مسارات عرفانية - عبدالكريم سروش - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الخميس، 24 أبريل 2014

مسارات عرفانية - عبدالكريم سروش

مسارات عرفانية بين القبض والبسط والصراطات المستقيمة

لماذا هناك تفسيرات مختلفة للتاريخ؟ هل هناك إمكانية لكتابة وصف تاريخي نهائي لحدث ما؟ هل يمكن إزالة القداسة التاريخية للنص؟ إلى أيِّ مدى يمكن الاحتفاظ بنص متعال على الواقع دون البحث في جذوره وهويته المعرفية؟ كانت هذه وغيرها تساؤلات حاضرة في ذهن المفكر والفيلسوف العرفاني الإيراني “عبدالكريم سروش”، كما يبدو ذلك في نظرياته المبثوثة في كتبه كـ”القبض والبسط”، و”الصراطات المستقيمة”، و”العقل والحرية”، وغيرها.
الفيلسوف الإيراني عبدالكريم سروش
عبدالكريم سروش حسن حاج فرج الدباغ هو من مواليد 1945م في طهران، تلقى تعليمه الديني في (قم)، واختلط بملاليها وأسيادها، جمع بين الخلفية الشرعية والقراءات الفلسفية مع ذوق صوفي عال بإبحاره في أشعار جلال الدين الرومي والشيرازي، تأثر سروش بالسيد محمد حسين الطبطبائي، حيث قال عنه بعد قراءته لكتابه (مبادئ الفلسفة النظرية) “نشعر أن العالم كله تحت أجنحتنا”. وممن تأثر بهم أيضًا في مرحلته الأولى آية الله مرتضى مطهري تلميذ السيد الطبطبائي صاحب الشبكة الواسعة في المؤلفات الأصولية والعقدية والفلسفة الإسلامية.
درس الصيدلة التحليلية في لندن، وفلسفة العلوم في جامعة شيلسي في السبعينات قبل اندلاع الثورة الإيرانية، في سنة 1977 وهو لا يزال في لندن، نشر أول كتاب له بعنوان: (ما هو العلم؟ ما هي الفلسفة؟) ثم تبعه بأعمال ومحاضرات عن تاريخ فلسفة العلم، وقد قوبلت بترحاب واسع في إيران.
بعد بضعة شهور من الثورة الإيرانية سنة 1979م رجع عبدالكريم سروش إلى إيران ليعينه آية الله الخميني على رأس اللجنة الثقافية التي عنيت بتنقيح المناهج وأسلمتها من شوائب الغزو الفكري بعد إغلاق النظام الثوري للجامعات، استمر في هذا العمل لمدة أربع سنوات ليستقيل بعد ذلك، وتتحول اللجنة إلى المقر الرئيس للثورة الثقافية، ليتعين في معهد الدراسات الإنسانية والاجتماعية في جامعة طهران، وفيها ألقى أول محاضرة له، ونالت شهرة واسعة، كانت بعنوان : (في أي عالم نعيش اليوم؟).
ومما نظم أفكاره -كما يقول هو- تدريسه لمادة علم الكلام الجديد التي تبحث في العلاقة بين الإنسانيات والعلوم وبين الدين، كانت هذه المادة جزءًا مما يدرسه في جامعة طهران.
ولذلك لاقت أفكاره التجديدية حول اللاهوت الديني قبولاً بين فئة الشباب والطبقات المتعلمة، فهناك كثيرون حانقون على الحكومة الدينية، ويتطلعون لفضاء علماني يمارسون فيه استقلاليتهم الشخصية من دون وصاية أو استبداد فكري.
في سنة 1986 افتتح معهد يهتم في نشر كتب ومطبوعات على أشرطة كاسيت تنتقد المعرفة الدينية، وتدعو إلى التعددية ونشر التنوير، حري عن القول أن أفكار سروش ألقت اهتمامًا كبيرًا في إيران ليس فقط بالكتب المطبوعة، بل أيضًا في أشرطة الكاسيت أيضًا.
منذ عام 2000م انتقل سروش خارج إيران، وأصبح أستاذًا زائرًا في هارفارد وجامعة يال، وعدد من الجامعات العالمية في ألمانيا وهولندا يدرس في الفلسفة الإسلامية، ويقدم آراءه التي انتشرت وأثارت الانتباه في الدوائر البحثية.
حصل سروش على جائزة ايراسموس عام 2004 كواحد من أهم الشخصيات المؤثرة في العالم الإسلامي إلى جانب فاطمة المرنيسي وصادق جلال العظم، كما اختارته مجلة “التايمز” عام 2009م ليكون من أهم مائة شخصية مؤثرة في العالم.

المعالم الأولى - القبض والبسط

كانت البداية بعد وصول الخميني للسلطة، فالاستحواذ الذي فرضته الحكومة الجديدة على كل دوائر الحياة، وسعيها لتكريس رؤاها الدينية باستخدام أجهزة الدولة، وتغيير معالم المجتمع، وإنشاء سلطة أيدلوجية تتحكم بالوعي في مؤسسات التعليم، وتسعى لتطبيق أجندة تتحكم بالمعرفة.
في مراحل تطور نظرية سروش (القبض والبسط) كان الدافع الأساسي الذي ذكره سروش في أكثر من محل هو تساؤله: لماذا هناك تفسيرات مختلفة للتاريخ؟ هل هناك إمكانية لكتابة وصف تاريخي نهائي لحدث ما؟ هذا ما قاده في بحثه لاحقًا في نظريته بأن الأحداث التاريخية هي منفتحة حيال التفسيرات والقراءات المتعددة، ومن خلال قراءاته في فلسفة العلم التي سمحت له بإدراك الأبعاد الخلفية لتطور العلوم، وتأثير المباني النظرية على المعرفة الدينية، فلا يمكن للمعرفة الدينية أن تكون بلا مبادئ مسبقة تحكم توجه قراءتنا للنص وتصوراتنا حياله، ولا يمكن أيضًا الوصول للمعنى الأصلي للنص، فالمعنى الأصلي للنص كذكر النحل يموت فور إخصابه.
نشرت هذه الأفكار في مقالات في مجلة “كيهان” الإيرانية على مدى سنتين 1988-1989 وجمعت لاحقًا في كتاب، وكانت أول ترجمة للعربية سنة 2003م من دار الكتاب الجديد، ترجمتها دلال عباس.
كتاب القبض والبسط لسروش
يقرر سروش أن المعرفة الدينية لا تكون بلا مبادئ مسبقة تحكم توجه قراءتنا للنص وتصوراتنا حياله، ولا يمكن أيضًا الوصول للمعنى الأصلي.
يقول سروش: “القبض والبسط هي ذلك النوع من المعرفة البشرية الخاضع للتطور والتغيير والتبدل بتفاعله مع العلوم الأخرى، أي أن المعرفة الدينية لأي إنسان وفي أي عصر تنقبض وتنبسط بحسب مجموع معلوماته ومعارفه البشرية، وأينما وقع تغير في جزء سيصيب التغير للكل”. ويكمل حديثه في نفس السياق: “إن المعرفة الدينية -كأي معرفة أخرى- هي حصيلة جهد البشر وتأملهم، وهي دائمًا مزيج من الآراء الظنية واليقينية، ومن الحق والباطل، ولا مجال لإنكار تطور هذه المجموعة وتكاملها. نحن لا نقول إن الوحي الذي أتى به الأنبياء يكمله البشر، إنما نقول إن فهم البشر لمفاد الوحي يتطور. ولا نقول إن هذا التحول كان مقترنًا -في كل مكان وزمان- بظهور آراء قيمة ومحكمة، ولكننا نقول إن السير في الطريق الصعبة غير المعبدة، والسقوط والنهوض، والصلح والحرب، والخطأ والصواب، والتخطئة والتصويب، هو الذي يصحح المسار وييسر الارتقاء”.
تكمن القيمة المعرفية للقبض والبسط كونها تفرق بين الدين وبين المعرفة الدينية، بين الشريعة وبين فهمنا للشريعة، بين الدين لذاته في أصله، وبين الدين كما يظهر لنا، وتدرس جديًّا علاقة المعرفة الدينية مع العلوم الأخرى، فالمعرفة الدينية تندرج تحت دائرة العلوم المستهلكة معارف الدرجة الثانية التي تبني نفسها على المباني النظرية للعلوم المنتجة (الفلسلفة- علم الإنسان- الاجتماع الخ..).
يؤكد سروش: “النصوص الدينية هي نصوص صامتة، وكل من ادعى الحياد في قراءتها كما هي فقد فشل، فقراءتنا لها دائمًا مرتبطة بمفاهيم مسبقة خارجة عنها لاختلاف الزمان وتبدل الأحوال وغرض القارئ من قراءته، فالحقائق تختلط وتتعدد لمقروء واحد، فالنص لا يحمل معه وعلى أكتافه المعنى، فهو رهين بالمعارف من حوله، والأسئلة الجديدة التي يعجز عن إجابتها تدعونا إلى تبني خطاب جديد يدرك المعارف الجديدة في دوائر علم الاجتماع والإنسان والأديان . فعجز الخطاب القديم عن الإجابة على الأسئلة الجديدة واستباقها بأجوبة تطَرد باطراد الزمان يحكي لنا عن هويته البشرية التاريخية”.
وفي حديثه عن تطوير الخطاب الديني وتجديد بنيته الداخلية يقول إنه لا يكون بالحفاظ على نفس الآليات القديمة التي صنعت الخطاب، فالنظر إلى الدين يجب أن يتزود بعلوم من خارج الدين، كالهرمنوطيقيا التي تهتم بالتأويل، وفلسفة العلم كابستمولوجيا معرفية.
“إن المعرفة الدينية في جميع مراحلها التاريخية، وعلى طيلة المسار التاريخي للفكر الديني كانت محفوفة ومحصورة بالأفكار البشرية من خارج الدين، وهذه القصة لم تكن بدعة في هذا الزمان، بل هي قصة التاريخ البشري، وليست قصة دين الإسلام، بل قصة كل دين من الأديان، ولذلك إذا تقرر إيجاد تحول في الخطاب الديني الداخلي، فيجب العثور على مرتكز يقع خارج هذا الخطاب، ومن هناك يتم تمرير هذا التحول والتحرك في آليات الفكر الديني”.
وينتقد الطريقة الماكسيماليسية في التفكير الديني وهي توقع الحد الأعلى من الدين واقتباس كل شيء من الدين، وتلوينه بلون الدين، والسعي لاستخرج كل شيء من حاويته، وهذا ما أجاب عنه سروش عندما سأله أحد المحاورين: لو أمكن وضع مقارنة بين أعمالك وأعمال علي شريعتي، أجاب بأن “شريعتي أراد أن يجعل الدين شموليًّا مستحوذًا على الحياة، أما خطابي فهو يريد أن يجعل الدين محصورًا بنطاقه الفردي، فشريعتي يشبه سيد قطب في خطابه الثوري وجاهلية العالم، ووضعهم للدين في دور أيديولوجي يحرِض على الثورة والتعبئة ولا يسعى للحقيقة”.

جدلية العقل والحرية

ولسروش أيضًا كتب عديدة اهتم بها السيد العراقي أحمد القبانجي كـ”العقل والحرية”، حيث يجادل فيه سروش من أجل إعادة العقل الذي طمر تحت أفكار الدعوة للاتباع وتعطيل العقل باعتباره باب هوى النفس والشيطان، فاتباع النص وما أراده لنا الشارع الحكيم نجاة وعمرانًا للحياة.
يدعو سروش في جدله بأن العقل والحرية من جنس واحد، فأن تكون حرًّا يستلزم أن تفكر بحرية إذ إنه لا جدوى من النضال ضد الحاكم المستبد، والاحتفاظ بسلطة تحاكم الوعي، وتحدد الصواب من الخطأ، ليصبح العقل عبارة عن أوعية فارغة تسكب فيها المعرفة وتتعطل حاسته النقدية وقدرته على الإبداع ، فالنصوص لا تتكلم وهذا ما يتردد كثيرًا في كتب سروش بأن النص صامت لا يتكلم، وهو رهين بالمعرفة القبلية لقارئه، فالاحتكام إليه احتكام سلبي يسلب الإنسان قدراته الذاتية الكامنة.
إن فهمنا للدين يرتبط بالعالم القديم، ولكن فهمنا ورؤيتنا للإنسان يرتبطان بالعصر الحديث والإنسان الجديد، وعندما نضع إحدى هاتين المقولتين إلى جانب الأخرى تبرز حالة التناقض.

عبدالكريم سروش
القيم والفضائل والرذائل مستقلة بذاتها عن التعاليم الدينية، فالأديان لا تعلم الناس الحسن والقبح، بل وظيفتها الكشف عنها.
وخطأ العقل لا يصحح إلا بعقل آخر، فتنوع البشر كفيل بإيجاد الحلول، وابتكار أفكار جديدة تصلح وتكمل الفراغات في عقل ما، فحتى لو وصلت إلى الشمس ستظل بحاجة إلى نور النجوم، وهو ما يؤكده سروش بأن السياسة والعلم والفن هي ذوات مستقلة عن الدين، والدين لا يدخل في صميم تعريفاتها.
فلا ينبغي التفكير في قضايا الماضي؛ لأن الماضي أصبح في طيات العدم، فالإنسان الذي يفكر في قضايا الماضي كأنه ميت، ولذلك ينبغي للإنسان إزاحة قضايا الماضي ودفنها، وكذلك بالنسبة إلى المستقبل فهو عدم أيضًا، فلا ينبغي التفكير فيه، بل يجب أداء حق الحال الحاضر والعمل بمقتضيات الوقت الحالي. وهذا يشبه بالضبط أنك تعيش في فصل الشتاء، فلا بد من العمل بمقتضى هذا الفصل.
فالقيم والفضائل والرذائل مستقلة بذاتها عن التعاليم الدينية، أي أن الأديان لا تعلم الناس الحسن والقبح، بل وظيفتها الكشف عن أن هذه الأعمال محبوبة لله تعالى، وتلك الأمور القبيحة مكروهة ومبغوضة من الله تعالى، وهذا هو ما اكتشفه الأنبياء، فالأخلاق تتطابق من جهة تاريخية مع الدين، بمعنى أن القيم الأخلاقية ترتبط تاريخيًّا بالدين، ولكنها لا تستند منطقيًّا إلى الدين.
فكثير من القضايا التي ارتبطت وأقحمت في دائرة الدين -وهي أساسًا قضايا غير دينية، مثل حكاية كروية الأرض، أو كراهة أكل لحوم الإبل، أو حتى في دائرة الأخلاق كتحقيق العدالة- هي قضايا غير دينية، فالسعي للعدالة هي قضية في أذهان العقلاء حتى لو لم يقم الدين بتعزيزها.. فالعدل ليس دينيًّا، بل إن الدين عليه أن يكون عادلاً.
والفقهاء بدافع خدمة الدين حاولوا إثباته بأدوات عقلانية، وهو ما يستلزم أن يدخل معنى خارجي على الدين ذاته، فيصبح الدين مستقلاً عن الدين الأصلي، ليتشظى الدين في قضايا انتمت للحقوق، وبعضها دخل في دائرة الفلسفة، وهذا هو عين تقطيع وتمزيق بدن الدين..

الذاتي والعرضي في الدين

في نظرية الذاتي والعرضي في الدين يقول سروش: “إن عوارض الدين هي تلك التي يمكن أن تستبدل، على العكس من الذاتيات، أهداف النبي هي ذاتيات دينية، لكن من أجل أن يعبر عن تلك النوايا ويجعلها قابلة للفهم، يستعين النبي بـ (14 عارضًا) من ضمنها لغة معينة، مفاهيم معينة، مناهج معينة. كل ذلك يحصل في زمن محدد، ومكان محدد، ولشعب محدد، وبمواصفات ذهنية وفيزيائية محددة. نشر الدين يواجَه بردود أفعال وأسئلة معينة، والاستجابة لها يتم بإعطاء أجوبة معينة… بذلك فإن هذه العوارض الكثيفة تخفي بين طياتها الجوهر الثمين للتدين، ومن أجل كشف هذا الجوهر الثمين، ليس لدينا خيار غير تجريده من تلك القشور السطحية.
يفسر معنى العرضي وهو الصورة لذلك المضمون الذاتي التي يمكن أن تكون على شكل آخر، وفي دراسته للقرآن يقول: إن اللغة العربية وثقافة المجتمع العربي وتصوراته الوجودية وتعليقه على الأحداث التاريخية، وإجابته على أسئلة المؤمنين الآنية كلها تندرج تحت العرضي في الدين، وهي صورة وشكل زماني مؤقت ليس من البنية الأساسية للدين.
فالعرضيات أصالتها محلية ومرحلية، ولا ترتقي لتكون ذاتًا أصالية أزلية، وفشلنا في إدراك ذلك، وترجمة المضامين الذاتية بعرضيات جديدة تحمل في مضمونها التحولات المعرفية والظروف الزمانية في المجتمع والإنسان والدين يؤدي بنا إلى إنهاك المضمون وخسارته في بعض الأحيان.
هذه العرضيات هي حلول تاريخية يخاطب فيها القرآن المجتمع العربي في ذلك الزمان، تعامله مع المرأة في قضايا الحدود والرق والمواريث، ولا تنفصل ولا يمكن ترحيلها لتكون حلولاً شاملة لكل الأزمنة؛ لأنها مرتبطة بظروف سببت وجودها.
فاللغة العربية هي عرض من عرضيات الدين، فالخطاب القرآني تابع لخصائص اللغة العربية، وانعدام وجود بعض الألفاظ في اللغة صعّب من تمرير معاني الوجود والكينونة.
في نظرية الذاتي والعرضي في الدين يقول سروش: “إن عوارض الدين هي تلك التي يمكن أن تستبدل، على العكس من الذاتيات، أهداف النبي هي ذاتيات دينية، لكن من أجل أن يعبر عن تلك النوايا ويجعلها قابلة للفهم، يستعين النبي بـ (14 عارضًا) من ضمنها لغة معينة، مفاهيم معينة، مناهج معينة. كل ذلك يحصل في زمن محدد، ومكان محدد، ولشعب محدد، وبمواصفات ذهنية وفيزيائية محددة. نشر الدين يواجَه بردود أفعال وأسئلة معينة، والاستجابة لها يتم بإعطاء أجوبة معينة… بذلك فإن هذه العوارض الكثيفة تخفي بين طياتها الجوهر الثمين للتدين، ومن أجل كشف هذا الجوهر الثمين، ليس لدينا خيار غير تجريده من تلك القشور السطحية.
يفسر معنى العرضي وهو الصورة لذلك المضمون الذاتي التي يمكن أن تكون على شكل آخر، وفي دراسته للقرآن يقول: إن اللغة العربية وثقافة المجتمع العربي وتصوراته الوجودية وتعليقه على الأحداث التاريخية، وإجابته على أسئلة المؤمنين الآنية كلها تندرج تحت العرضي في الدين، وهي صورة وشكل زماني مؤقت ليس من البنية الأساسية للدين.
فالعرضيات أصالتها محلية ومرحلية، ولا ترتقي لتكون ذاتًا أصالية أزلية، وفشلنا في إدراك ذلك، وترجمة المضامين الذاتية بعرضيات جديدة تحمل في مضمونها التحولات المعرفية والظروف الزمانية في المجتمع والإنسان والدين يؤدي بنا إلى إنهاك المضمون وخسارته في بعض الأحيان.
هذه العرضيات هي حلول تاريخية يخاطب فيها القرآن المجتمع العربي في ذلك الزمان، تعامله مع المرأة في قضايا الحدود والرق والمواريث، ولا تنفصل ولا يمكن ترحيلها لتكون حلولاً شاملة لكل الأزمنة؛ لأنها مرتبطة بظروف سببت وجودها.
فاللغة العربية هي عرض من عرضيات الدين، فالخطاب القرآني تابع لخصائص اللغة العربية، وانعدام وجود بعض الألفاظ في اللغة صعّب من تمرير معاني الوجود والكينونة.
كتاب العقل والحرية لسروش
المعرفة الدينية -كأي معرفة أخرى- هي حصيلة جهد البشر وتأملهم، وهي دائمًا مزيج من الآراء الظنية واليقينية، ومن الحق والباطل.
يصل سروش لنتيجة مفادها أن الثقافة العربية والوعي الاجتماعي العام هي من تشكل الخطاب القرآني، “فالحور العين تحملان عيونًا سوداء وهنَ مقصورات في خيام، والحيوانات التي ذكرت في القرآن كالجمل والحمير هو ما تدركه مخيلة الإنسان العربي، والنظريات التي تحدثت عن الطب والنجوم هي آتية من الوعي العربي وإن كانت صحيحة. فالقرآن ليس بكتاب فلك، والنبي لا يمتهن الطب”.
وأيضًا الأسئلة والقصص التي حدثت في زمان النبي هي من عرضيات الدين مرحلية ليست من ذاتيات الدين، وكما هو الحال مع العقوبات الشرعية التي لو عاش النبي في زمننا لأصبحت ترتهن لوعي الإنسان الحديث.
ولذلك “لا جدال في أن الإسلام لو نزل في اليونان أو الهند أو بلاد الروم بدلاً من الحجاز لكانت عرضيات الإسلام اليوناني والهندي المتغلغلة إلى أعماق طبقات النواة المركزية تختلف اختلافًا كبيرًا عن الإسلام العربي، كما هو الإسلام الإيراني والهندي والإندونيسي اليوم، وبعد قرون من التحولات والتفاعلات، تمثل أنماطًا من الإسلام تختلف عن بعضها في اتساقها و بيئاتها ونتائجها، إلى جانب المشتركات فيما بينها، ولا تقف التباينات عند تخوم اللغة والظواهر، بل تمتد إلى أعماق الوعي والثقافة الدينية).
وفي حديثه عن الدين العلماني يقول سروش: إن أعظم وظيفة، وأكبر تكليف لعلماء الدين وأرباب المذاهب في كل مجتمع من المجتمعات البشرية هي أن يمنعوا من وقوع الدين في أيدي المغرضين ليكون أداة وذريعة بأيدي المتعصبين فيحملوا على إلغاء التعدد، فالدين -كما يشبهه الرومي- بمثل الحبل الذي قد يحملك إلى أعلى البئر، أو ينزلك إلى أسفله، لا يقودك دائمًا إلى بر الأمان إن كنت تنوي استخدامه لغايات دنيئة أو لاحتكار قراءته وتفسيره..

الصراطات المستقيمة والتعددية الدينية

يتحدث سروش في كتابه (الصراطات المستقيمة) الذي يدعو فيه إلى شرعية التعددية الدينية، “فليس هناك نظرية حقيقة في مقولة الهداية، لا التشيع هو الإسلام الخالص، ولا التسنن ولا الأشعرية هي الحق المطلق، ولا الاعتزال، ولا المالكية، ولا الزيدية، ولا كافة المسلمين في معرفة الله وعبادته عارون وخالون من الشرك، ولا قاطبة المسيحيين في إدراكهم الديني خال منه، كلا، بل لقد ملأت الدنيا الهويات غير الخالصة، فلم يتربع الحق في جهة من الجهات دون جهة أخرى، لتكون باطلاً محضًا، وعندما نذعن لهذا الأمر فسوف يتسنى لنا هضم الكثرة بشكل أفضل. فأكبر واضع للتعددية هو الله الذي أرسل أنبياء متعددين، فتجلى لكل واحد منهم، وبعثه إلى مجتمع معين، ينقبض فيه معنى الدين، وينبسط بناءً على الظروف المعرفية الزمانية لذلك المجمتع”.

جرأة .. وردود فعل

مواقف سروش الجريئة والمتجاوزة للأعراف والتقاليد المعتبرة في علوم اللاهوت الديني لم تمر بسلام وهدوء، في لقاء صحفي يتحدث سروش قائلاً : “عندما تقرأ القرآن عليك أن تشعر أن شخصًا بشريًّا يتحدث إليك، تلك الكلمات والتصاوير والأخلاق والشرائع هي قادمة من عقل بشري”. كان هذا ضمن حوار أجرته معه في مجلة “زمزم” الهولندية عام 2004م عندما كان أستاذًا زائرًا في معهد “أي أس أي أم” في لايدن، تسبب تصريحه هذا بأن كفره أحد الملالي في طهران، واعتبره مرتدًا خارجًا عن الدين.
وأعلن المخرج السينمائي الإيراني مجيد مجيدي، کفر سروش من خلال ورقة قرأها في حفل تقديم جائزة له عن فلمه السينمائي «غناء البلابل»، وأبدى دهشته من السکوت المطبق تجاهه، وجاءت المواقف ما بين مؤيدة ومخالفة للمخرج السينمائي من بينها موقف المرجع الشيعي الإيراني الشيخ جعفر السبحاني الذي أعلن تأييده له من خلال اتصال هاتفي به، وشفع موقفه هذا بمقال مفصل أکّد فيه على خروج سروش من حظيرة المسلمين، وکرر نصيحته القديمة لسروش بالعودة إلى أحضان الإسلام.
أحمد القبانجي
اهتم السيد العراقي أحمد القبانجي في نقل مؤلفات عبد الكريم سروش إلى العربية، ولاقت صدىً وانتشارًا واسعًا.
وعند العرب كتب الباحث اللبناني علي حرب معلقًا :” قد يكون من الظلم لسروش أن نتعامل مع أطروحته كجهد فكري لا يضيف جديدًا إلى معارفنا حول النص والمعرفة، أو حول الدين والوحي. ذلك أن هذه الأطروحة تكتسب أهميتها من غير وجه: الأول من جهة سياسة الحقيقة، إذ هي تشكل في السياق الثقافي الراهن، وفي إيران بالتحديد، محاولة لكسر التحجر العقائدي، ومواجهة الإرهاب الفكري الذي يمارسه حراس العقائد وشرطة القداسة. الثاني من جهة تحليلات الحقيقة، ذلك أنه وإن كان القول بنسبية المعرفة الدينية ليس بجديد، فإن سروش يحاول إغناء هذه الأطروحة وتوسيعها من حيث معالجته لها، بالتجديد في حقل التناول ومجاله، أو في الآليات والوسائل، أو في البراهين والشواهد، أو في الآراء والاجتهادات.
وهنا لا ننسى أهم الأسماء التي اهتمت بأطروحات سروش في العالم العربي، وساهمت في نقلها وترجمتها، هو السيد العراقي أحمد القبانجي، حيث كان له دور فاعل في تشكيل تيار عربي يحمل أفكار سروش ومنطلقاته المعرفية، ورؤيته التعددية العرفانية تجاه الدين. حيث يشرف حاليًّا على منتدى بيت الوجدان الثقافي، وله مؤلفات عن الإسلام المدني والمرأة والإعجاز القرآني، ويدعو إلى تدين وجداني ينضوي تحته المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي دون تلك الانتماءات العقدية التي تتبناها الجماعات المذهبية مما يؤدي إلى حروب عقائدية، ويعطي أداة للحركيين والطائفيين لينشروا خطابهم المهيمن للسيطرة على المجتمع.

بقلم : سامي عبدالله - باحث سعودي -المجلة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق