تمكَّن جيل خاص من المخرجين الجدد كمحمد مفتكر، ونبيل عيوش، وليلى المراكشي، وإسماعيل فروخي، وفوزي بنسعيدي... أن يسيروا في طريق مختلف تماماً عمَّن سبقهم من السينمائيين، وأن تثير أفلامهم الكثير من النقاشات والتساؤلات المتعلقة ببعض القضايا الملحّة في المجتمع المغربي الذي يعرف تحوُّلات عميقة تطال بنياته الاجتماعية والسياسية والقيمية...
ومن بين هؤلاء الذين يلفتون الانتباه إلى تجاربهم السينمائية -بشقّيها:الروائي القصير، والروائي الطويل- الكاتب والسيناريست والمخرج هشام العسري الذي أنجز فيلمه الروائي الطويل الثاني «هُمُ الكلاب» بعد فيلمه الأول «النهاية»، وذلك إِثْرَ سلسلة من الأفلام الروائية القصيرة والأشرطة والمسلسلات التليفزيونية.
وإذا كان فيلمه الأول «النهاية» يحاول مقاربة التاريخ السياسي المغربي في سبعينيات القرن الماضي، فإن الفيلم الثاني اتَّخذ من أحداث الدار البيضاء التاريخية في 20 يونيو/حزيران 1981 المعروفة بانتفاضة «كوميرة» (تعني الخبز) والتي خرج في أثنائها سكّان كازابلانكا محتجِّين على تردّي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
تبدأ أحداث فيلم «هُمُ الكلاب» انطلاقاً من تظاهرة يقودها شباب ينتمون إلى «حركة 20 فبراير» في سياق «الربيع العربي»، والتي خرج خلالها المغاربة للمطالبة بالتغيير، وإصلاح الأوضاع،وفي سياق غليان الشعارات التي تعرفها المظاهرة، يظهر في الأفق رجل خمسيني تائه بين المحتجّين، يمسك بإحدى يديه العجلة الصغرى لدراجة هوائية مخصَّصة للأطفال. وبما أن ساحات الاحتجاج يملؤها الصحافيون كذلك، فإن الرجل سيتصيده فريقُ روبورتاج يبحث عن موضوعٍ مختلف للقناة التليفزيونية التي يشتغل فيها، فتبدأ الأحداث، وتتداخل الأشكال والطرائق البصرية التي يستثمرها المخرج بشكل جيد.
من المعروف أن المخرج هشام العسري لا يرتاح كثيراً للكاميرا الثابتة، فأفلامه السينمائية متحرِّكة جداً، سواء على مستوى حركات الكاميرا أو الممثِّلين أو المونتاج. وهي سمة تعود إلى القلق الذي ينتاب صاحبها تجاه الوسط الذي ينتمي إليه، وكذا إلى طبيعة المواضيع التي يختارها، فضلاً عن الشخصيات المركَّبة التي تتجاوز همومها حدود الطابع الشخصي لتتعدّاه إلى ما هو جمعي وإنساني، زيادة عن المناخ العام والدينامية التي يعرفها المجتمع المغربي.
يوظِّف هشام العسري في هذا الفيلم أسلوباً سينمائياً يعتمد على الكاميرا المتحرِّكة، المحمولة، المتفاعلة، المستعدّة لأن تغادر كَتِف أو يَدَ المصوِّر لتستقرّ على أي سند آخر يجعلنا نَلِجُ الفيلم أو المَشْهَدَ أو اللقطة دون حياد. وذلك ما جعلها كاميرا ذاتية خالصة يحملها الشخوص، ويتقاذفونها فيما بينهم، ترافقهم أينما حلوّا، وأينما ارتحلوا. فقد جعل المخرج من كاميرا الفريق التليفزيوني كاميرا تصوير الفيلم ذاته، فاستأنس بها المتلقّي، وصار يتنقَّل عبرها إلى فضاءات الأحداث، وأن ينسى كواليس السينما وتعقيدات إعداد وتصوير المَشَاهد. ونعتقد أن القيمة الفنية لهذا الأسلوب تكمن في إماطة الوهم عن السينما ذاتها، وفي القدرة على تكسير الحاجز السيكولوجي الصلب الذي قد يحول بين المتفرِّج والموضوع. فالمرونة التي اقتحم بها المخرج ماضي أحداث الدار البيضاء، ورَبْط الحاضر الاحتجاجي بماضيه، مؤشراتٌ تَنمُّ عن حسّ فنّي وتربوي مُتَّقِد تجاه التوليف بين الشكل والمضمون.
يجمع الفيلم بين تقنيات الروبورتاج التليفزيوني والسينما الوثائقية مع الإحالة المرجعية على الموجة الفرنسية الجديدة وسينما الدُّوغما (DOGMA)، وسينما المخرج «جون كازافيت JOHN CASSAVETES» والأخوين «داردين DARDENNE»، وذلك من حيث ضعف الموازنة الإنتاجية، والاعتماد على الديكورات الطبيعية، والاهتمام بالأصوات الحَيّة المباشرة، وتوظيف الإنارة الطبيعية، والميل إلى عدم التكلُّف من حيث التمثيل، وتجنُّب اللجوء إلى خدمات الوجوه المعروفة...
التصوير بكاميرا محمولة ليس فعلاً سينمائياً عابراً، وليس استسهالاً كما يظن البعض الذي اعتاد طمأنينة اللقطة الثابتة، الكلاسيكية، الباذخة، الأنيقة.. إنه فعلٌ تعبيري شرس ومُغَامر ودَالٌّ إذا ما انتبهنا إلى الطوارئ التي تعترض فريق العمل في أثناء التصوير، وإلى صعوبة تحقيق بعض المَشَاهد أو نجاحها. فقد يميل البعض إلى اختصار ذلك في سعي المخرج إلى إنجاز سينما واقعية، ولكن العملية أعمق بكثير لأن الرهان يصبح على الكتابة السينمائية (السيناريو والإخراج) التي تصبو إلى تجريب طرق إبداعية مختلفة من شأنها تجديد الأساليب الإخراجية وإعادة التفكير في التقطيع التقني. وذلك ما جعل من فيلم «هُمُ الكلاب» فيلماً مليئاً بالحركة التي أَثْرَت أسلوبه الفني، وساهمت في تأزيم العلاقة المتداخلة بين التقنية والشكل والمضمون في السينما. إن تحريك الكاميرا هو تحريك للإبداع لأن حملها يرتبط بالحرية وبالقدرة على الارتجال الفني بواسطة الصورة حيث أصبحنا أمام كاميرا متحرّرة، متحرّكة، تسير مع الناس، ترصد حركاتهم فيما يشبه تصوير المشي الذي يجعل من هذه الآلة مُسَاهِمَة في إنتاج الفعل الدرامي، ومن ثَمَّ تنقل لنا الأحداث بشكل حَيّ. فلا نحسّ، ولو للحظة، بأن الممثِّل الرئيسي في الفيلم يسير بمعزل عنها، إنه حصيلةُ مضمونٍ مركّب في قالب درامي، متأثِّر بالأساليب الفنية والحمولة السياسية والاجتماعية للمجتمع. لقد أصبحت الكاميرا من خلال توظيف أسلوب الكاميرا المحمولة شخصية متداخلة مع الشخصية الرئيسية، بل صارت ظِلَّها.
في سياق هذه الحركية الامتدادية التي يعجّ بها الفيلم، والتي برع الممثِّل حسن بديدة في تسخير قواه النفسية والإيمائية والجسدية والحركية لمسايرة أسلوب الفيلم وبلورة نَفَسِه الدرامي، لم يغفل المخرج هشام العسري الحمولة الرمزية لبعض الأشياء والوقائع، فقد كانت العَجَلَة وعاء رمزياً للدلالة على الحركة والتعدُّد والسكون الأولي والتركيب والامتداد والتركيز والطاقة التي تنبعث من المركز لتنتشر إلى الهوامش، فتتكاثف وتعود إلى المركز. أما رِجْلُ الدجاجة فتشير ضمن الرموز الإفريقية إلى الحماية الأبوية والرحمة والغريزة الأصلية. وبالإجمال، إن فيلم «هُمُ الكلاب» تأمُّل بصري لدينامية الحالة المغربية، والعربية عموماً، وهي تُصَارِعُ قيم الثبات والتحوُّل، الوصاية والحرية.. فعسى أن يكون الفن السينمائي في صميم أسئلتنا المعاصرة والراهنة.
ومن بين هؤلاء الذين يلفتون الانتباه إلى تجاربهم السينمائية -بشقّيها:الروائي القصير، والروائي الطويل- الكاتب والسيناريست والمخرج هشام العسري الذي أنجز فيلمه الروائي الطويل الثاني «هُمُ الكلاب» بعد فيلمه الأول «النهاية»، وذلك إِثْرَ سلسلة من الأفلام الروائية القصيرة والأشرطة والمسلسلات التليفزيونية.
وإذا كان فيلمه الأول «النهاية» يحاول مقاربة التاريخ السياسي المغربي في سبعينيات القرن الماضي، فإن الفيلم الثاني اتَّخذ من أحداث الدار البيضاء التاريخية في 20 يونيو/حزيران 1981 المعروفة بانتفاضة «كوميرة» (تعني الخبز) والتي خرج في أثنائها سكّان كازابلانكا محتجِّين على تردّي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
تبدأ أحداث فيلم «هُمُ الكلاب» انطلاقاً من تظاهرة يقودها شباب ينتمون إلى «حركة 20 فبراير» في سياق «الربيع العربي»، والتي خرج خلالها المغاربة للمطالبة بالتغيير، وإصلاح الأوضاع،وفي سياق غليان الشعارات التي تعرفها المظاهرة، يظهر في الأفق رجل خمسيني تائه بين المحتجّين، يمسك بإحدى يديه العجلة الصغرى لدراجة هوائية مخصَّصة للأطفال. وبما أن ساحات الاحتجاج يملؤها الصحافيون كذلك، فإن الرجل سيتصيده فريقُ روبورتاج يبحث عن موضوعٍ مختلف للقناة التليفزيونية التي يشتغل فيها، فتبدأ الأحداث، وتتداخل الأشكال والطرائق البصرية التي يستثمرها المخرج بشكل جيد.
من المعروف أن المخرج هشام العسري لا يرتاح كثيراً للكاميرا الثابتة، فأفلامه السينمائية متحرِّكة جداً، سواء على مستوى حركات الكاميرا أو الممثِّلين أو المونتاج. وهي سمة تعود إلى القلق الذي ينتاب صاحبها تجاه الوسط الذي ينتمي إليه، وكذا إلى طبيعة المواضيع التي يختارها، فضلاً عن الشخصيات المركَّبة التي تتجاوز همومها حدود الطابع الشخصي لتتعدّاه إلى ما هو جمعي وإنساني، زيادة عن المناخ العام والدينامية التي يعرفها المجتمع المغربي.
يوظِّف هشام العسري في هذا الفيلم أسلوباً سينمائياً يعتمد على الكاميرا المتحرِّكة، المحمولة، المتفاعلة، المستعدّة لأن تغادر كَتِف أو يَدَ المصوِّر لتستقرّ على أي سند آخر يجعلنا نَلِجُ الفيلم أو المَشْهَدَ أو اللقطة دون حياد. وذلك ما جعلها كاميرا ذاتية خالصة يحملها الشخوص، ويتقاذفونها فيما بينهم، ترافقهم أينما حلوّا، وأينما ارتحلوا. فقد جعل المخرج من كاميرا الفريق التليفزيوني كاميرا تصوير الفيلم ذاته، فاستأنس بها المتلقّي، وصار يتنقَّل عبرها إلى فضاءات الأحداث، وأن ينسى كواليس السينما وتعقيدات إعداد وتصوير المَشَاهد. ونعتقد أن القيمة الفنية لهذا الأسلوب تكمن في إماطة الوهم عن السينما ذاتها، وفي القدرة على تكسير الحاجز السيكولوجي الصلب الذي قد يحول بين المتفرِّج والموضوع. فالمرونة التي اقتحم بها المخرج ماضي أحداث الدار البيضاء، ورَبْط الحاضر الاحتجاجي بماضيه، مؤشراتٌ تَنمُّ عن حسّ فنّي وتربوي مُتَّقِد تجاه التوليف بين الشكل والمضمون.
يجمع الفيلم بين تقنيات الروبورتاج التليفزيوني والسينما الوثائقية مع الإحالة المرجعية على الموجة الفرنسية الجديدة وسينما الدُّوغما (DOGMA)، وسينما المخرج «جون كازافيت JOHN CASSAVETES» والأخوين «داردين DARDENNE»، وذلك من حيث ضعف الموازنة الإنتاجية، والاعتماد على الديكورات الطبيعية، والاهتمام بالأصوات الحَيّة المباشرة، وتوظيف الإنارة الطبيعية، والميل إلى عدم التكلُّف من حيث التمثيل، وتجنُّب اللجوء إلى خدمات الوجوه المعروفة...
التصوير بكاميرا محمولة ليس فعلاً سينمائياً عابراً، وليس استسهالاً كما يظن البعض الذي اعتاد طمأنينة اللقطة الثابتة، الكلاسيكية، الباذخة، الأنيقة.. إنه فعلٌ تعبيري شرس ومُغَامر ودَالٌّ إذا ما انتبهنا إلى الطوارئ التي تعترض فريق العمل في أثناء التصوير، وإلى صعوبة تحقيق بعض المَشَاهد أو نجاحها. فقد يميل البعض إلى اختصار ذلك في سعي المخرج إلى إنجاز سينما واقعية، ولكن العملية أعمق بكثير لأن الرهان يصبح على الكتابة السينمائية (السيناريو والإخراج) التي تصبو إلى تجريب طرق إبداعية مختلفة من شأنها تجديد الأساليب الإخراجية وإعادة التفكير في التقطيع التقني. وذلك ما جعل من فيلم «هُمُ الكلاب» فيلماً مليئاً بالحركة التي أَثْرَت أسلوبه الفني، وساهمت في تأزيم العلاقة المتداخلة بين التقنية والشكل والمضمون في السينما. إن تحريك الكاميرا هو تحريك للإبداع لأن حملها يرتبط بالحرية وبالقدرة على الارتجال الفني بواسطة الصورة حيث أصبحنا أمام كاميرا متحرّرة، متحرّكة، تسير مع الناس، ترصد حركاتهم فيما يشبه تصوير المشي الذي يجعل من هذه الآلة مُسَاهِمَة في إنتاج الفعل الدرامي، ومن ثَمَّ تنقل لنا الأحداث بشكل حَيّ. فلا نحسّ، ولو للحظة، بأن الممثِّل الرئيسي في الفيلم يسير بمعزل عنها، إنه حصيلةُ مضمونٍ مركّب في قالب درامي، متأثِّر بالأساليب الفنية والحمولة السياسية والاجتماعية للمجتمع. لقد أصبحت الكاميرا من خلال توظيف أسلوب الكاميرا المحمولة شخصية متداخلة مع الشخصية الرئيسية، بل صارت ظِلَّها.
في سياق هذه الحركية الامتدادية التي يعجّ بها الفيلم، والتي برع الممثِّل حسن بديدة في تسخير قواه النفسية والإيمائية والجسدية والحركية لمسايرة أسلوب الفيلم وبلورة نَفَسِه الدرامي، لم يغفل المخرج هشام العسري الحمولة الرمزية لبعض الأشياء والوقائع، فقد كانت العَجَلَة وعاء رمزياً للدلالة على الحركة والتعدُّد والسكون الأولي والتركيب والامتداد والتركيز والطاقة التي تنبعث من المركز لتنتشر إلى الهوامش، فتتكاثف وتعود إلى المركز. أما رِجْلُ الدجاجة فتشير ضمن الرموز الإفريقية إلى الحماية الأبوية والرحمة والغريزة الأصلية. وبالإجمال، إن فيلم «هُمُ الكلاب» تأمُّل بصري لدينامية الحالة المغربية، والعربية عموماً، وهي تُصَارِعُ قيم الثبات والتحوُّل، الوصاية والحرية.. فعسى أن يكون الفن السينمائي في صميم أسئلتنا المعاصرة والراهنة.
الدار البيضاء: محمد اشويكة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق