقاوما في كتب التّاريخ لدى أبنائك وأحفادك (هذا إذا لم يزوّروا التّاريخ
أيضا)، وتحياها رمزا وقيمة ومعنى في القصائد والأغاني والحكايات، الّتي لم يعد
يتناقلها الأجداد ولا يسمعها الأحفاد.
نعم بإمكانك أن تستعمل كلّ ما لديك وما تعجّ به لغتك الغنيّة من أرصدة مجمّدة أو مصطلحات ثوريّة ك"الثّبات" و"الصّمود" والإرادة الحرّة وحتميّة انتصار الشّعوب وتقرير مصيرها وعجلة التّاريخ الّتي لا تدور إلى الوراء، وتستعمل كلّ ما جادت و تجود به قرائح الشّعراء في مثل هذه الوضعيّات منذ آلاف السّنين...
من الطّبيعيّ أن يحارب الشّعراء بقرقعة الكلمات وصليل الأحلام، فهم ليس لديهم نابالم ولا جيوش جرّارة من آكلي لحوم البشر ولا غوّاصات نوويّة ولا قنابل عنقودية ولا صواريخ موجّهة ولا أزرار نوويّة...
من الطّبيعيّ أن يحاربوا بأوجاعهم ودموعهم ووعودهم وأمانيّهم...
بإمكانك أيضا أن لا تكتفي بالقول، وأن تعيش
هذا الدّور الّذي اخترته لحياتك وتقاوم وتصمد وتحارب بالسّكاكين وببنادق الصّيد
وبالعصيّ وبتفجير جسدك أيضا إذا يئست من كلٌ الحلول، تستطيع أن تلغّم جسدك وتحوّله
إلى قنبلة بشريّة متنقّلة، بمجرّد انفجارها تتطاير أضلاعها وأحشاؤها شظايا في
الفضاء...
هذا أيضا سيجعل الأمر يبدو أكثر متعة وإثارة وحرارة يا بني!وسيكون جيّدا
لآخرتك وسمعتك عند ثوّار الفايسبوك، وسيمنح الشّعراء والرّوائيّين وكتّاب الأغاني
والخطابات الحزبيّة أيضا مادّة خصبة للكتابة، وسيمنح وكالات الأنباء مادّة مربحة
جدّا "للحصريّات" الّتي تجلب ملايين المتابعين والدّولارات وشركات
الإشهار والنّقّاد والمحلّلين السّياسيّين أو العسكريّين...
كلّ ذلك جيّد يا بنيّ ومثاليّ ومدهش وفرجويّ للغاية، ولكنّه في النّهاية لن
يغنيك عن الاختيار الوحيد المتاح لديك يا ولدي منذ البداية، أي منذ ولدت في هذه
الأرض العاقر غريبا ووحيدا: أن تختار كيف تموت لا كيف تعيش!أو أن تخترع مفهومك
الخاصّ للحياة داخل الموت ومن خلاله، فهذا أيضا لا مانع منه ولا عيب فيه ولا ضرر
على الإطلاق!
هذا هو العالم يا ولدي!
بإمكانك حتّى أن تسبّ أمريكا ورئيسها ليلا نهارا إن أردت!وعلى هذا الفايسبوك،
فايسبوكهم الّذي اخترعوه خصّيصا لك كي تسبّهم وتشتمهم وتنفّس عن صدرك كلّما ضاقت
بك الدّنيا... إنّهم فعلا أناس طيّبون يا ولدي!
ها أنا أسبّهم ليلا نهارا وأقول: "أمريكا دولة لقيطة ومجرمة!"
"ترامب إرهابي!"
هل حدث لي شيء!؟ هل قطعوا رأسي مثلا؟!لا، كما ترى لم يحدث لي شيء على الإطلاق!
بإمكاني حتّى أن أتمادى أكثر من ذلك وأكتب هنا :"تفووووه على جدّ أبيكم
يارعاة البقر!" وأطلق بصقة عملاقة في الفضاء أتخيّل أنّها ستنزل على وجوههم
واحدا واحدا فتشوّهها كماء النّار أو على ناطحات سحابهم فتدمّرها أو على أرضهم
فتحرقها...
ولكنّهم لن يلتفتوا إليّ ولن يسألوني عن أحوال الطّقس عندي ولن يرسلوا
جواسيسهم وأعوان ال
FBI خلفي بكلابهم وطائراتهم الحوّامة لتقتلني أو
لتعتقلني؟!لا لن يحدث شيء من ذلك!إنّهم طيّبون جدّا ياولدي ومسالمون
وديموقراطيّون، وقد خلقوا لنا هذا الفضاء خصّيصا لكي نسبّهم ونلعنهم دون أن يزعجنا
أحد!ونحن يجب أن نكون ممتنّين كثيرا لذلك...
هذا هو العالم يا ولدي!
في المدارس الابتدائيّة وفي الأشرطة الوثائقيّة الّتي كنّا نشاهدها دائما عن
الحياة في البراري، تعلّمنا أنّ هناك صنفين رئيسيّين من الحيوانات، صنفا لاحما
وصنفا عاشبا، وهناك طبعا صنف ثالث يسمّونه "الكالش"، ولكنّه، إضافة إلى
كونه نادرا جدّا ليس صنفا جديدا وإنّما هو فقط عبارة عن اجتماع الصّنفين
الرّئيسيّين الأوّلين، يعني أن تكون عاشبا ولاحما في نفس الوقت كي تعيش في كلّ
الظّروف ومع كلّ الحيوانات!
كنّا نشاهد الطّيور والثّعالب والضّباع
والذّئاب والسّباع كيف تدرّب صغارها على الخروج إلى العالم...
لم نرها تحدّثها عن "الإعلان العالميّ لحقوق الحيوان" ولا عن أخلاق
الحيوان ولا عن نظريّات السّلم والتّعاون الثقافي بين الحيوانات ولا عن الحقوق
الكونيّة للحيوانات ولا عن مبادئ العدل والإنصاف والحرّيّة والدّيموقراطية لدى
الحيوانات...
كانت تعلّمها فقط كيف تركض وتختبئ وتناور وتهجم وتغرز مخالبها وأنيابها وتكسر
عظام الرّقبة وتنهش وتجرّ فريستها إلى الكهوف وتطير وتهاجر وتتنقّل من مكان إلى
مكان حسب الفصول والحاجات والأقدار..
نحن أيضا يا ولدي، بعضنا حيوانات عاشبة، عيونها دائما إلى الأرض ورؤوسها
محنيّة تقضم العشب، وأذنابها قصيرة لا تصلح إلاّ لذبّ الذّباب عن مؤخّراتها، لم
تطوّر أنيابها ولا مخالبها حتّى للدّفاع عن نفسها!
وبعضنا حيوانات لاحمة... لكنّنا لم نر حيوانا لاحما يقتات من لحم أخيه وبني
جنسه وفصيلته سوى الإنسان ياولدي!
كان يجب أن يعلّمونا كلّ ذلك في المدارس وعلى أبواب بيوتنا ونحن نضع أوّل
الخطى كي نخرج إلى هذا العالم الموحش الغارق في التّوحّش والفوضى والإرهاب يا ولدي!
لقد قصّروا في ذلك وقصّرنا جميعا... وهاقد جاء من يعيدنا ويعيد العالم كلّه
إلى الدّرس البديهي الأوّل للغابة في كلمتين: البقاء للأقوى.
فاختر من تكون!
هذا هو العالم يا ولدي!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق