النقشبندي.. صوت السماء - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الخميس، 27 فبراير 2014

النقشبندي.. صوت السماء

النقشبندي.. صوت السماء

دمرنا شهر رمضان تحت سنابك المسلسلات الجوفاء والإعلانات الزاعقة والبرامج وأسئلتها المملة التافهة المكررة، وأصبح شهر رمضان يمتلئ بنقنقة أصوات الضفادع التافهة الفجة، ثم دهمناه بفرقعة الصواريخ والبمب الصيني، الذي جعل حياتنا مرتبكة أكثر مما هي مرتبكة، ومضطربة أكثر مما هي مضطربة، كما أن الضفادع التي تنقنق ليل نهار جعلتنا لا نفرق بين رمضان وأيام العام العادية، ولم يتبق لنا وسط كل هذا من رمضان إلا - الصوم وهو الركن الثالث من أركان الإسلام وصوت النقشبندي.
نحمد الله أنه لم يمس حتى الآن - وأقصد صوت النقشبندي - وهو الصوت الذي لم تصل إليه سنابك هؤلاء، لأنه صوت قوي قادر على الصمود، إنه الصوت الذي يهبط عليك فيجعلك ويحيلك إلى حالة من التجلي والروحانية والشفافية نادراً ما تصل إليها وسط أصوات الضفادع والباعة والزحام والمنشدين والشيوخ الجدد، ذلك لأنه يفهم معنى اللغة العربية وقوتها وقوة تأثيرها في النفوس، إنه صوت حمل رسالة من الله، ورسالة من السماء لعباده، ورسالة بين العبد وأخيه الإنسان في أي مكان ومن أي دين أو ملة أو طائفة، إن القوة التي يتميز بها صوت النقشبندي تجعلك تحفظ الكثير من الأدعية والابتهالات والآيات القرآنية، في يسر وطلاوة وحلاوة، بعيداً عن الحدة والتزمت والترهيب الذي يمارسه الكثيرون في حياتنا الآن.
سيد محمد النقشبندي، ابن قرية «دميرة» إحدى قرى محافظة الدقهلية بدلتا مصر، وهو من المنشدين الذين ظهروا وقت البحث عن الذات والهوية المصرية والعربية بعد نكسة عام 1967، لذا لا تستطيع أن تدخل شهر رمضان وتلتف فيه بالرحمة والمغفرة والخشوع من دون صوت النقشبندي.
فهم النقشبندي الرسالة السماوية، وكيف تؤثر في قلوب وأرواح البشر، وهو صوت كان يمكن أن يأخذه الأزهر كصوت لنشر الدعوة الإسلامية في البلاد التي لم يدخلها الإسلام، صوت يعبر عليه الإسلام والتواصل والسلام الإنساني، يعبّر عن الحضارة العربية والإسلامية في آن واحد، هكذا يكون الصوت القوي، الحاد الناعم المتدرج في الطبقات، والذي يصعد ويهبط ويتقافز بك ويدخلك في حالة من السكينة والرحمة، يجعلك ترى الذات الإلهية وتتجول في أروقة الجنة، من خلاله تشعر برهبة وخوف من النار، هذا هو ما أشعر به من خلال صوته، لذا لم يتجاوز أحد صوت النقشبندي، لأنهم يبحثون من خلال صوتهم عن المال، وهذا ليس هدف من يحمل رسالة، ورسالته عامة لكل البشر، مسلم أو مسيحي.
إنه سيد محمد النقشبندي، صوت السماء وإمام المداحين والكروان الرباني، وقيثارة السماء ونغمها الرقيق، الصييت، والصوت الخاشع، وشيخ المداحين، وأستاذ الابتهالات، الموهوب الفذ الناعم المتصاعد بنا في الملكوت السماوية، وصاحب الصوت الذي يراه الموسيقيون أحد أقوى وأوسع الأصوات مساحة وطلاوة في تاريخ التسجيلات والأصوات والإنشاد الديني.
والجميل أن صوت النقشبندي استطاع أن يرتفع من تراب الشوارع والحواري ورمال الصحراء وعديد الجنائز حتى وصل إلى قصور الأمراء والرؤساء، فزار العديد من الدول العربية والإسلامية بدعوات من هؤلاء الأمراء أو رؤساء الجاليات، حتى أن الرئيس السادات كان من المغرمين بصوت النقشبندي، ودائماً يرسل في طلبه خاصة عند وجوده في قريته «ميت أبو الكوم – المنوفية» ليشدو وينشد له الابتهالات في مدح النبي (ص) والحب الإلهي.
ولقد ارتبط صوت الشيخ النقشبندي بشهر رمضان ارتباطاً وثيقاً، وما إن نسمع صوته وهو يتضرع إلى الله بالابتهالات والأدعية مبتهلا بعد كل أذان، حتى نعرف أننا بدأنا بالفعل صيام شهر رمضان، فصوته الأخاذ القوي المتميز، طالما هز المشاعر والوجدان وكان أحد أهم ملامح شهر رمضان المعظم، حيث يصافح آذان الملايين وقلوبهم خلال فترة الإفطار، أو وقت السحور والإمساك عن الطعام، بأحلى الابتهالات التي كانت تنبع من قلبه قبل حنجرته فتسمو معه مشاعر المسلمين، فيكفي أن تستمع لكلمة «يارب» بصوته، أو مولاي - أغيب - يارب إن عظمت ذنوبي - النفس تشكو - ربّ هب لي هدى، لتجعلنا نردد بخشوع ونسجد لله ونطلب غفرانه ونفحاته ونشعر بأنه قريب منا وأنه – حقا – يسمعنا ويجيب دعاءنا.
والنقشبندي واحد من أبرز من ابتهلوا ورتلوا وأنشدوا التواشيح الدينية في القرن العشرين، صاحب صوت ملائكي منغّم، وهو كما قالوا عنه كان ذا قدرة فائقة في الابتهالات والمدائح حتى صار صاحب مدرسة، ولقب بالصوت الخاشع، والكروان.
ولقد ذاع صيته كقارئ ومنشد ديني بطريقة فريدة وصوت عميق يتميز بالقوة والإحساس، وصار صوته علامة متميزة في عالم الإنشاد والابتهالات، وقد امتاز الشيخ النقشبندي في عالم المدائح النبوية بنقاء الألفاظ البديعة والأشعار الجيدة التي تدعو الناس لحب الله ورسوله بأسلوب راق وصوت خاشع ونبرات قوية متميزة تعد قمة في الأداء والتعبير.
النقشبندي، كروان السماء ومنشد الأرواح، يجعلك تشعر بالسلام الداخلي مع النفس، والعالم الخارجي مع العالم أجمع، ومع رب السماء.
مولاي.. إني ببابك قد بسطت يدي
لو قرأت أو سمعت تلك العبارة في أي وقت من دون صوت النقشبندي، فهي تفقد قوتها وتأثيرها، لأنها جملة خلقت كي نسمعها من شفاه النقشبندي وصوته مما يزيدها تأثيراً وقوة وصفاء.
وتجربة الشيخ النقشبندي تجعلنا ندخل باب الفن في الإسلام والأنغام والألحان، لكنه – ولا أقصد التشدد في هذا الأمر - يجعلك تشعر أن هذا هو الفن الحقيقي الصافي، فالفن صنع كرسالة يوصل بها الإنسان ما يريده ومدى تأثير فنه في متلقيه ومستمعيه، وأعتقد أنه لولاه ما كان هناك إنشاد يمكن أن يقبل عليه الناس، فهو بمنزلة علامة فارقة في تاريخ الإنشاد الديني، بل إنه يعد مدرسة متفردة ومنفردة في هذا المجال الصعب.
إن صوت النقشبندي تم جمع طبقاته من هسيس الريح وتصادم السحاب ومن بين خياشيم الأسماك وحوافر الجياد ورفرفة أجنحة اليمام وزئير السباع ومناوشة الأمواج، صوت يحيلنا إلى الملكوت، يرتفع بنا عالياً، عالياً حتى نصل للسموات العلا، ونصارع الشياطين والهموم والهواجس وعفاريت الأرض، نعانق الجبال ونلثم الأمواج المتصادمة، فيهبط بنا ممزقين، مفتونين، متجلين، أبرياء ومذنبين إلى قطع مفتتة، وتكون الأرض – حينئذ - جاهزة لاستقبال مقاطعنا، وأجزائنا، فنتجمع في الطبقات الصوتية للنقشبندي، كي نصبح تواشيح وقصائد ومدائح نبوية، تغلفنا الدهشة والبراءة والانكشاف والحلم، ونصبح للحظات من حياتنا – بني آدميين – نعم بني آدميين حقيقيين، حيث نركع ونسجد ونذرف الدموع ونرفع أكف أيدينا نستقبل ما تهطل به السموات علينا من خيرات، هذا هو الصوت الذي يجمع روح الصحراء وندى الغيطان وحرارة الأمواج وطوفان الدموع وضجيج الأطفال.
وهو صوت يجعلك في حضرة المصطفى، يتنقل بك من القاهرة لجدة للرباط لبغداد لأبواب القدس المغلقة، فتجدها مفتوحة تستقبلك وتجد برفقتك كل الأولياء والصالحين، الجميع أبيض، والجميع طاهر، والجميع مبتسم، ونهيم في صحراء نجد والشرقية وسيناء، ونصبح نيروزا وقمرا ورخا وغلالة من البشر والنفحات والخيرات، صوت يجعلك في حضرة المولى عز وجل وتسير في معيته ونوره، تغلف روحك قدسية المولى، لأنه صوت حاد كأزيز الناموس، متصاعد كلقلقة الجمل، عريض كنعير الأبقار، هادئ كخربشة الأرانب، صريح كزئير الأسد، إنه المتجلي يجعلك تبحث عن كهف أو غار تتعبد فيه، تقف على قمم الجبال وتشعر بوجودك وإنسانيتك وضعفك فتبكي حتى تغرق الرمال تحت نعليك، تسجد فتذوب الأرض من حرارة أنفاسك، ثم تكون صارخا مطاردا فتصبح المسيح والعذراء ويوسف في الفرار من هيرودس الشرير، ثم تستكين حتى تدخل قلب حوت يونس، بعدها يصبح صوتاً جهورياً كموسى وهو يزعق في آل إسرائيل، إلى أن يهدأ الصوت ويستكين فيصبح نغمات السلام التي جاء بها سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم.
صوت ناعم كالعاصفة، حام وساخن كقلب المؤمن، قادر على أن يلثم القلوب والعقول والأرواح العصية، فتتفت وتذوب في الإيمان بالله وقدرته وعظمته وجبروته، أنصت لأي طبقة من صوته، سوف تكتشف أن أصل الألحان أن تكون قادرة على إقامة كيان ولغة وتفاعل تتحرك فيه الكلمات، جاذبة أذن وعين وقلب المستمع، تمتلئ وتمور في معاناة ودلالات لا تكاد – من فرط استيعابه للعالم حوله – تشعر أنه لحن لك وحدك، وأن العالم أصبح ملكك.
لقد جذب صوت النقشبندي العديد من الشعراء والكتاب الكبار فكتب له: عبدالسلام أمين، عبدالفتاح مصطفى، محمد علي ماهر، وهو أحد من شاركوا في كتابة فيلم الرسالة، كما جذب من كبار الملحنين: بليغ حمدي ومحمد الموجي وسيد مكاوي وأحمد صدقي ومحمود الشريف وعبدالعظيم عبدالحق.
ولذا تظل تجربته الجميلة مع الموسيقار الفذ بليغ حمدي، في أيام رمضان خلال حرب أكتوبر، أبدع ما يكون من تواشيح وابتهالات، حيث أطل صوت النقشبندي وهو ينشد ويبتهل ويدعو للجنود الذين يحاربون على الجبهة في إطار مشروع فني جمعه بالملحن والموسيقار الكبير، وهو واحد من قلة من الملحنين يعرفون قيمة الإنشاد والمديح النبوي في الموسيقى الشعبية، بل إن بليغ حمدي في تجربته مع النقشبندي حقق التلاقي الرائع بين العلم والتلقائية أو الروح الشعبية المصرية، وأصبح النقشبندي علامة من علامات رمضان ودليلاً عليه حتى في الأيام العادية إذا سمعت صوته شعرت بأنك تعيش ساعة ما بعد الإفطار في أيام رمضان، فلا نستطيع أن ننسى ابتهالاته: مولاي، أقول متى، يا ليلة في الظهر.
وإذا كانت نكسة عام 67 علامة فارقة في التاريخ المصري، فإن النقشبندي بصوته وابتهالاته، قام أثناء حرب الاستنزاف بعد 1967 برفع الروح المعنوية لجنودنا على الجبهة حتى جاء نصر أكتوبر عام 1973.
إن النقشبندي موهبة كبيرة تجمع بين أصول عدة حضارات وصوته من الأصوات التي تلقى هوى في نفوس المصريين المسلمين والمسيحيين في آن واحد، لأن صوته يحمل في أحشائه بذور الإسلام ورسالته ومساره التاريخي والإنساني، تلك التي يتجلى فيها صراع الإنسان مع نفسه أو مع بيئته أو مع القدر الذي رسم له، إنه تلخيص لمأساة الروح والعقل والقلب في صراعهما الدائب من أجل الكشف والتحقق، صوت مصري صميم فيه الرمال والتراب والساقية، وعديد الجنائز بعيداً عن نقنقة الضفادع والأصوات الملونة المصبوغة، وهو صوت له رائحة، ورائحة صوته العذب تعصف بمستمعيه، يخرج من حنجرة وقلب يشع بهاء، صوت قادر على التحرر من الذات، ليسبح بك في الملكوت حتى يأتي التحرير، تحرير الروح والجسد من الشهوة والغفلة والتصارع من الحياة اليومية التي يعيشها الإنسان المصري، صوت صاف لا يوجد به غبار أو نشاز أو إسقاطات صوتية، يجعلك تحلم في منتصف النهار.
إن صوت النقشبندي الدافئ الواقعي، والواخز الذي يوقظنا من ضعفنا الإنساني وقلة حيلتنا ويأخذ بأيدينا إلى فضاءاته العليا بعيداً عن ترابية البشر وعهر الواقع وعبثيته وقبحه، يجعلك مسكوناً بمسّ النبوة.
والإنشاد الديني الآن يحتضر، وذلك بسبب الضفادع التي تنقنق به في الفضائيات والقنوات والطرق والتكاتك، وإذا كانت هذه الضفادع قادرة على التطور والسمو بالروح الإنسانية لظهر منها ما قد يصبح كروانا آخر أو هديل يمامة أو حتى زقزقة عصفور على أغصان حياتنا، إلا أن الضفادع «رغم حنجوريتها» لا تستطيع ذلك.
ولقد عاش النقشبندي بجوار العارف بالله سيدي أحمد البدوي بمدينة طنطا، وتوفي صغير السن (في الخامسة والخمسين من العمر) بعد أن أبدع وقدم لنا أشياء نحن في أمسّ الحاجة إليها الآن، وقد كرمته الدولة كثيرا، ويكفي أن نعلم أن أكبر شوارع مدينة طنطا والتي عاش فيها أغلب أيام عمره، قد أطلقت اسمه على أحد أشهر شوارعها.
إن الإنشاد الديني وصوت النقشبندي يجعلنا في حالة من الوجد والصوفية نادراً أن تحصل وتصل إليها مهما استمعت، لذا لم نعد نسمعه إلا قليلا وهو ليس خطأ صاحب هذا الصوت والحنجرة الجبارة، بل خطأ أصدقائنا في الإذاعة والتلفزيون، فهم يتقافزون وينقنقون بكلماتهم كما نتقافز نحن وراء لقمة العيش من ميكروباص إلى «توك توك» إلى مترو أنفاق، لم نعد نقف ونحلل ونستمع ونستمتع ونتذوق كلمات نحن في أشد الاحتياج إليها، وآه لو كان النقشبندي موجوداً خلال ثورة يناير، لجعل من كفاحنا وشهدائنا ودمائنا وقولنا كلمة لا، نغماً خاصاً، بدلا من الذين تقافزوا في كل الميكروفونات: وهذا الشاعر الكبير وهذا الشاعر الخطير, إذا دهمك صوته في جوف الليل أو قبل أن تضع البلحة في فمك كي تجرح صيامك، فهو صوت قادم يدثرك بالإجلال والنغم والأمل في الغد، ونحمد الله أن الذي بقي لنا حتى الآن صوم رمضان وصوت السماء: النقشبندي.
-----------------------
محمد محمد مستجاب
* كاتب من مصر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق