في الوقت الذي يشهد فيه العالم تطورات متسارعة، وتتسابق الأمم والبلدان لتحقيق التقدم، نجد أن بلدان العالم العربي والإسلامي تقف عاجزة عن مواكبة هذه التطورات والدخول إلى مرحلة التقدم، هذا الأمر كان مثار اهتمام عدد من الكتاب والمفكرين والباحثين العرب وغير العرب، للبحث عن استمرار هذا التخلف المقيت والركود الحضاري والثقافي للعرب والمسلمين على وجه العموم .
وإذا كان العقل اعدل الأشياء قسمة بين الناس كما قال " ديكارت" فقد جعله واحد من أهم أساتذة فلسفة العلوم وهو المفكر المغربي "محمد عابد الجابري" مدخلا لفهم هذه الظاهرة المحيرة، فلقد تمكن من اكتشاف أسباب عدم نجاح المحاولات المتكررة لمشروعات النهضة العربية، فبينما ركزت اغلب محاولات النهضة على واحد أو أكثر من مكونات الثقافة العربية سواء أسسها الفلسفية أو أصولها العقائدية ومذاهبها الدينية أو تياراتها السياسية، فأن الجابري توصل إلى الجذر الأساسي والسبب الحقيقي لعدم نجاح مثل هذه المحاولات واستمرار حالة التخلف عند العرب والمسلمين، وذلك في مشروعه الثقافي الشامل عن "نقد العقل العربي" بأجزائه الثلاثة تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، والعقل السياسي العربي .
أولا : تكوين العقل العربي
أسم الكتاب : تكوين العقل العربي
المؤلف : الدكتور محمد عابد الجابري
الناشر : دار الطليعة للطباعة والنشر . بيروت
في البداية يحدد الجابري ما يقصده بمعني "العقل" باعتباره أداة الإنتاج النظري أو منظومة القواعد للنشاط الذهني المستخلصة من ثقافة خاصة، وهو يرى أن العقل العربي قد تكون ووضعت أسسه الأولي والنهائية والمستمرة خلال "عصر التدوين" منذ أواخر الدولة الأموية، وهو العصر الذي تم فيه جمع الأحاديث النبوية، ووضع تفاسير القرآن، وما تلا ذلك من بدء كتابة التاريخ الإسلامي، وأسس علم النحو، وقواعد الفقه، وعلم الكلام، وتشكيل المذاهب والفرق الإسلامية، فهو نقطة البداية لتكوين النظام المعرفي للثقافة العربية فيه اكتمل التكوين، ولم يتغير منذ ذلك الوقت ومازال سائدا في ثقافتنا حتى اليوم، وهو الإطار المرجعي للعقل العربي، وعلى هذا فأن بنية الثقافة العربية ذات زمن واحد، زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية .
يصنف الجابري العلوم العربية في ثلاث مجموعات هي "علوم البيان" من نحو، وفقه، وكلام، وبلاغة، ويطلق عليها أسم "المعقول الديني" و " علوم العرفان " التي تضم التصوف، والفكر الشيعي والتفسير الباطني للقرآن، والفلسفة الإشرافية، والسحر والتنجيم، ويطلق عليها أسم "الامعقول العقلي" ومجموعة "علوم البرهان" التي تضم المنطق والرياضيات والطبيعيات والميتافيزيقا، ويطلق عليها أسم "المعقول العقلي" .
علوم البيان تشكلت دفعة واحدة في مرحلة التدوين، فسيبويه والفراهيدي وضعا أصول النحو واللغة لضبط النطق بهدف الحفاظ على النص، على أساس قياسي نظري، ومصدر سماعي، وذلك استنادا إلى السماع من الأعراب الأقحاح الذين لم تمسهم حضارة، ما أدي إلى أن أصبح الأعرابي البدوي هو المؤسس والمرجع للأداة الفكرية للعقل العربي، وكان الشافعي هو المشرع والمؤسس لأصول الفقه، بل لأصول الفكر العربي كله مقيما هذا التأسيس على قياس الغائب على الشاهد، واعتبار النص السلطة المرجعية الأساسية للعقل العربي، كما سار على نفس الدرب الأشعري في علم الكلام، فقد أسس نظرية أهل السنة في الخلافة مرتكزا على نفس المنهج .
أما علوم العرفان، فلم تنشأ في عصر التدوين، وإنما هي امتداد لموروثات قديمة، باعتبارها جزء من التاريخ القومي للعرب والأقوام التي دخلت في الإسلام، ولقد كان هذا العقل الذي تحمله الهرمسية أول ما انتقل إلى الثقافة الإسلامية وذلك عبر الكيمياء والتنجيم والتصوف والافلاطونية المحدثة، وفي سياق التطورات التاريخية والصراعات المذهبية تمت المصالحة بين البيان العربي والعرفان الصوفي .
والمجموعة الثالثة التي يطلق عليها الجابري أسم البرهان، فسنجد بدايتها عند الكندي والفارابي، ولكن مرحلة الازدهار البرهاني جاءت في الأندلس والمغرب، متواكبة مع مرحلة العرفان في المشرق العربي،
هكذا كانت ظاهرة ابن حزم ذات الطابع العقلاني النقدي الذي أراد أن يؤسس البيان تأسيسا منطقيا يقينيا أي على البرهان، وكان ذلك يتمثل في رفض مبدأ قياس الغائب على الشاهد، والدعوة إلى ترك التقليد استنادا إلى الاستدلال المنطقي الأرسطي، كانت هذه بداية جديدة للعقل العربي كما يقول الجابري تواصلت مع الشاطبي وابن بأجه وابن رشد وابن خلدون، ولكن ما اكتمل تأسيس هذه المرحلة حتى أنطفأ شعاعها، وخذ يسود عصر الانحطاط واللاعقلانية .
يشير محمود أمين العالم إلى أن الجابري في هذا الكتاب يثير قضيتين : الأولي هي : لماذا انتهي الآمر بالعقل البياني العربي إلى هذه الوضعية، لقد فسر الجابري أن ذلك يرجع لاحتقار التجربة فالعقل البياني العربي لم يكن يقبل بطبيعته بالتجربة، واكتفى بالنصوص يستنبط منها القواعد والأحكام، وتوقفت العلوم العربية الإسلامية لأن البحث فيها كان بهدف خدمة الدين ولم يكن درسا للطبيعة واكتشاف قوانينها، فوفقا للنصوص كانت الطبيعة معطى آلاهي مسيرة بفعل خالقها ولا دخل للإنسان في صيرورتها ولا ضرورة لمعرفة قوانينها، وهكذا انتهى كل شيء في مرحلة التدوين، وانغلقت الدائرة وأصبحت الحركة فيها تكرس التكرار، فصار الزمن فيها زمنا مكررا معادا، زمنا ميتا .
القضية الثانية : أن تقنين العقل العربي لم يأت نتيجة لتطور منتجاته، أو من خلال العمل الاجتماعي المنتج، لأن الازدهار الحضاري العربي تحقق بفعل الاقتصاد الريعي، أما فيما يتعلق بعلوم البرهان، فأنها كانت مرتبطة بالنسق الأرسطي، الذي يقوم على مركزية الأرض وثباتها ودوران الكواكب حولها، والذي تحول إلى منظومة ميتافيزيقية، وما كان يمكن الخروج عليها إلا بكسرها كما تم في أوروبا من خلال ثورة العلم الحديث باكتشافات كوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن، وهذا لم يحدث ولم يكن من الممكن أن يحدث في الثقافة العربية الإسلامية .
ويشير الجابري إلى أن الممارسة العلمية في إطار البرهان بقيت خارج الصراع في الثقافة العربية الإسلامية، وظلت عل هامش النظم الفكرية والإيديولوجية المتصارعة، باعتبار الثقافة العربية الإسلامية نسقا مغلق لا يسمح بالخروج على حدود النص وقواعد الحفاظ عليه، وهكذا يخلص الجابري في نهاية الجزء الأول المخصص لتكوين العقل العربي إلى أن تأخر المسلمون وتقدم أوروبا كان بسبب استقالة العقل عند العرب ... في حين بدأ الأوربيون يتقدمون عندما بدأ العقل عندهم يستيقظ ويسائل نفسه، فالرأسمالية جاءت بنت العقل، حيث كانت الرأسمالية بنت الصناعة، والصناعة بنت العلم الحديث .
ثانيا : بنية العقل العربي
أسم الكتاب : بنية العقل العربي
المؤلف : الدكتور محمد عابد الجابري
الناشر : مركز دراسات الوحدة العربية
بعد أن ينتهي محمد عابد الجابري في الجزء الأول من وضع أسس البنية المعرفية العربية الإسلامية، يخصص الجزء الثاني لآليات النظام المعرفي لمختلف العلوم العربية، ووفقا لنفس تقسيمها إلى علوم، البيان، العرفان، والبرهان، فبالنسبة لعلوم البيان تتشكل الرؤية البيانية للعالم في الفكر العربي من خلال سمتين أساسيتين: السمة الأولى الازدواجية بين اللفظ والمعنى، والسمة الثانية هي انعدام مفهوم السببية .
بخصوص الازدواجية يعرض أن النظرة البيانية للمعرفة العربية هي رؤية الانفصال وليست رؤية الاتصال، حيث تمثل هذه الظاهرة مشكلة عند اللغويين والفقهاء والمتكلمين، فهم جميعا ينظرون إلى اللفظ والمعنى باعتبارهما كيانين منفصلين، فعند اللغويين تتكون الجملة الاسمية - وهي السائدة في الخطاب العربي - من أسم في أول الجملة، وخبر بعد ذلك .
وفي علم الفقه يكون الاهتمام منصبا بشكل أساسي على اللفظ، ونفس الأمر داخل علوم الكلام فالحوار الذي دار حول مشكلة خلق القرآن تبلور حول الفصل بين معاني الألفاظ باعتبارها حروفا تلفظ باللسان، وبين معاني هذه الألفاظ ، ويخلص الجابري إلى أنه لم يكن هناك اهتمام بعلاقة اللغة بالفكر ولا أي اهتمام بدور اللغة في عملية التفكير، كان ذلك بسبب انشغال العقل العربي بالنصوص، وليس بالوقائع .
بخصوص السمة الثانية والخاصة بانعدام مفهوم السببية، يرى الجابري أنه بالرغم من الاختلاف الجوهري بين موقف المعتزلة وموقف الاشاعرة، إلا أن هذا الاختلاف هو خلاف مذهبي أيديولوجي حول أسبقية العقل، وليس اختلافا معرفيا، ولا يؤسس مذهبا دينيا في المسؤولية والجزاء، فهذا الخلاف كان يدور بشكل رئيسي حول طبيعة النص القرآني، فعلى حين ركزت الاتجاهات العقلية التي يعد المعتزلة أشهر ممثليها على الإنسان وعقله في فهم النص بوصفه المخاطب والمستهدف من تعاليمه، كما استوعبت النص عل أساس أنه " فعل مخلوق" معني بالحوادث ومجريات الواقع .
نجد الاشاعرة قد ركزوا على الطرف الآخر, طرف القائل، ومن ثم كان تصورهم للنص أنه " صفه ذاتية" للقائل لا فعلا من أفعاله، وكان من الطبيعي أن تتضاءل في هذا السياق قيمة الإنسان، فعندما يقول الأشعري بأن الله خلق كل شيء، العدل والظلم، الخير والشر، فأن ذلك يعني نفيا وتقيدا للفعل الإنساني، وأنه يخلع المشروعية الإلهية على كل ما هو بشري، بمعنى أن الله هو الذي يفعل والإنسان ليس إلا منفذا لا إراديا، و يصل الأمر إلى أن يقرر الغزالي أن الصلة بين ما نعتقد أنه علة وما نعتقد أنه معلول لا تتضمن ضرورة بينهما، إذ لكل منهما ذاتيته، فلا إثبات أحدهما ولا نفيه، ولا وجوده ولا عدمه يتضمن إثبات ألآخر أو نفيه .
فلا الري متضمن في الشرب، ولا الحريق متضمن في النار، ولا الموت في حز الرقبة، وهكذا في كل الارتباطات في الطب والفلك، إذ الرابطة بين الأشياء قائمة على إرادة الله أن يجعلها على النحو المتتابع، ولا ضرورة بينهما، فالله قادر على أن يخلق الشبع دون أكل، وأن يجعل الموت دون حز الرقبة، وهكذا الأمر، هذا وقد سادت أفكار الاشاعرة خاصة بعد أن جعلها الغزالي أساسا لوقف الاجتهاد في الإسلام .
يفسر الجابري هذه الرؤية البيانية للعالم والتي تقوم على الانفصال ونفي السببية، بردها إلى الطبيعة الجغرافية للجزيرة العربية، والتكوين الاجتماعي والثقافي للعالم العربي، حيث يتكشف هذا الأصل في الطبيعة الرملية التي تقوم على الانفصال والتجاوز بين حباتها، كما يتكشف في العلاقة القبلية التي تتكون من مجموعة أفراد منفردين تجمعهم القبيلة، إضافة إلى أن العلاقات في المجتمع الرعوي هي علاقات انفصال، فالراعي لا يرتبط بغيرة في ممارسته لنشاطه الإنتاجي .
وبالنسبة لعلوم العرفان من تصوف، وفلسفة أشراقية، وتفسير باطني، فعلى الرغم من أن الجابري يقر أنها على نقيض من علوم البيان، حيث تقوم عل آلية الكشف، إلا أنه يرى أنها لم تضيف جديدا للعلوم العربية، حيث أنها تنتمي إلى الموروث العرفاني السابق على الإسلام، فالغزالي يرى أنه توصل إلى العلم أللدني من خلال المجاهدة والتواصل مع الله دون استعانة بمخلوق أوالاستفادة من نظرية سابقة، لذلك كان من الطبيعي أن يكون ضد المنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية، وعلوم الدين عنده أهم من علوم الدنيا فجواهر العلوم في البحث والتواصل مع الله، أما النظر إلى الطبيعة كموضوع للدراسة أو اكتشاف قوانينها فلم يحظى بأي قدر من الاهتمام .
أما بخصوص علوم البرهان في الفكر العربي، فقد اعتمدت على المنهج الأرسطي الذي تبنته الكنيسة وجعلته متوافقا مع تعاليم الكتاب المقدس، وقد انتقل هذا المفهوم للفكر العربي، إلا أن الجابري يرى أنه تحول في المشرق إلى مجرد آلية ذهنية شكلية يراد منها أن تحل محل آلية ذهنية أخري هي الاستدلال بالشاهد على الغائب، مما أفقده وظيفته الأصلية في التحليل والبرهان، ومما يؤكد ذلك ما قام به ابن سينا الذي حاول التوفيق بين العرفان والبرهان، وهي المحاولة التي كانت محل اهتمام كل العلماء والفلاسفة والمفكرين العرب من الكندي إلى ابن رشد وحتى الطهطاوي ومحمد عبده حيث كان شاغلهم الأكبر التوفيق بين النقل والعقل، أو بين الدين والعلم، معظمهم كان يرى النص أو الدين كمرجع ومحاولة الاستفادة من العلم بما يتفق مع قواعد الدين .
وقد ميز الجابري بين نوعين من الممارسة العلمية في الفكر العربي : ممارسة نظرية تقع بكاملها داخل المنظومة الأرسطية، وممارسة عملية ونظرية تتحرك خارج هذه المنظومة، فهو يرى أن الرياضيات والطبيعيات كما مارسها الكندي والفارابي وابن رشد كانت مؤطرة، ولما كانت هذه المنظومة قد اكتملت وانغلقت مع صاحبها، فأنه لم يكن من الممكن للعلوم الموظفة داخلها أن تتقدم أو تتجدد إلا بتكسير هذه المنظومة، ولم يكن من الممكن تحقيق ذلك إلا بعد الاعتراف بها والعمل داخلها وتفنيد فروضها، كما حدث في أوروبا من خلال ثورة العلم الحديث .
أما في الثقافة العربية فلم يكن قد تم الاعتراف بها بنفس الصورة، لأن السلطة المرجعية الدينية لم تكن في حاجة إليها، حيث كان لها عقلها البياني الخاص بها، ورغم تقدم العرب في عديد من العلوم كالفلك والرياضيات والكيمياء، إلا أن الهدف الأساسي لكل ذلك كان لخدمة الدين أو لتحقيق بعض التصورات العملية، فالتقدم في علوم الفلك كان بهدف تحديد مواعيد الصلاة واتجاه القبلة، والتقدم في الرياضيات كان يهدف لضبط عملية تقسيم المواريث .. وهكذا، وكانت اغلب الممارسات التجريبية في الكيمياء بهدف تحويل المعادن البخسة إلى المعدن الثمين، أو الحصول على ماء الحياة .
لم يتم تفعيل هذا التقدم العلمي في تحسين مستوى الحرف ولم يستثمر في ترقية الصناعات، حيث أن النشاط التجاري كان هو العمل الأساسي للعرب، ولم يدخل العلم في صراع مع الدين كما حدث في أوروبا، حيث توقف العلم العربي أمام سطوة الثقافة الدينية التي كانت ترى أن كل ماتم اكتشافه من حقائق علمية وما سيتم اكتشافه في المستقبل موجود داخل النص، وهكذا لم يساهم التقدم العلمي العربي في تكوين بنية العقل العربي، فلم يكن الصراع في الثقافة العربية الإسلامية من أجل هدم تصور للكون وبناء تصور آخر، وإنما كان الصراع في العالم العربي صراعا أيديولوجيا سياسيا بصورة مباشرة .
ثالثا : العـقـل السياسي العربي
أسم الكتاب : العقل السياسي العربي
المؤلف : الدكتور محمد عابد الجابري
الناشر مركز دراسات الوحدة العربية
بالجزء الثالث يكون الجابري قد استكمل دراسته المطولة ومشروعه الفكري الكبير عن "نقد العقل العربي"، فهو يبدأ بتوضيح بعض المفاهيم التي يرى أنها ستساعده في أغناء تعريف" العقل السياسي" فمفهوم " اللاشعور السياسي" والذي يتمثل في أنواع من السلوك تصدر عن الفرد بدون إرادة، وهي تختلف عن ردود الفعل الآلية في كونها هادفة تلبى حاجات معينة وتنزع إلى تحقيق رغبات خاصة، ومع ذلك فهي لا تخضع لمراقبة "الأنا" .
وإذا كان " سيجموند فرويد" قد أولى أهمية خاصة لـ " اللاشعور" واعتبره مسئولا عن قسم كبير من سلوك الفرد البشري، فأن "يونغ" يعطيه أبعادا أخري، تجعله يضم ليس فقط غرائز الفرد ومكبوتات طفولته، بل أيضا بقايا نزعات وعواطف جمعية تنتمي إلى ماضي البشرية، لتشكل نوعا من " اللاشعور الجمعي" .
ويشير الجابري إلى أن ريجس دوبرى Regis Debray ميز بين مفهوم اللاشعور الجمعي وبين مفهوم " اللاشعور السياسي" حيث جعل من الأخير مفهوما مستقلا بما أنه يقتصر على الجماعات المنظمة، كالقبيلة والحزب والأمة، كما فرق بينهما من حيث أن الأول يكتسي طابعا سيكولوجيا، بينما يتخذ الثاني طابعا سياسيا أيديولوجيا .
ويوضح دوبري فكرته في إطار شرح مفهوم اللاشعور السياسي حيث يرى أنه يوجد في جذور الظاهرة الاجتماعية قوة غير مراقبة، قوة تبدو في الظاهر لا عقلانية تفسد قوانين المنطق،تشكل الديانات والأيديولوجيات أكثر أعراضه وضوحا، وهذه القوة لا تتحكم في تأثيرها وفعلها لا المخططات ولا الإرادة الصريحة للأفراد، أنها شيء من قبيل السحر تنتمي إلى عالم الأسرار .
ويشير الجابري إلى أنه لا يستعير مفهوم " اللاشعور السياسي" من دوبرى بنفس مضمونه، ذلك لأن دوبرى يكتب وهو يفكر في المجتمع الأوروبي الذي أصبحت فيه العلاقات الاجتماعية من نوع العشائرية والطائفية تقع خلف العلاقات الاقتصادية، أما في مجتمعاتنا العربية، فلأمر يكاد يكون بالعكس من ذلك تماما، فالعلاقات الاجتماعية ذات الطابع العشائري والطائفي لا تزال تحتل موقعا أساسيا وصريحا في حياتنا السياسية، بينما العلاقات الاقتصادية / علاقات الإنتاج، لا تهيمن على المجتمع إلا بصورة جزئية .
وهكذا فإذا كانت وظيفة مفهوم "اللاشعور السياسي" عند دوبرى هي أبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي بالمجتمعات الأوروبية المعاصرة، فإن وظيفته بالنسبة إلينا ستكون بالعكس من ذلك أبراز ما هو سياسي في السلوك الديني، فالتجربة الحضارية العربية الإسلامية قديما وحديثا يكون فيها النسق الاجتماعي مؤسسا للنسق السياسي، والسياسي يؤسس الأيديولوجي، والأيديولوجي يؤسس التمذهب الديني .
المفهوم الثاني هو " المخيال الاجتماعي "Imaginaire Social وقد عرفه " ماكس فيبر" بكونه نشاطا يحمل معنى يقوم بشد الفاعلين الاجتماعيين فينظمون سلوكهم بعضهم إزاء بعض على أساسه، وبعبارة أخري فإن الممارسة الاجتماعية، بوصفها تنظم شتات تصرف الأفراد وتوجهه نحو أهداف مشتركة، تفترض وجود بنية معقدة من القيم والاندماج المحمل بمعاني ودلالات،
يخلص الجابري من ذلك إلى أن مخيالنا الاجتماعي العربي هو الصرح الخيالي المحمل برأس مالنا من المآثر والبطولات وأنواع المعاناة، الصرح الذي يسكنه عدد كبير من رموز الماضي مثل امرئ القيس وحاتم الطائي وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وهارون الرشيد وألف ليلة وليلة وصلاح الدين والأولياء الصالحين وأبي زيد الهلالي وجمال عبد الناصر، إضافة إلى رموز الحاضر مثل المارد العربي والغد المنشود .. الخ .
وهكذا يمكن تلمس أن العقل السياسي كممارسة وكايدولوجيا، يجد مرجعيته في المخيال الاجتماعي وليس في النظام المعرفي، فهذا المخيال هو مجال اكتساب القناعات الذي تسود فيه حالات الأيمان والاعتقاد، وهو الذي يعطى للايدولوجيا السياسية في فترة تاريخية بنيتها اللاشعورية .
المفهوم الثالث هو "المجال السياسي" ففي إطار المقارنة بين التطورات السياسية في أوروبا، حيث قامت دولة المؤسسات التي تستمد شرعيتها من إرادة الشعب وتعبر عن المصلحة العامة نتيجة عملية تاريخية أسفرت عن ظهور مجال جديد هو مجال " السياسي" نجد استمرار دولة الطاغية ومصلحة القبيلة وجمود الحراك السياسي هو السائد في المجتمعات العربية
ولمزيد من الوضوح يشير الجابري إلى أن ما يميز النظام الرأسمالي أنه يجعل المجتمع الذي يقوم فيه ينقسم انقساما واضحا إلى بنيتين : بنية تحتية تمثل القاعدة الاقتصادية التي تشكل الصناعة عمودها الفقري، وبنية فوقية قوامها أجهزة الدولة ومؤسساتها والإيديولوجية المرتبطة بها .
أما المجتمعات التي لم تتطور الأوضاع فيها إلى مرحلة الرأسمالية، فهي لا تعرف التمايز بين البنيتين، بل الغالب فيها هو تداخل عناصرها بصورة تجعل المجتمع برمته عبارة عن بنية كلية واحدة، إنها السمة التي تميز " مجتمعات ما قبل الرأسمالية" ويرى الجابري أن هذا الفارق يستحق التوقف عنده وتوضيحه، ليس بسبب أن المجتمع العربي القديم والحديث ينتمي إلى هذا النوع من المجتمعات، بل أيضا لأن طرح العلاقة بين الفكر والواقع سيبقى طرحا غير مفيد إذا لم يكن قائما على تصور واضح لوضعية المجتمع .
لذلك نرى الجابري يعارض الاتجاهات الماركسية التقليدية، ماركسية ستالين التي حاولت طرح قوانين المادية التاريخية باعتبارها قوانين شمولية عامة قادرة على تفسير واقع كل المجتمعات في كل العصور، لتوضيح ذلك يعود الجابري إلى ما تنبه إليه الفليسوف المجري الماركسي " جورج لوكاتش " Lukacs الذي يرى يعترض على الطابع الإطلاقي للمادية التاريخية، حيث أن قوانينها وأحكامها كما صاغها ماركس تنطبق على نظام اجتماعي معين ونط إنتاجي محدد، أما بخصوص مجتمعات ما قبل الرأسمالية فإن الوضع فيها يختلف تماما، ومن ابرز ما يطرحه " لوكاتش" العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية في المجتمعات السابقة على الرأسمالية،
فإذا كان الانقسام الفعلي والواضح في المجتمع الرأسمالي إلى طبقات، فإن الأمر السائد في هذه المجتمعات هو الانقسام إلى جماعات، تتمايز عن بعضها بالحسب أو بالنسب والجاه والمال أو الحرفة أو المذهب الديني، فهي جماعات تحركها من وراء وفي الخفاء المصالح الاقتصادية . نعم، ولكن بما أن الاقتصاد لم يكن قد تطور إلى درجة تجعل منه المحدد للعلاقات، فإن الوعي الذي يحرك الصراع بين هذه الفئات والجماعات لم يكن الوعي الطبقي، بل "الوعي الفئوي" العصبية القبلية، التعصب الديني أو الطائفي .
ولمزيد من توضيح العلاقة بين الفكر والواقع في حضارات الشرق القديم؟ وكيفية ربط التراث الفكري بالواقع الاقتصادي والاجتماعي في هذه الحضارات يشير، الجابري إلى الرؤية التي طرحها " ايون بانو Ion Banu " الذي يؤكد على وحدة البنية التحتية والفوقية في هذه المجتمعات الخراجية، حيث تقوم فيه وحدة الدولة/ المجتمع، بسبب ما تقوم به الدولة من مهام اقتصادية، وأن الصراع فيه يتم بين الأرستقراطية والفلاحين، هذه الوحدة تشكل في ذهن إنسان الشرق القديم وحدة شاملة، وحدة البلد/ الكون، فالبلد يملكها الحاكم الفرد المستبد وهو أيضا الإله، وهكذا تتشكل ايدولوجيا قوامها منظومة من المفاهيم المركبة والمتداخلة توحد وتجمع بين (1)الألوهية (2) الطاغية المستبد (3) الوظائف السياسية المستمدة من القانون الأخلاقي الديني (4) نظام الكون من تجدد الخصب والنماء والمياه بإرادة الحاكم الإله .
ولاستكمال الصورة حول العلاقة بين الفكر والواقع يعرض الجابري إطلالة على نظرية " ميشيل فوكو Michel Foucault " حول مفهوم "الراعي والرعية"
فالراعي في الفكر الشرقي القديم يمارس سلطته على "قطيع" فلأله يملك العباد قد يعطيهم الأرض وقد يعدهم بها، أما الآلهة عن الإغريق فأنهم يملكون الأرض، والعلاقة بين البشر والآلهة تمر عبر الأرض، الآلهة يتصرفون في الناس بواسطة التحكم في الفصول والخصب . مهمة الراعي جمع شمل الرعية وقيادتها، أما مهمة الرئيس السياسي هو العمل على أن يسود الأمن داخل المدينة .
الفرق الجوهري الذي يلضم كل ذلك يظهر في كيفية ممارسة السلطة ودوافعها، فرئيس المدينة، يجب أن تكون قراراته لصالح الجميع، وبدافع الواجب، إذا حاد فهو رئيس سيء، وإذا قام بالواجب من أجل المصلحة العامة فثوابه يكون في تخليد الشعب له، أما الراعي فهو يسهر على قطيعه وضرورة تدبير طعامه وشرابه، بينما القطيع نائم، وهو يفعل ذلك بدافع الإخلاص وليس بسبب الواجب .
في النهاية يرى الجابري أن العودة لابن خلدون تفيدنا في فهم الواقع حيث أنه قدم ثلاثة مفاتيح هي السلوك العشائري، التطرف الديني، والاقتصاد الريعي، وظفها في قراءته للتجربة الحضارية العربية الإسلامية إلى عهده، فلنعمل بدورنا على توظيفها توظيفا جديدا يستجيب لمشاغلنا الفكرية المعاصرة، ويمكن صياغة هذه المفاتيح أو المحددات التي نقترح قراءة التاريخ السياسي العربي بواسطتها في ثلاثة نطلق عليها الأسماء التالية : القبيلة، الغنيمة، العقيدة .
فالقبيلة : طريقة في الحكم أو السلوك السياسي أو الاجتماعي يعتمد على "ذوى القربى" بدل الاعتماد على " ذوى الخبرة والمقدرة" ممن يتمتعون بثقة الناس أو يكون لهم تمثيل سياسي نتاج انتخابات ديمقراطية حرة، ليس المقصود مجرد قرابة الدم، بل القرابات ذات الشحنة العصبية مثل الانتماء لمدينة أو جهة أو طائفة أو حزب .
والغنيمة، التي تقوم بدور العامل الاقتصادي في المجتمعات التي تعتمد على " الخراج" و"الريع" وليس على العلاقات الإنتاجية، والمقصود هنا جميع ما كانت الدولة في الإسلام تأخذه من المسلمين وغيرهم كجباية، من فيء / غنائم الغزو والحروب، وجزية / ما يفرض على غير المسلمين من ضرائب، وخراج / الضرائب المفروضة على الأرض المفتوحة، فالغنيمة ما يفرضه الغالب على المغلوب من إتاوات وضرائب دائمة أو مؤقتة، سواء كان الغالب أميرا أم قبيلة أم دولة .
أما العقيدة فليس المقصود بها مضمونا معينا على شكل دين موحى أو أيديولوجيا، وإنما مفعول على صعيد الاعتقاد والتمذهب، أنه المنطق الذي يحرك الجماعة ليس على أسس معرفية، بل على رموز تؤسس الإيمان والاعتقاد، فالإنسان يؤمن بمعزل عن الاستدلال وعن اتخاذ القرار، وقد يتساهل فيما يخص المعرفة ولكنه لا يقبل أن تمس عقيدته، قد يضحى بحياته من أجل معتقده ولكنه لا يستشهد من أجل إقامة الدليل على صحة قضية معرفية .
المهم في كل عقيدة، ليس ما تقرره من حقائق ومعرف، بل المهم هو قوتها وقدرتها على تحريك الأفراد والجماعات وتأطيرهم داخل "القبيلة الروحية" من هنا الارتباط العضوي بين العقيدة وبين الفعل الاجتماعي والسياسي .
"القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة" محددات حكمت العقل السياسي العربي في الماضي ومازالت تحكمه بصورة أو بأخرى في الحاضر، والنتيجة احباطات ونكسات فتحت الباب لعودة المكبوت، وهكذا عادت العشائرية والطائفية والتطرف الديني والعقائدي لتسود الساحة العربية، ليجعل حاضرنا مشابها لماضينا، فأصبحت "القبيلة" محركا للسياسة، و"الريع" جوهر الاقتصاد، و"العقيدة" دافعا للفعل وتبريرا للقمع .
ويخلص الجابري من هذا الاستعراض الذي يعتبر تتويجا لمشروعه النقدي للعقل العربي إلى تحديد المطلوب في الآتي :
أ . تحويل "القبيلة" في مجتمعنا إلى لا قبيلة : إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي، من خلال بناء مجتمع التمايز يكون فيه واضح .
ب . تحويل "الغنيمة" إلى اقتصاد "ضريبة" أي تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي .
ج . تحويل "العقيدة" إلى مجرد رأي، فبدلا من التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة، يجب فسح المجال لحرية التفكير والاختلاف والتحرر من سلطة الجماعة المغلقة، وبالتالي التعامل بعقل اجتهادي نقدي .
إن بقاء "الواقع السياسي العربي" على ما هو عليه من "التركيب" أو دخوله مرحلة الهرم ليس أمرا حتميا، فالإصلاح ممكن دوما، لأن الشؤون الإنسانية "إرادية" فالإصلاح مسألة أرادة، بل مسألة وجود أو عدم وجود قرار سياسي .
هكذا ينهي الفليسوف الجابري خلاصاته، وكائن الواقع تغيره الأمنيات والأفكار،
فتحى سيد فرج
الحوار المتمدن-العدد: 2262 - 2008 / 4 / 25 - 10:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق