ما إن أشاهدهُ يقتعدُ كرسيه في حديقة المنزل.. سرعان
ما أجلب له الفطور وأسكبُ له الشاي.. أفرش له صحون الفطور فوق طاولته الصغيرة
الموشاة بلون الغسق.. تعاودني تلك الفكرة الشيطانية وتلَّحُ عليَّ بإصرار فأنحني
قليلا لينسدل شعري من خلف الملاءة ليتطاير عطري،..يزورُ أنفاسه.. يتغلغل في أعماقه..
أجدني أحسب لكل خطوة حسابها..، أتقمصُ الدور ببراعة أُحسد نفسي عليها، لا تفوتني
واردة ولا شاردة عن تفاصيل طلباته.. أمه المريضة الراقدة منذ سنين في سريرها، أقوم
بخدمتها على أكمل وجه.
..استدعيت
لخدمتهم منذ أشهر.. بيتهم الكبير المطل
على نهر دجلة يضم العشرات من الغرف.
نسائم النهر تلفح جدرانه في كل حين.. هو يكبرني بعشر سنوات، لايتجاوز
عمره الأربعين، اضطررتُ للخدمة بعد أن فقدتُ أبي في الحرب وفقدت أمي في انفجار
سيارة مفخخة.. ليس لي أحد سوى عمتي وزوجها الكسيح.. لم أفكَّر يوما أن أكون حبيبة
أو زوجة له.. أنا مجرد خادمة لم تكمل تعليمها الابتدائي.. هو يعمل مديرا لمؤسسة
حكومية أجهل اسمها.. يخرج كل يوم إلى
وظيفته كالعادة ولا يعود إلاّ بعد الثانية ظهرا وباقي الوقت يقضيه مع أصحابه وربما
مع صاحبة أو حبيبة.
لستّ متأكدة من ذلك.. كل نصف ساعة يسألني عبر جهاز الموبايل عن
أمه في ساعات الدوام وخارجه .
يكلمني بكلمات مقتضبة ويغلق الهاتف.. تحاصرني رغبة ملحة، تدفعني
إلى إغراءه والفات نظره نحوي.. أود أن
أُشعره بجمالي و اكتمال أنوثتي.. لي رغبة في أن أحطّم كبرياءه.. أخطَّط لإشعال نار
الشوق والحب في داخله نحوي.. يؤلمني فيض انكساراتي على جدران تعنَّته وغروره.. فكرة
إذلاله وإخضاعه تلحُ عليَّ خطرَ لي أن أرتدي ثوبا ضيقا، واسع الصدر.. لذا اقتطعتُ
من مصروفي الذي أرسلُه لعمّتي لأشتري به ثوباً يوافق مزاجي.. كان ثوباً ضيّقا تبرز
منه مفاتني وجزءاً من صدري البض .
غطاء رأسي حسرْته عن جبهتي ليبان شعري الأسود الفاحم.. كلما أقدّم له وجبات طعامه.. أتعمّد أن ينسدل شعري على
عيني كي لا يقرأ ما أفكرُ به.. يخطفُ نظرة سريعة على صدري الناهد ويتشاغل باحتساء
الشاي.. ألمحهُ من خلل شعري الذي يغطي
عيني.. كيف يضطرب الحب في داخله.. ابتسمُ بمكر وأنسحب إلى غرفتي. أنظر بوجه المرايا
بزهو.. أنا أعلم أنه لايستطيع مقاومة اغرائي له.. ولكنه لم يستجب إنه يقاوم عبثاً..
لن أجعله ينظر إلى واحدةِِ غيري ولن يكون.. كنتُ اتمنى أن أبوح لأمهِ المريضة
بمكنون لواعجي.. إنها تؤثر الصمت وقلما تنطق بكلمة واحدة..
كلما نأت بي المسافات البعيدة يتحفز الصحو المتسرب بداخل عروقي الميتة.. أحيانا
أجد نفسي عند مفترق طرق تتزاحم فوق رأسي الأسئلة وتؤرقني أفكاري
المضطربة وينهشني ذلك الطائر المخبول.. ماذا أفعل لأجعله في شباكي.. كيف أحطّم
غروره؟ الطائرُ مازال ينوح بداخلي.. كلماتي الناعمة وامتطائي لصهوة حروفها تتبعثر
كظلي على قارعة التيه .
مرَّت سنتان و هو على تلك الحال.. لم أسمع منه كلمة رثاء ترتّقُ
روحي.. تعيدَّ إليّ توازني وتنقذني من
دوائر الوهم التي تلفني.. لماذا يجعلني خلف نوافذ الغيوم ؟ لم لا يحيطني بيديه
ويحتوي أحلامي..
على غير العادة ُطرقَ الباب.. جاء معه رجلان ببذلتيهما الرسمية..
يحملانه قال لي أحدهم :
_من
فضلكِ أرشدينا إلى غرفته.. هرعتُ مسرعة لأسوى له فراشه.. عندما استقرَ على سريره
كنتُ أنا خارج الغرفة.. سمعتهم يتحدثون .لم أفهم ما كان يدور بينهم.. بعد لحظات
غادرَ الرجلان غرفته.. التفتَ إليّ أحدهم قائلا بأدبِ جم :
_من
فضلك.. كوني له عوناً على ما ألمّ به جرَّاء الحادث ؟
_ماذا
أصابه.. أخبروني أرجوكما؟
_كسرٌ
بسيط في كاحله.. إثرَ تعثَّره بالسلّم …قال ذلك ثم رحل مع زميله.. عدتُ إلى سيدي
أطمئِنُ على حالته.. قال لي دون أن أسأله.. أنه تعرّض لحادث سيارة وأوصاني أن لا
أخبر أمه المريضة بذلك.. الأيام الأولى لإصابته زارهُ الأصحاب والأقارب ثم انقطعت
الزيارات بمرور أسبوع على إصابته.. سيبقى أيام أُخر.. وسيكون قريباً مني.. تلك
فرصة لن تتكرر.. كنتُ أهيَّء له عكازين لمرحلة أخرى بعد تلك الوعكة أساعده ليجلس
فيما بعد في الحديقة أو الدخول إلى الحمَّام .
أمه المريضة مكان إقامتها في الغرفة الخلفية.. لم يقل لي سوى
كلمة شكرا.. يتركني بلا جواب ألقي بقناديلي في غيهب الظلمة.. قناديلي مطفأة تفتقد
لزيت الأشواق والوله.. جروح آهاتي الغائرة أسفل الطرقات تعلن صيحتها لتقول:ُ جد
عليّ ولو بنظرة واحدة.. لمَ لا تطيل النظر.. ؟ تعال أجلس بجوار القلب تعال بلّلني
بندى بوحك ورنة صوتك الحنون. هل اجتاحني جنون الحب هل تسلقتْ روحي سنابل العشق ؟
آه من فيض الوله الذي صعد قاع روحي المعفرة بالدموع.. همهماتي الصامتة متى تنطق.. أريدها
أن تصرخ ؟هذا الرجل أحبه.. عليّ أن اغسل
أدراني بثوب الحزن وأطرد تلك الأفكار العدوانية من أن تحبط انفعالاتي الصادقة.
.تطاردني
خطيئتي في أن أتسلق سلّم الغفران.. هذا الرجل لايستحق أن أحطّم كبرياءه ؟ شموخه
يطوقني بفرح طفولي. . لقد وقعتُ في حبه حقاً..هل يتحول الاغواء على حب حقيقي ب
مشاعر صادقة ؟.. أرغبُ الآن أن أغرز أسناني بشفتيه.. أريد أن أحتضنه ليحتويني.. أود الإختياء تحت
أبطيه.. كم أحتاج إلى أن يوشحني برداء الحنين.. لقد شفيتْ قدمه المكسورة وسيعود
لممارسة عمله وسبفارقني لساعات طوال.. لم أعد أستطع الصبر وهو بعيد عني.. وقوعي في
حبه يرغمني الآن على الرحيل.. لا شيء سوى الرحيل من يضمّد جراحاتي بعد ذلك ؟..
أدركتُ أخيرا أنه لا يمكن أن يحبني أو يفكر بي.. بقائي لا طائل
منه طالما تتآكل أحلامي ويتملكني الاحباط التام.. ها أنني أعانق مرايا الأحزان.. الدمعة
لا ىتفارقني.. حاصرني سيل اليأس وذاب حلمي
كوردة ذابلة فارقت النبع.. أصبحتْ سمائي بلا نهاية فقررتُ أن أهجر المنزل..
كعادتي عند تقديم فطوره الصباحي.. وضعتُ أمامه الفطور ولم أنسحب..
وقفتُ أرقبهُ وهو يتناول إفطاره.. لم يكن منتبها لوجودي، كان يظن أني
انصرفتُ عنه.. لمّا رفع رأسه حدجني وهو يقطَّب حاجبيه قائلاً :
–ها
حليمة.. ماذا هناك.. هل من شيء ؟ترددتُ في الإجابة ولكن لساني نطق أخيرا :
_أستاذ..
اسمعني أرجوك… نظر إلي وهو يزّم على شفتيه مستغربا.. قلت له مستطردة :
–أُريدُ
أن أتركَ الخدمة عندكم.. سامحني أرجوك .عليّ أن أعود إلى دياري.. أطرقَ قليلا ثم
دعس سيجارته بقدمه ونهض واقفا.. لأول أشاهده ينظر إلي بتلك النظرة.. أطالَ
النظر إلي ثم قال:
__هل
ضايقكِ أحد؟ أتريدين زيادة في الأجر.. كان عليكِ أن تخبريني قبل هذا..أنا أبارك
جهودكِ.. أنتِ تستحقين كل خير .
أرجوك.. ليس من أجل المال أتحدث مع حضرتك.. عطاؤكم كبير وفضلكم سابق..
و لكني أريد أن أرتاح.. أعذرني سيدي.. أريدُ الرحيل .
تقدمَ مني بخطوات بطيئة حتى كاد يلامسني.. وضع كفه على كتفي وهو
ينظر في عيني :
__أتتركيننا
وترحلين؟
__نعم
سيدي.. لابد من الرحيل.. مرّت عليه لحظات حزن عميقة قرأتها في عينيه وتهدج أنفاسه:
—أبقي
لأجلي يا حليمة …رفعتُ ناظري أليه والتقت العيون.. لأول مرة أطيل التحديق في عينيه
واتتني جرأة غير عادية.. رأيتُ دمعة خفية تترقرق في عينه .لمحت في شفتيه ارتعاشه..
ارتعاشه نسفتْ أمواج عنادي وكبريائي.. أربكتني دمعته وهي تتدحرج فوق خده..
أمسكَ بذراعي وهمس بصوت تغالبه العبرة :
__أرجوكِ..
ابقي من أجلي أنا.. أنا محتاجٌ إليك أكثر
من أي وقت مضى… لم أصدّق ما سمعته أذناي.. حاصرتني لحظة توجع غريبة ألهبت النار في
فؤادي.. اتقدَتْ مواقدي المنطفئة وأشرقَ صباحي.. نسمات دجلة تدغدغ خديّ الأن أكثر
من أي وقت مضى.. النهر بدا يعكس لي موجاته الذهبية.. أخفيتُ مشاعر الفرح ورسمتُ
على ملامحي مسحة من غضب زائف وقلت له :
_بقائي
لن يجدي إن كنتَ تفكَّر أن تتخذني خليلة أو …قاطعني بحدة و هو يشهق :
_أبداً
والله…. أرجوكِ افهميني جيدا …أمام الجميع على سنة الله رسوله !.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق