أنسي الحاج
هذه نهايات عصور. فلنتفاءل بها كممرّات إلى بدايات.
بعض النهايات كان يجب أن تحصل أيّاً تكن عواقبها. هناك أزمان يشكّل مجرد استمرارها اعتداء على الحياة وتورّماً في التاريخ.
فلنتفاءل بالنهايات. قد يتلوها ما هو أسوأ منها ولكنْ لا نخفْ: ما إن تُفْتح بوابة الانتهاءات حتّى يصبح التغيير أسهل الأمور. فلنغرق في تيّار التغيير، أفضل من أن نغرق في استقرار التخلّف.
لنتفاءل، رغم أنّنا، شعوباً وحكّاماً وكُتّاباً، لا نتكلّم لغةً واحدة. رغم افتقارنا إلى زعماء جدد يجسّدون الأحلام.
لنتفاءل، رغم تَمطّي الحرب السوريّة إلى ما لا ينبئ بمدى منظور للختام. رغم التوجّس من «معركة دمشق». رغم الهلع من فزّاعة التكفيريّين. رغم التردّي المصري الذي لم تعد حتّى عبقريّة الضحك المصريّة قادرة على ستره. رغم الانتحار الفلسطيني. رغم المذهبيّة السنيّة ــ الشيعيّة التي أضحت جزءاً عاديّاً مرعباً من الحياة اليوميّة. رغم طلائع لصوص طلائع الغاز والنفط في بحرنا المتوسّط. رغم الصراخ من أجل كلّ شيء إلّا التنمية البشريّة وحقوق الإنسان.
نستبشر بهذه النهايات وندعو بما أوتينا من خوف وسذاجة كي يبزغ فجر يولد فيه المرء في هذه المناطق البائسة من العالم ويعيش ويموت دون أن تعيش الأديان والمذاهب بالنيابة عنه، ولا أنظمة الحكم بالنيابة عنه، ولا أصحاب المليارات بالنيابة عنه، ولا فراش الذكريات.
ندعو بالحياة السلسة الحرّة للجميع ولا ندعو بالموت على أحد.
نهايات العصور.
كلّ شيءٍ ينبئ بذلك، من لون الأفق إلى الأمراض.
ونهايات العصور ليست حتماً عقاباً. هناك نهايات ضريحيّة ونهايات ميلاديّة. مع رجاء قدوم أيّام تفسح للعربي أن ينعتق وأن يُعتَق، عبر إضافة نور إلى النور وليس بغير ذلك. بالتفتّح النفسي والعطاء الدفّاق، والدخول في موكب واحد مع الحضارة، والاقتناع التام بأنّ حياة الإنسان مقدّسة، بل بأنّ حياة كلّ شيء حيّ مقدّسة.
لكلّ زمنٍ لؤلؤة يُسمّى على اسمها، ولجميع الأزمان شمس واحدة لا تُحْتَسب الحياة للإنسان ولا لسائر الكائنات بدونها. هذه الشمس هي الحبّ.
تحتاج الأحداث إلى أخذ نَفَس بين لطمة ولطمة، لئلّا تكتمل شروط الاختناق الذي يسبق الانفجار. أخْذُ النَفَس صناعة الحكماء. هؤلاء باتوا مطلوبين لنشر موجات الهواء بين السنّة والشيعة. وكلّما اقتربت مواعيد المحكمة الدوليّة اشتدّت الحاجة إلى التنفّس. كذلك كلّما ازداد التورّط اللبناني من الطرفين في الحرب السوريّة.
الحكماء القادرون لا حكماء الخطابة. بعض المكان لمَن لا يرى مأرباً في الدم.
الاحتقان المذهبي مخيف لأنّه يبدو متروكاً على غاربه. البقاع والشمال شاهدان. وصيدا الأسير. إمساكُ الزعماء بالوضع ليس كافياً. لا بدّ من قبضة الدولة. الزعماء مؤّقتون، الدولة ثابت. لنتذكّر كميل شمعون وكمال جنبلاط. حافظا على تعايش الجبل حتّى لظنّ الناس أنّ هذا التعايش دائم دوام الصخر، وخلال أيّام طار التعايش.
كثيرون عاشوا حوادث 1958 ثم ما سُمّي اصطلاحاً واستسهالاً «الحرب الأهليّة» منذ 1975. التعصّب المسيحي ــ الإسلامي واللبناني ــ الفلسطيني. الفظائع بلغت ذروتها. ومع هذا، لأنّ الحرب كانت منطلقة من جهل الأطراف بعضهم لبعض، كان هؤلاء ــ حتّى على المتاريس ــ ما إنْ يتعارفوا حتّى يضعف وربّما يتبخّر ذلك الجانب المتوحّش من مواقفهم المتبادلة. كان جهلهم يرميهم على التقاتل وتعارفهم يُخجلهم من أنفسهم.
الوضع السني ــ الشيعي لا ينطبق عليه هذا الوصف. لا غموض في سيرة المذهبين. بالعكس. تمسُّك كلّ منهما بحقائقه وتطوّع مَن يستغلّ هذه الحساسيّة يجعل كلّ فريق راغباً في إلغاء الآخر. هنا الحرب أهليّة بالفعل. محرّكوها باردون وفي مأمن، لكنّ المنفّذين لم يعد يوقفهم غير عدم صدور الأمر بالهجوم.
والباب بالباب.
في طرابلس لا يتقاتل غير الفقراء. في البقاع غير الفلّاحين والبسطاء. أيّ شرارة ستلمع في لبنان ستشعل العراق والخليج.
ليت مراجع السنّة في الأزهر والشيعة في النجف يشكّلون وفوداً من العلماء يجوبون أماكن التوتّر لانتزاع الفتيل. ليت البابا فرنسيس الأوّل يشكّل بعثات يرسلها إلى لبنان لترطيب الأجواء بين السنّة والشيعة. إذا كان من حملة صليبيّة مبرّرة فهذه هي. حملة للصلح والألفة. حملة لإقناع هذه الجماعات البسيطة والعنيفة بأنّ الغاية من الحياة هي ارتشاف رحيقها، ورحيقها مادة تَجْمع زرقة السماء إلى رائحة القمح، أمامهما أولاد يضحكون وصبايا يغدقن نظراتهنّ الفاتنة على الأشياء، وشيوخ كلّ ما فيهم يقول الحقيقة. والحقيقة هي أنّ الإنسان أغلى من أديانه.
لستَ أنت: الحياة هي التي تخاف الموت. هي ما يختلج فيكَ فزعاً ويبسط أيديه لردّ الموجة الهاجمة.
لا أنت وحدك بل كلّ ما ينبض. حين تدوس نملة لا تقتل النملة بل الحياة المتمثّلة في النملة. حين تقتلع شجرة لا تقتلع الشجرة بل الحياة التي أحبّت أن تتّخذ شكل الشجرة.
ومَن يقتل الحياة ليس الموت بل حياة تقاوم نفسها.
دع الحياة تَلفُّكَ كما تلفّ الزوابعُ الفضاء. لا تضعف لغير الحبّ ولا تقوَ بغيره.
مُدَّ عونك إلى الحياة!
أحياناً يُخيّل إليّ أنّ الحبّ الذي أكرّر وأعيد الكلام عليه هو غير الحبّ. هو ناتج سوء تفاهم، بحث غامض في خضمّ أوقيانوس لا يعبأ. هو وقفةٌ استعراضيّة هزليّة تنهار من نقزة. أيّ حبٍّ هذا الذي لا يتّفق اثنان على تعريفه؟ أيّ حبّ هذا الذي يخونه صاحبه قبل صياح الديك وبعده؟ هذا الذي يؤلم حتّى الموت إذا تبودل ويؤلم حتّى الموت إنْ لم يُتبادَل؟ إذا كان الجنس فما هذا إلّا ثمرة ربيع وهورمونات، وإذا كان أكثر من الجنس فهل أنت واثق من أنّ الأكثر هو البُعد الروحي أم تُراه ما لا يستطيع العاشق نيله من المعشوق؟ حرمانٌ تُسمّيه حبّاً؟
وهل هو حبّ واحد أم دوّامة لا تنتهي؟ وكيف يكون شمساً وهو لا يضيء إلّا ليُعمي أو ليغطس في الظلام؟
هو الحرمان، أنت قلت. لا الجنسي ولا الروحي، بل الحرمان ممّا نجهل، الحرمان النسبي والمطلق، وما التوق إليه غير سيرٍ بأفضل ما فينا، وهو الحلم، نحو أفضل ما فينا، وهو الخير.
هذا ما أسمّيه الحبّ، قد نخلعه على مَن لا يستحقّه لا لأنّنا أغبياء بل لأنّ الحبّ يستحقّ ذاته ويتحقّق لذاته، وما من غفلةٍ أرحم.
في هذه الظروف التاريخيّة يتّخذ حديثٌ كهذا طابعاً غريباً عجيباً. شذوذُ الوقاحة. عزفٌ منفردٌ أشبه بالمرض النفسي. كلّ يومٍ ينقضي يشعرني بأنّي أزدادُ أقلّويّة. كنتُ واحداً وأمسيتُ ربع واحد. أكاد أتبيّن نهاية الطريق القريبة: رمالٌ متحرّكة تبتلعني بصمت.
لا أصدّق أنّ هذه الجموع، هذه الساحات والضواحي، ترتعش للحياة، للحياة وحدها، للحياة العارية الدافئة البضّة وحدها، وأنّ الناس هنا يشتاقون للناس هناك، وأنّ في هذا المجتمع مَن يعفّ عن التعصّب ويرفض غضّ النظر عن القتل.
إيقاعٌ معاق لكلام السلام. شكلٌ معتوهٌ للغةِ الحبّ. قلت لكَ: أنا وأنت ناقصان، وأكرّرها.
إلى أن يفعل الناس ما لم يفعلوا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق