الواقعي والتاريخي في رواية مرايا الخوف لحميد عبد القادر - شدري معمر علي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 15 يونيو 2025

الواقعي والتاريخي في رواية مرايا الخوف لحميد عبد القادر - شدري معمر علي


هناك كتاب وروائيون من يستندون على موهبتهم فقط فيكتبون نصوصا روائية أو قصصية تفتقر إلى العمق الفكري والفلسفي والتاريخي هي مجرد خواطر وهواجس.. أما الروائي حميد عبد القادر هو يختلف كثيرا عن هؤلاء لأنه بالإضافة إلى موهبته الإبداعية فهو ينطلق في كتاباته من قراءة واعية للثقافة العالمية باللغتين العربية والفرنسية وهو قارئ نهم ومتتبع للرواية وقد تجلى ذلك في كتابه الأخير " الرواية مملكة هذا العصر" ..فالكتابة الروائية عند حميد عبد القادر تبحر في عمق هذا المحيط الثقافي العالمي الإنساني ..و تتكئ على دعامة الواقع المتشظي والتاريخ الجزائري ..

والتجربة الروائية لحميد عبد القادر بدأت منذ عمله الأول " الانزلاق " التي صدرت سنة 1998 والتي اعتبرها بعض النقاد أنها رواية استعجالية و لكن الحقيقة أن الكاتب كان يريد أن يثبت موقفه النضالي ضد الإرهاب والعنف فكانت الرواية إدانة لتلك الهمجية التي عاشتها الجزائر  ..

وفي عمله الثاني " مرايا الخوف " ثمة استمرارية في سرد الواقع المتشظي العنيف الذي عايشه الكاتب كإنسان و كإعلامي تعرض أصدقاؤه للموت والتصفية  و الرجوع إلى التاريخ ..لنترك الشاعر والروائي أحمد عبد الكريم  يتحدث عن هذا العمل  الروائي ملخصا  بقلمه فيقول :

"رواية مرايا الخوف توليفة صعبة بين السيرة الذاتية والتاريخ، تروي المكان والإنسان، وتروي الحب والرعب في آن واحد..تستعيد رواية مرايا الخوف جزائر التسعينيات ومعها تبدأ يوميات الحب تحت رذاذ المطر بين زينو العاشق الهائم و نازلي السادية التي تصر علي وضع حد لحكاية الحب التي تنتهي بنهاية الفصل الأول للرواية.يرتد بعدها زينو إلي أطوار طفولته المليئة بالحساسية والألم للتفرع إلي عديد الحكايات والوقائع التي يشارك في صنعها أبطال هامشيون وآخرون صنعوا تاريخ الجزائر، يكتفي الروائي بالتلميح لهم، لكن من يعرف تاريخ الجزائر سيتوصل إلي معرفتهم.ومعرفة جوانب خفية أخري من تاريــــــخ الثورة التحريرية وما بعدها. موشومة بالحقد والعنف والصراع علي السلطة، وتؤشر إلي جذور العنف الأولي في أزمتنا الحالية. زينو الحالم بالكتابة والحب يتحول بقوة الآخرين إلي مقاوم للإرهاب الذي عاشته الجزائر، ومع تباشير المصالحة الوطنية تضعه إحدي المهام التي أوكلت إليه من قبل قادته، في التحقيق مع عدد من نساء الإرهابــــــيين التائبين في مواجهة مع حبيـــبته القديمة نازلي التي تسرد عليه حكايتها بعد ما تركته واختارت بدلا عنه زوجا حولته الظروف إلي قائد إرهابي.ولتفضي أحداث الرواية إلي نهايات مفتوحة علي قليل من الأمل، وكثير من الثقة بالكتابة التي يمكنها وحدها أن تجابه العزلة والفراغ والكآبة والجحيم الذي يصنعه الآخرون..رواية حميد عبد القادر تدين الحقد وكل ما يهدد الروح، وتكسر مرايا الخوف بالكتابة وبمتن جدير بالاحتفاء والتأمل"..(1).

من خلال عتبة العنوان " مرايا الخوف " تتجلى لنا تلك الواقعية البائسة حيث الخوف و الألم والفقد ..فمن طبيعة المرآة أو المرايا الانكسار و التشظي فالزجاج جارح ومؤلم فما نشاهده في مرآة  أو مرايا الجزائر هو مشاهد الموت و الخوف والرعب والقلق ..فهناك شيء مشترك بين المرآة والخوف هو الانكسار فالمرآة انكسارها ظاهري والقلب انكساره داخلي ..والجزائر عاشت هذا الانكسار المادي من أزمة اقتصادية خانقة و انكسار داخلي في ذلك الانهيار الذي عاشه الجزائري عندما فقد المعنى في تلك السنوات ولم يستطع تفسير سبب هذا الخراب الذي أغرق الجزائر في بحار من الدماء ..

لا يمكن للكاتب خاصة المشتغل بفن الرواية أن يبتعد عن واقعه و بيئته.. فالروائي حميد عبد القادر يجسد لنا هذا الواقع بتناقضاته فمظاهر البؤس التي نجدها في واقعنا يبرزها الروائي بصدق " وقفت أمامي متسولة عجوز منهكة القوى، كانت ترتدي حائكا أبيض وكانت تتقاطر ماء " (2)

وهذا الواقع البائس يتجلى أيضا في هذا الوصف الدقيق الذي استطاع الكاتب أن يرسم لنا شخصية الشيخ العجوز "و بقربهما وقف  شيخ عحوز يتكئ على عصا خيزرانة معوجة، يسعل سعالا حادا ويعتمر قبعة من القطن متسخة حتى اسود لونها، كان يرقبهما بتقاسيم وجهه التي لم يبق منها سوى نتف من القسوة وهامة شاحبة، كان يبدو متعبا، هده الوهن إلى درجة أنه لم يعد قادرا على فرض سلطته عليهما، بدا أنه يعاني من إحباطات السن الطاعن" (3)

فلا انفصام بين نص الكاتب والواقع الذي عاشه الكاتب وتحمل صعابه ولحظات الخوف ..

يقول الدكتور مصطفى الضبع " ثمة علاقة ارتباط بين النص والواقع تجعل الواقع يتحرك نحو النص والنص يتحرك نحو الواقع، يستمد النص من الواقع ما يجعله أكثر إقناعا، ويستمد الواقع من النص ما يجعله وثيقة لها جمالياتها، عبر حركة تمرير مقصودة ومنتجة، تمرير الواقع إلى النص، وتمرير النص إلى الواقع حيث تتجلى مفردات الواقع بوصفها معيارا حاكما لمنطقية الصورة الروائية ومن ثم يكون له التأثير المباشر فى تلقى الصورة الروائية، فالأشخاص الذين نلتقيهم فى النص والأحداث التى نعايشها يستمدان معيارية منطقهما من تلك الصور المختزنة فى أذهاننا مكتنزة من الواقع، والمتلقى يقف إزاء الشخصية الروائية موقفا من موقفين:

إسناد ملامح الشخصية الروائية على شخصية لها حضورها الواقعى بالنسبة له.

 الاجتهاد فى تخليق ملامح مغايرة ولكنها تتبع بالتأكيد تلك الملامح أو الخواص التى يعرفها للبشر خارج النص.

فى مقابل ذلك يقف المتلقى إزاء الحدث موقفا من ثلاثة مواقف:

الحكم على الحدث بوصفه حدثا سابق المعاينة فى الواقع.

تلقى الحدث بوصفه مغايرا (غير معاين فى الواقع، يحمل تجربة غير مسبوقة بالنسبة لى ولكنها حدثت لغيرى)، ولكنه يستمد منطقيته من أحداث الواقع :

قد يرتفع الحدث عن المعرفة والمغايرة ليكون فى حاجة لمنطق جديد تماما، منطق خاص بالحدث الفانتازى، المرتفع عن الأعراف الواقعية، حيث يكون الحكم على فانتازيتها ليس لأنها كذلك بداية ولكن لأننا نراها هكذا وفق معايير واقعية، حيث نحيل هذه الأحداث إلى مساحة الحلم بوصفه واقعا موازيا" (4)

لا يكتف الكاتب الروائي حميد عبد القادر  بنقد الواقع المعيشي ..من خلال وصف حالات البؤس التي يعيشها الإنسان بل أيضا ينقد الواقع الديني بتصوير تلك التناقضات الموجودة في المجتمع من التشدد والتطرف وخطاب العنف والكراهية ..وهذا وحده يحتاج إلى دراسة...

و إذا كان الروائي حميد عبد القادر  جسد لنا هذا الواقع واقع البطل الذي يعاني كمثقف يشتغل بعالم الأفكار ويتوق أن يكون كاتبا وهنا تكمن المأساة، الصراع بين عالم الأفكار والقيم وواقع العنف والإرهاب الأعمى، الإرهاب الذي يصطاد المثقفين ويجهض أحلامهم في بدايتها ..

"باغتني جوابها، إذ لم أكن أنتظر برودتها، فقلت :

أرغب في أن أصبح كاتبا ..

هزت كتفيها ولم تقل شيئا كنت أحمل في جيبي رواية "غاتسبي العظيم" لسكوت فيتجيرالد، أريتها إياها، قائلا :

أحب هذه الرواية كثيرا، قرأتها أكثر من عشر مرات ولم أعثر في تاريخ الأدب على رواية أكثر حساسية، إن فتجيرالد روائي عظيم و "غاتسبي العظيم" رواية لا مثيل لها " (5)

فالهاجس الثقافي والتاريخي للروائي حميد عبد القادر يبرز بقوة في روايته " مرايا الخوف " فالرواية في حقيقة الأمر في تناولها للظوهر الاجتماعية الواقعية هي في نفس الوقت تتناول ظواهر تاريخية حسب ما يؤكده الكاتب السوري "زياد الأحمد" عندما قال :

"بما أن الرواية تتناول ظواهر اجتماعية، وكل ظاهرة اجتماعية هي ظاهرة تاريخية كما يقول باختين، نستطيع القول بإمكانية اعتبار الرواية مصدرا غير تقليدي للتاريخ؛ لأنّها الأقدر على التغلغل في طيات المجتمع وخبايا النفوس والأقدر أيضاً على إنطاق المسكوت عنه في الخطاب الثقافي والسياسي والاجتماعيّ العام.

وكثيرون من ذهبوا إلى أن الرواية هي كتابة التّاريخ غير الرسمي أو التّاريخ المنسي، فهي التي تتغلغل في تفاصيل ينساها ذلك التّاريخ الذي ينشغل بتدوين الأحداث الكبيرة والأسماء العظيمة، وينسى تداعيات تلك الأحداث على الأرض والبشر الضحايا، الذين يعيشون في الظل بعيدا عن شموس قيادة الحدث"(6)

والتاريخ الاستعماري بجرائمه، وجرائم قادته يظهر عبر صفحات الرواية..

"راودتني أفكار يائسة و أنا أعبر شارع العقيد بيليسي، نفسي تتقزز كلما أعبر هذا الشارع وفي كل مرة أتساءل عن أسباب بقاء اسم هذا السفاح راسخا في ذاكرة أهل البلدة، هل يعرفون من يكون ؟ هل قرأوا شيئا عن جرائمه؟ أشك أنهم يعرفونه، أما أنا فأعرفه جيدا، جاء البلدة لاستكمال الغزو وحارب الأمير عبد القادر، طارد قبيلة أولاد رياح المتمردة و أجبر أفرادها على الاختباء في مغارة بجبال الظهرة، حاصرهم بضعة أيام ولم يستسلموا، كان عازما على إبادتهم، أشعل النار عند مدخل المغارة فمات أفراد القبيلة كلهم، ماتوا اختناقا، أبيدوا على بكرة أبيهم، مات الأطفال والشيوخ والعجائز و الرجال الذين حملوا السلاح للدفاع عن شرفهم وكتب بليسي لاحقا عن هذه الجرائم في رسالة لأخيه قائلا : " أغلقت منافذ المغارة وسعدت برؤية مقبرة جماعية في اليوم الموالي انتهت قبيلة أولاد رياح لقد قتلت خنقا ألفا من قطاع الطرق"(7)

ولم يبق الكاتب متفرجا في سرد هذه الجرائم التاريخية للمستدمر الفرنسي بل يدين هذه الأفعال
"بيليسي أيها الحقير حملت بذور الشؤم وجئت غازيا ممتطيا حصانك الأشهب، مشهرا سيفك وفي داخلك حقد لا يرحم، جعلت أهل البلدة يتصرفون وفق عنف مماثل، عنف مضاد ومع مر السنين أصبحوا لا يثقون إلا في العنف، كنت تقتلهم في المساء وفي الليل يتربصون بجنودك  ويذبحون منهم ما استطاعوا، يمسكون السكين ويذبحون جنودا غزاة، السن بالسن والبادئ أظلم وكنت الظالم ايها الغازي النذل القادم من مدن الثلج الباردة..." (8)

فالعنف يولد العنف فالجزائري عبر تاريخه الطويل صهرته أحداث العنف فاستعمار طويل قرن واثنتان وثلاثون سنة من القتل و الإرهاب والتنكيل .. جعل الجزائري لا يعرف لحظات السلام .. والأمن والطمأنينة .. عاش في خوف و ترقب..
في هذا العمل الإبداعي استطاع الروائي حميد عبد القادر بلغة شفافة جميلة و بسرد ممتع وببناء روائي محكم أن يمزج الواقع الجزائري المؤلم العنيف بوقائع من التاريخ عنيفة وعلاج هذا العنف لا يكون إلا بالحب والسلام مع الذات ومع الآخر وهروبا من القتل والدمار يلجأ الكاتب إلى الحلم لينهي روايته " مرايا الخوف "  بالتصالح وهي تعبير عن المصالحة "و رأيت في حلم جميل أن نازلي استعادت جمالها وعادت إلى غيوت فيل و أن الناس جميعا تصالحوا فيما بينهم، لا أحد يحقد على الآخر، يجلسون عند مدخل الحي في جماعة واحدة يتحدثون في أمور الحياة وكانت لهم آراء مختلفة، كانوا هادئين، طيبين وصبورين ومتسامحين في ما بينهم ولما أذن المؤذن للصلاة، نهض بعضهم وقصد المسجد للفلاح و آخرون ظلوا جالسين تحت شجرة التوت يحدقون في السماء الصافية وينتظرون هداية الإله لدخول المسجد والصلاة مثل الناس جميعا وهم واثقون من ذلك ...."(9)

و قد استشرف الروائي حميد عبد القادر زمن المال الفاسد "وبدأ زمن الرجل الثري"(10 ).. السطر الأخير من الرواية ..

وختاما أن رواية " مرايا الخوف " لم تنل حظها من الدراسات فعدد المقالات التي كتبت عنها  قليل جدا  فهذا الروائي المثقف الذي كتب عن الجميع و شجع الكتاب على النشر هو أيضا يحتاج إلى دراسات جامعية معمقة تتناول أعماله الإبداعية السردية فساحتنا النقدية تفتقر إلى متابعة الأعمال الروائية الجادة...

المراجع :

1- أحمد عبد الكريم،رواية مرايا الخوف لحميد عبدالقادر: الاحتفاء بالحب والكتابة في زمن الموت، جريدة القدس العربي، 5-10-2007.

2- مرايا الخوف ص 9.

3- مرايا الخوف ص 9-10.

4- مصطفى الضبع ..الواقع وأقنعته فى الرواية العربية، موقع الكتابة ..

5- مرايا الخوف ص 23.

6- زياد الأحمد، العلاقة بين الرواية والتاريخ، مجلة الجديد، 1-1-2020..  

7- مرايا الخوف ص 13- 14.

8- مرايا الخوف ص 14.

9- مرايا الخوف ص 187- 188.

10- مرايا الخوف ص 188.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق