على هامش كتاب أمين معلوف: الهويات القاتلة - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الجمعة، 21 فبراير 2014

على هامش كتاب أمين معلوف: الهويات القاتلة

على هامش كتاب أمين معلوف: الهويات القاتلة


طرح الاشكالية العامة للهوية
المثقفون الكبار يتمايزون عن المثقفين الصغار بشيء أساسي: القدرة على اختراع مصطلحات جديدة ثم اقبال الآخرين عليها وأخذها عنهم حتى بدون ذكر اسمهم أحيانا. وينتج عن ذلك تعميمها على أوسع نطاق حتى لتصبح ملكا مشاعا للجميع. من بين هذه المفاهيم التي ظهرت قبل خمسة عشر عاما فقط: مصطلح “الهويات القاتلة” لأمين معلوف. ولكن يمكن أن نذكر أيضا مصطلح “الجهل المقدس” لأوليفييه روا، ومصطلح “الانغلاقات التراثية، أو السياجات الدوغمائية المغلقة” لمحمد أركون، الخ. . لقد ظهر كتاب أمين معلوف عام 1998 كجواب على التفجيرات الارهابية والمجازر الوحشية التي ارتكبت ليس فقط في العالم الاسلامي وانما أيضا في كل المناطق التي انفجرت فيها العصبيات القديمة كقنابل موقوتة. نذكر من بينها منطقة البلقان وبالأخص يوغسلافيا السابقة، وكذلك رواندا، وكمبوديا، الخ. . فالعنف الأعمى ليس حكرا على الاسلام والمسلمين! ولكن لا ريب في أن العالم الاسلامي هو الذي استقطب الأنظار أكثر من سواه بسبب استخدام حركات التطرف للاسلام كسلاح فعال لارهاب الغرب والأنظمة المعتبرة بأنها تابعة له. 
للبرهنة على صحة نظريته يضرب لنا أمين معلوف المثال التالي: لو سألت أحد البوسنيين في الثمانينات عن هويته لأجابك بكل ثقة ودون أدنى تردد:أنا يوغسلافي قبل كل شيء. ولكن لو طرحت عليه نفس السؤال في التسعينات أي بعد اندلاع الحرب الأهلية وتفكك البلاد لأجابك:أنا مسلم بوسني. ثم بعد أن وضعت الحرب أوزارها وهدأت الأمور وتفككت يوغسلافيا الى عدة دول لأجابك: أنا بوسني أولا ثم مسلم ثانيا. لماذا؟ لانه يتمنى أن تقبل بلاده في الاتحاد الاوروبي، ولذلك فلا يضع هويته الدينية في الواجهة خوفا من الرفض. 
والسؤال المطروح هنا على هامش أمين معلوف هو التالي: هل ستتفكك دول المشرق العربي الى عناصرها الأولية كما حصل في يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا؟ هذا هو السيناريو الجهنمي الذي يرعب السوريين وكل المنطقة حاليا. بمعنى آخر: هل سيتفكك العراق الى ثلاث دول شيعية عربية، وسنية عربية، وكردية سنية؟ وهل ستتفكك سوريا الى أربع دول: سنية عربية، وعلوية عربية، ودرزية عربية، وكردية سنية؟ وماذا عن لبنان؟ ولكن لبنان صغير المساحة ويصعب تفكيكه لهذا السبب بالذات. وربما وصل التفكيك الى تركيا ذاتها على الرغم من قوتها كدولة مركزية. فهناك انشقاق سني/علوي كبير بالاضافة الى الانشقاق التركي/ الكردي الكبير. ثم يقول لنا أمين معلوف أنه على الرغم من أن الأكراد والأتراك هم مسلمون سنة الا أنهم عن طريق الدم يحسمون الخلافات فيما بينهم. وهذا يعني أنه ليس فقط العنصر الديني هو الذي يشكل الهوية وانما أيضا العنصر العرقي اللغوي. بل ان هذا الأخير هو الذي يتغلب على ما سواه في العصور الحديثة كما سنرى في نهاية هذه الدراسة. في الماضي كان الدين هو الذي يشكل العنصر الأهم لتحديد الهوية. وأما في العصور الحديثة فأصبحت اللغة أو القومية هي التي تشكل العنصر الحاسم. على أي حال فان “الهويات النائمة” أخذت تستيقظ في كل مكان كالقنابل الموقوتة. وهي تنفجر الآن في وجوهنا على هيئة حروب أهلية طاحنة. 
يرى أمين معلوف أن الانسان قد يكون ذا هوية مركبة في أحيان كثيرة. ويضرب على ذلك مثلا هو نفسه. فهو من عائلة عربية عريقة جاءت من الجزيرة العربية واستقرت في جبل لبنان. وهي عائلة مسيحية منذ القرن الثاني أو الثالث للميلاد أي قبل ظهور الاسلام بكثير بل وحتى قبل أن يعتنق الغرب المسيحية. وكونه مسيحيا ولغته الأم عربية أي اللغة المقدسة لاكثر من مليار مسلم يشكل احدى التناقضات الكبرى لحياته وهويته. ويشرح مردفا: علاقتي مع مليار مسلم هي اللغة العربية، وعلاقتي مع ملياري مسيحي هي الدين المسيحي. وبالتالي فأنا ذو هوية تناقضية. بل وعلاوة على ذلك فهو ذو هوية مركبة ومعقدة. فبعد مجيئه الى فرنسا عام 1976 أصبح يكتب بالفرنسية بعد أن كان يكتب بالعربية. وبالتالي فقد أضاف الى شخصيته هوية لغوية جديدة. 
وهكذا أصبحت هويته مركبة من عدة عناصر أو مكونات. ولذلك فعندما يسأله الفرنسيون بعد أن استقر في فرنسا وأصبح كاتبا مشهورا:هل تشعر بأنك فرنسي أم لبناني؟ فانه يجيبهم: هذا وذاك في آن معا. أنا لبناني وفرنسي ولست لبنانيا فقط أو فرنسيا فقط. اني أضطلع بكلتا الهويتين ولا أرى أي مشكلة في هذه الازدواجية: ازدواجية الهوية. انها تغني الشخصية ولا تفقرها. يضاف الى ذلك أنها تجعلنا أكثر تسامحا واتساعا في الرؤيا. ويرى أن انغلاق الانسان في هوية واحدة وتعصبه الشديد لها هو ما يؤدي الى كره الآخر المختلف. وأحيانا يصل هذا الكره الى حد تشكيل الهويات القاتلة. أحيانا لا تستطيع تحمل شخص آخر مختلف عنك دينيا أو لغويا فتذبحه أو تتمنى موته على الأقل. 
ويعترف أمين معلوف بأنه ليس الوحيد في مثل هذه الحالة. فكل المغتربين الذين هاجروا من بلدانهم واستقروا في أوروبا أصبحوا ذوي هويات مركبة أو زدواجية. نضرب على ذلك مثلا التركي في ألمانيا أو الجزائري في فرنسا. فالكثيرون أقاموا منذ زمن طويل في بلاد المغترب بل والكثيرون ولدوا فيه. فهل هم أتراك أم ألمان؟هل هم جزائريون أم فرنسيون؟ اذا قالوا بأنهم ألمان فانهم يفقدون ثقة البلد الأصلي وتعتبرهم تركيا خونة أو حتى مرتدين عن الاسلام! نفس الشيء ينطبق على الجزائريين والمغاربة والتوانسة الخ في فرنسا. الكثيرون أصبحوا مشبوهين في بلدانهم الأصلية. ولكنهم اذا قالوا انهم أتراك أو جزائريون فان البلدان الأوروبية تشتبه بهم ولا ترضى عنهم معتبرة أن ولاءهم لبلدهم الأصلي وليس للبلد الذي يعيشون فيه ويأكلون من خبزه. انهم طابور خامس!
يستنتج أمين معلوف من ذلك أن الهوية على عكس ما نظن ليست معطى جاهزا مرة واحدة والى الأبد. الهوية ليست جامدة وانما هي تبنى وتغتني بمعطيات جديدة وتتحول على مدار الوجود. وفي رأيه أن التركي المهاجر في ألمانيا لا يمكن أن يكون أصوليا متعصبا اذا ما هضم تماما كلا العنصرين المركبين لهويته: أي العنصر التركي والعنصر الألماني. وقل الأمر ذاته عن الجزائري الفرنسي أو المغربي الفرنسي أو التونسي الفرنسي، الخ. . وحدهم الشبيبة المغرر بهم والفاشلون في فرنسا يرفضون بعنف العنصر الثاني المشكل لهويتهم أي العنصر الأوروبي ويصبحون أصوليين بل وحتى جهاديين دمويين. ولكن هل لو أعطتهم بلاد الاغتراب فرصة العمل واحترمت كرامتهم الانسانية كانوا سيصبحون متطرفين؟
وقل الأمر ذاته وان بمعنى آخر عن الكرواتي المتزوج من صربية. فلا يمكن أن يشارك في المجازر لأنها تصيبه في كلتا الحالتين. فهي أما أن تصيبه في عائلته الشخصية واما أن تصيب عائلة زوجته. وفي كلتا الحالتين فهو من الخاسرين. فلماذا يشارك في المجازر اذن؟ وقد يتساءل بعضهم: الكرواتي مسيحي والصربي مسيحي فلماذا يقتلان بعضهما البعض اذن؟ والجواب لأنه يفرق بينهما العرق والمذهب. فالعرق الكرواتي غير العرق الصربي وقل الأمر ذاته عن اللغة. يضاف الى ذلك أن الكرواتي كاثوليكي والصربي أرثوذكسي، ومعلوم أن العداء المذهبي مستحكم بينهما ولا يقل خطورة عن العداء بين السنة والشيعة في الاسلام. هكذا نلاحظ أن للهوية وجوها متعددة لا وجها واحدا. ولكن نلاحظ أن العاملين الأساسيين المؤثرين في تشكيل الهوية هما: اللغة والدين. فالانسان متعلق بدينه(أو طائفته) الى أقصى الحدود وكذلك بلغته. الانسان بطبيعته يحب التشابه ويكره الاختلاف. ولذلك ما ان يقع في أقاصي الأرض على شخص من طائفته أو يتكلم لغته حتى يشعر بالتقارب الفوري معه.
هل حقا أن الاسلام هو وحده دين التعصب؟
هذا السؤال يشغل الجزء الثاني من كتاب أمين معلوف. بل ويمكن القول بأنه يشغل الكتاب كله من أوله الى آخره. بل وأكثر من ذلك فانه يشكل هاجس الغرب والعالم بأسره من أمريكا الشمالية الى أوروبا الغربية الى روسيا فالصين والهند الخ. . كنا نتوقع أن أمين معلوف بصفته مسيحيا لبنانيا يعاني من هيمنة مطلقة للاسلام على العالم العربي سيجيب فورا بالايجاب على هذا السؤال ويصفي حساباته مع دين محمد! ولكن الرجل أذكى من أن يقع في مثل هذا المطب. فالواقع أن العكس هو الذي حصل. فقد تعالى على جراحاته وأقلويته وأدهشنا وفاجأنا اذ قال بأن الاسلام ليس دينا متعصبا في جوهره وأصله أكثر من بقية الأديان. بل وذهب الى حد القول بأن الاسلام كان أكثر تسامحا من المسيحية طيلة العصور الوسطى القديمة. فقد بقيت الأقليات اليهودية والمسيحية عائشة في أحضانه على مدار العصور. صحيح أنها لم تكن تتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها المسلم. ولكنها لم تكن محرومة من حقوق كثيرة على عكس الأقليات الاسلامية في أوروبا التي محيت محوا عن بكرة أبيها كما حصل في اسبانيا وصقلية بجنوب ايطاليا. بالطبع فان مكانة الذمي لم تعد مقبولة في هذا العصر. ولكنها كانت تشكل ضمانة وحماية للمسيحيين واليهود في العصور السابقة. صحيح أن الغرب أصبح أكثر تسامحا من عالم الاسلام بعد منتصف القرن العشرين:أي بعد أن هضم الحداثة التنويرية وبلور حقوق الانسان ثم بالأخص بعد أن قامت الكنيسة الكثوليكية بثورتها اللاهوتية الكبرى ابان الفاتيكان الثاني 1962-1965. 

هنا أقلع الغرب حضاريا وتجاوز عالم الاسلام كثيرا. وهنا انكشف تخلف العالم الاسلامي قياسا الى الغرب. ولكن هذه ليست حالة أبدية سرمدية على عكس ما يتوهم اليمين الغربي. هذا الواقع المتخلف لا يعبر بالضرورة عن طبيعة الاسلام أو جوهره. فالاسلام في رأي أمين معلوف ليس دينا جامدا على عكس ما يتوهم الكثيرون. فهو أيضا قد يتقدم ويتطور ويهضم ثورة الحداثة كما فعلت المسيحية الكاثوليكية بعد الفاتيكان الثاني. وبالتالي فالمستقبل مفتوح أمام الاسلام وسوف يدهشنا في مستقبل الأيام. 
ولكن في الحالة الراهنة للأمور ينبغي الاعتراف بأن وضع البلدان الاسلامية لا يدعو للارتياح أبدا، بل انه مقلق حقا. وهنا يطرح أمين معلوف هذه التساؤلات المتلاحقة: لماذا كل هذه الحجابات والتشادورات؟ لماذا كل هذه اللحى الحزينة وأحيانا الكثة المخيفة؟لماذا كل هذه الخطابات الحامية والدعوات العنيفة الى القتل والذبح؟ لماذا تكفير البشرية كلها من على منابر المساجد في خطبة الجمعة؟ وهل حقا أن الاسلام دين عاجز عن التصالح مع الحداثة على عكس المسيحية؟هل حقا أنه مضاد بطبيعته وجوهره للحرية، والديمقراطية، وحقوق الانسان، وحقوق المرأة، ولروح العصور الحديثة؟
على كل هذه التساؤلات يجيب الكاتب المسيحي أمين معلوف بالنفي القاطع. بل ويطرح أسئلة مضادة من نوع:هل المسيحية في جوهرها هي دين التسامح والديمقراطية واحترام الحريات الفردية؟ويجيب “بلا” واضحة. لماذا؟ لأنه يكفي أن نستشير كتب التاريخ لكي ندرك بأن المسيحيين على مدار العشرين قرنا الماضية كانوا قد مارسوا التعذيب والاضطهاد والمجازر باسم الدين. ثم لكي ندرك أيضا بأن أعلى السلطات الكنسية والأغلبية الساحقة من المؤمنين المتدينين لم يعترضوا اطلاقا على المتاجرة بالعبيد السود، ولا على احتقار المرأة. بل وتأقلموا تماما مع أبشع الأنظمة الديكتاتورية كنظام فرانكو وسالازار وبينوشيه. كما ومارسوا باسم المسيحية أبشع أنواع محاكم التفتيش والحظر على حرية الفكر والضمير. كما ومارسوا الحروب المذهبية الطاحنة وتكفير بعضهم البعض. انظر الحروب الكاثوليكية – البروتستانتية التي اجتاحت أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر على وجه الخصوص. ولكن هل يعني ذلك أن المسيحية هي في جوهرها استبدادية، عنصرية ضد السود، متخلفة، متعصبة؟أبدا لا. يكفي أن ننظر الى ما حولنا لكي نرى أنها في المجتمعات المتقدمة قد أصبحت متصالحة تماما مع حرية التفكير والتعبير، ومع حقوق الانسان والديمقراطية. وأصبحت ضد العنصرية والطائفية. فهل ينبغي أن نستنتج من ذلك أن جوهر المسيحية قد تعدل أو تغير مؤخرا؟أم أن “الروح الديمقراطية” التي تتحلى بها بقيت مخبوءة طيلة تسعة عشر قرنا ولم تتجلى الا في منتصف القرن العشرين؟!
ثم يضيف أمين معلوف: ربما كان السؤال مطروحا بشكل خاطيء. ربما كان من الأفضل أن نصوغه على النحو التالي:هل كانت الديمقراطية مطلبا ملحا على مدار التاريخ الطويل للعالم المسيحي؟ والجواب هو حتما:لا. ولكن هل استطاعت الديمقراطية على الرغم من ذلك أن تترسخ في العالم ذي التراث المسيحي؟ والجواب هو حتما: نعم. كيف حصل هذا التطور؟ الجواب على هذا السؤال يتطلب مجلدات! سوف أقول فقط ما يلي: ان تشكيل مجتمع غربي يحترم الحريات الديمقراطية كان تدريجيا وغير مكتمل اذا ما نظرنا الى التاريخ الطويل بمجمله. كما وكان متأخرا جدا. وأضيف: اذا كانت الكنائس المسيحية قد وافقت على هذا التطور فانها عموما لحقت بالحركة التحريرية ولم تثرها. بل ولم تلحق بها الا بعد تردد كثير وتحفظ ومقاومة عنيدة. انظر تكفير الكنيسة الكاثوليكية للحداثة الليبرالية طيلة عدة قرون وحتى منتصف القرن العشرين أو بداية الستينات لكي نكون أكثر دقة. وعلاوة على ذلك فان الشعلة التحررية أتت من جهة أشخاص غير متدينين أو خارجين على اطار الفكر الديني غالبا. معظم فلاسفة الحداثة كانوا غير متدينين بالمعنى التقليدي للكلمة. 
ثم يستدرك أمين معلوف قائلا: ربما أثلج كلامي هذا صدر كارهي الأديان بشكل عام. ولكن ينبغي علي أن أذكرهم بأن أكبر الكوارث والآفات التي حصلت ابان القرن العشرين لم تجيء من جهة التعصب الديني وانما من جهة تعصب آخر لا علاقة له بالدين. لقد أتت من جهة أشخاص وأيديولوجيات معادية تماما للدين. نقصد بذلك هتلر وستالين أساسا:أي النازية والشيوعية. ويمكن أن نضيف اليهما موسوليني وبقية الفاشيين. وقد حصدت هذه الجرائم عشرات الملايين من البشر. ولكن ينبغي الاعتراف بأنه بدءا من سنوات السبعينات من القرن المنصرم فان التعصب الديني الأعمى هو الذي ساد عالمنا المعاصر ولا يزال. 
هل حقا أن المسيحية أفضل من الاسلام؟
هذا ما يعتقده الغربيون عموما بل ويستغربون طرح السؤال من أساسه ويعتبرون الجواب تحصيل حاصل. بل وهذا ما يعتقده العديد من المثقفين العرب الحداثويين بشكل سطحي هش. انظر الاستشراق معكوسا. ولكن ليست هذه هي حالة أمين معلوف. وهنا تكمن عبقريته والميزة الأساسية لكتابه. وللبرهنة على أطروحته القائلة بأن جميع الأديان يمكن أن تمشي في طريق التعصب/ أو في طريق التسامح طبقا للمنعطفات والظروف فانه ينخرط في دراسة مقارنة بين الاسلام والمسيحية كما رأينا. فهو يرى أن المسيحية تحولت من ضحية في القرون الأولى الى جلاد بعد أن أصبحت الدين الرسمي للامبراطورية الرومانية في عهد قسطنطين ومن تلاه. نعم لقد تحول المسيحيون من مضطهدين الى جلادين بعد أن امتلكوا السطة والقوة. فقد منعوا الدين الروماني القديم بحجة الوثنية ولاحقوا أتباعه عن آخر رجل. وأما الاسلام فقد كان متسامحا ابان العصر الذهبي عندما كانت بغداد أولا، ثم قرطبة ثانيا، تشعان على العالم بأنوارهما العلمية والفلسفية والأدبية. ولكن ماذا ينفع أن نتغنى بالآباء والأجداد والأمجاد القديمة اذا كان الحاضر الراهن سوداويا مكفهرا؟من سيصدقنا بأن الاسلام دين تسامح اذا كان الرهبان في الجزائر يذبحون من الوريد الى الوريد من قبل الأصوليين؟بل ورأينا أن المثقفين الجزائريين أنفسهم يطعنون بالسكاكين أمام أطفالهم أحيانا! من سيصدق هذه الصورة المجيدة عن الاسلام اذا كان السياح يقتلون رشا بالكلاشينكوف في مصر وغير مصر؟ لهذا السبب ارتبط مفهوم التعصب الأعمى بالاسلام وحده في الآونة الأخيرة ونسي الناس ما فعلته المسيحية أيام زمان. وبالتالي فاذا لم نموضع الاشكالية ضمن منظور تاريخي واسع فاننا لن نفهم الأمور على حقيقتها. وهذا ما ينقص المثقفين العرب عموما: الحس التاريخي. انهم يحكمون على الأمور بتسرع ودون القدرة على موضعتها ضمن منظور مقارن بعيد المدى. أما أمين معلوف فعلى الرغم من كل الهيجانات والتفجيرات الأصولية الاسلاموية المعاصرة فانه لا يستسلم لغرائزه الطائفية وانما يقول لنا ما يلي:سوف أناضل طيلة حياتي كلها ضد الفكرة التي تقول بأن المسيحية هي دين التسامح والاسلام هو دين التعصب. ليس صحيحا اطلاقا بأن المسيحية هي دين الحداثة والحرية والديمقراطية، والاسلام هو دين العبودية والاستبداد والظلامية. هذا ليس صحيحا أبدا. هذه فكرة خاطئة وخطرة لأنها تغلق باب المستقبل أمام مليار مسلم على الأقل. بمعنى آخر فانه لن ينغلق على نفسه داخل هذا القفص الايديولوجي المعادي للاسلام أزليا كما يفعل المحافظون الجدد في الغرب. وهنا تكمن ميزة أمين معلوف الشخصية. لماذا؟ لأن الغرب فتح له كل أبوابه على مصراعيها من خلال فرنسا. وكان يمكن أن يستسلم لنزعة مهاجمة الاسلام السائدة في الغرب بعد 11 سبتمبر على وجه الخصوص. ولكنه لم يفعل. لقد منحته فرنسا أرفع جوائزها الأدبية: غونكور. بل وأدخلته مؤخرا الى مجمع الخالدين، أي الأكاديمية الفرنسية. ومع ذلك فانه يرفض أن يشتم الاسلام. يا له من ولد عقوق! في الواقع أنه ليس عقوقا. فهو يحب فرنسا حقيقة ويعتبرها جزءا لا يتجزأ من هويته. كيف لا وهو يكتب بلغتها روائعه الأدبية والفكرية؟ كيف لا وهو يشرب ماءها وخمرها المعتق؟ كيف لا وهو متشبع بثقافتها وآدابها وفلسفتها؟ ولكنه لم ينس جذوره العربية لأن العربية هي لغته الأم كما ذكرنا ولأن العالم العربي هو الجزء الآخر من هويته وليس فقط لبنان. انه لبناني، فرنسي، عربي. . انه كل ذلك دفعة واحدة. انه يغتني بلغتين وثقافتين وتراثين ولا يشعر بأي مشكلة. انه شخصان في شخص واحد. 

في الواقع أن أمين معلوف يرفض أن يدين الاسلام في المطلق كما يفعل معظم مثقفي الغرب. انه يحب الانصاف والعدل. والانصاف يقول لنا بأنه لاتوجد عقيدة سيئة بذاتها وأخرى خيرة بذاتها. كل العقائد انحرفت في لحظة ما من تاريخها عن السراط المستقيم وارتكبت أبشع الفظائع وأعمال العنف. أو قل بأن معتنقيها هم الذين ارتكبوا ذلك. وهذا ينطبق على الاسلام كما على المسيحية. بل وينطبق على ما يدعى بالأديان العلمانية كالشيوعية والنازية والفاشية بل وحتى الليبرالية. ماذا فعلت القنابل الذرية في هيروشيما وناغازاكي. وماذا فعلت القنابل الاميركية في فييتنام؟الخ. الفرق بين الاسلام والمسيحية هو أن المسيحية تصالحت مع الحداثة مؤخرا في حين أن الاسلام لم يتصالح بعد. ولكنه سائر على الطريق كما يؤكد أمين معلوف. انه يقول لنا ما معناه: الاسلام سيتصالح مع الحداثة يوما ما، لا تخافوا!
ثم يلح المؤلف على الفكرة التالية: وهي أن الاسلام ليس وحده المسؤول عما يحصل حاليا من عنف وارهاب وفواجع. فقد قالوا نفس الشيء عن المسيحية ابان محاكم التفتيش والحروب المذهبية الضارية. هناك عوامل أخرى تلعب دورها غير الدين. هناك العوامل السياسية والاقتصادية والديمغرافية. هناك شعور الشعوب العربية بالدونية تجاه الغرب. وهناك سوء التنمية والفقر المدقع الذي يعاني منه العالم العربي والاسلامي عموما. ثم يقول لنا أمين معلوف:يهتم المثقفون عادة بتأثير الدين على الشعوب وتاريخها وحياتها الاجتماعية. و لكنهم لا يهتمون كفاية بتأثير الشعوب والتاريخ على الدين. صحيح أن الدين يصوغ المجتمع ولكن المجتمع بدوره يصوغ الدين. وهذه فكرة مبرهن عليها منذ أيام عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركهايم. وقد وصل الأمر به الى حد القول بأن الدين هو المجتمع: بمعنى أنه اذا ما آمن المجتمع بفكرة ما فانها تفرض نفسها عن طريق الاجماع الساحق وكأنها دين لا يناقش ولا يمس. نستنتج من كل ذلك أن المجتمع المتقدم المستنير بأضواء العلم والفلسفة يفهم الدين بطريقة سمحة متسامحة. والمجتمع المتخلف الغاطس في عقلية القرون الوسطى والبؤس والفقر المدقع والتزايد السكاني الهائل يفهم الدين بطريقة ظلامية مرعبة. نقطة على السطر.
هل الدين أهم من اللغة في تشكيل الهوية أم العكس؟
يقول لنا أمين معلوف ما معناه: هناك عنصران أساسيان متنافسان على تشكيل الهوية هما اللغة والدين. بالطبع اذا اجتمعا تكون الهوية أقوى ولا يكون هناك تنافس أو صراع بينهما. ولكنهما في أحيان كثيرة لا يجتمعان. وعندئذ تبدأ المشاكل. للبرهنة على أن الدين وحده لا يكفي لتشكيل الهوية نضرب الأمثلة التالية: كلنا يعلم أن العرب والأتراك والأكراد والايرانيين ينتمون في غالبيتهم الى نفس الدين: الاسلام. ولكن هل لهم نفس الهوية؟ بالطبع لا. لماذا؟ لأن اللغة تفرق بينهم وكذلك النزعات القومية. ولولا ذلك لما سالت الدماء أنهارا بين الأتراك والأكراد مثلا. فهم ينتمون الى الاسلام بل والاسلام السني في غالبيتهم ولكنهم يكرهون بعضهم بعضا بسبب اللغة. الأكراد كبقية خلق الله يحبون لغتهم الأم ويريدون من تركيا أن تعترف بها وتعلمها في المدارس مثل التركية. ولكن تركيا لا يمكن أن تضع اللغة الكردية على قدم المساواة مع التركية. وقل الأمر ذاته بالنسبة للعرب أو الايرانيين. من هنا ضخامة المشكلة الكردية. 

ولكن بالمقابل فان اللغة على الرغم من أهميتها لا تكفي لتشكيل الهوية. فمثلا في البوسنة الجميع يتحدثون نفس للغة سواء أكانوا صربا أرثوذكسيين، أم كرواتيين كاثوليكيين، أم مسلمين. ولكنهم لا يشعرون بأنهم يشكلون أمة واحدة. لماذا؟ لأن الدين أو المذهب يفرق بينهم. نفس الشيء ينطبق على العرب وان بدرجة أخف نسبيا. فجميعهم يتحدثون العربية ويحبونها كلغة أم. ولكن المشاكل الدينية أو المذهبية تفرق بينهم. بل وقد تسبب أحيانا حروبا أهلية ضارية. انظر الحرب الأهلية اللبنانية والمجازر التي حصلت بين المسلمين العرب والمسيحيين العرب. أو انظر حاليا الصراع السني الشيعي الذي يكاد يودي بالمنطقة كلها. فعلى الرغم من أنهم ينتمون جميعا الى نفس اللغة ونفس القرآن ونفس النبي ونفس الأدب العربي من العصر الجاهلي وحتى اليوم الا أن خلافهم المذهبي يمنعهم حتى الآن من تشكيل وحدة وطنية متراصة ومتماسكة سواء في العراق، أو سوريا، أولبنان، أو السعودية، أو الكويت، أو البحرين، الخ.. 
أخيرا لتبيان الطابع الاشكالي والتناقضي للهوية نروي القصة التالية:يقال أنه شاع في أوساط الاخوان المسلمين ابان الخمسينات الشعار التالي: مسلم في الباكستان ولا مسيحي في لبنان! والمقصود به أن المسلم الباكستاني أقرب الينا من المسيحي اللبناني. ولكن كان يمكن أن يشيع شعار معاكس على يد المسلمين التحديثيين أو القوميين العرب: مسيحي لبناني ولا مسلم باكستاني! لماذا؟لأن المسيحي اللبناني يشاطرنا نفس اللغة الأم ونفس النزعة القومية العربية. أما المسلم الباكستاني فنحتاج الى مترجم لكي نتفاهم معه أو نتحادث. هكذا تلاحظون أن مسألة الهوية معقدة أكثر مما يجب. ثم انها تطرح بشكل مختلف اذا كنا نعيش في عصر الحداثة أو في عقلية القرون الوسطى.
بقلم
هاشم صالح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق