مصابيح أورشليم - رواية عن إدوارد سعيد - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأربعاء، 9 أبريل 2014

مصابيح أورشليم - رواية عن إدوارد سعيد

مصابيح أورشليم - بين سردية الواقع وسردية الخيال
د. حسن ناظم

 يكتب علي بدر، في رواية مصابيح أورشليم، طروساً، فمواجهة البياض المحض صنو المستحيل، ولا مندوحة من التدوين على المدوّن كمعادل لبناء واقع على واقع، واستحالة بناء واقع علىفراغ. تتغشى الطرس المدوّن أصلاً مخايل طرس آخر، نابع من وتابع إلى واقع آخر، وهناك يحتدم صراع بين الطروس، التدوينات، الكتابات، كمعادل لاحتدام العنف في الواقع، عنف الكتابة على الكتابة يعادل عنف إقامة مدينة على أنقاض مدينة، جامع على كنيسة، أو كنيس على جامع.
كلاهما إدوارد سعيد وجيرار جينيت يتعاونان على وضع خطة للرواية. لكن ما يزيده علي بدر على فكرة الطرس لدى جيرار جينيت وتكذيب السردية لإدوارد سعيد هو أمله في أن الشروع في عملية تبهيت الأصل النصّي يفترض عزماً على تبهيت الواقع المرفق به رجاءَ تسطيعِ أصلٍ آخرَ وواقع آخر. لكن الأصليْن يتداخلان، ولا تكون الثمرةُ المرجوّة من التداخل هي الثمرةَ التي أريد اجتناؤها: أي ما يسمّيه الروائي هدم سردية قديمة وإقامة سردية أخرى أو إحياء واحدة بهُتت أو ماتت، وهل من سبيل إلى ذلك؟ جلّ ما يفعله علي بدر، باعتقادي، هو محاولة استنساخ نسخة من السردية وبثّ الاضطراب فيها، في النسخة السردية، وليس الأصل الذي أفضى إلى واقع عاتٍ وثابت ولا إمكانية بادية لتهديمه.

تُفتتَح الرواية بتقرير بدا منبتَّ الصلة بالرواية. والإمكانية الضيّقة لإدراجه في لُحمة الرواية، كما بدا لي، تتأتى إذا عددناه خاتمة حتمية لمقدمات الرواية التي ستُكتب لاحقاً، إنها الختام المفترض للأزمات التي تتوطن في عالمنا العربي، وهي بسط للمآل والمنتهى. وما المنتهى سوى هذا الانشقاق والخلاف المستحكميْن بين المثقفين العراقيين في الموقف من الإطاحة بنظام صدام حسين ودخول القوات الأميركية العراق. من جهة أخرى، يمكن التنويه بالخلاف ـ الذي شاع بين المفكر إدوارد سعيد، الفلسطيني (الذي يمثل شخصية الرواية الأساسية هنا) والمفكر كنعان مكية، العراقي الذي يدعو إلى محاربة الدكتاتوريات العربية بالعنف وتغييرها بالقوة ـ حول قضية تدخّل الولايات المتحدة الأميركية العسكري لتغيير نظام صدام حسين الدكتاتوري، ومن ثمّ قضية نشر الديمقراطية بالقوة في الشرق الأوسط الذي لم تستطع أنظمته حتى تلطيف شموليتها ودكتاتورياتها بأيّ نمط من أنماط التعددية. لقد وقف إدوارد سعيد وقفة لا رويّة فيها ضدّ التغيير الأميركي العسكري للنظام القمعي بالعراق، ومهما تكن مسوغات موقفه، فقد نظر شطر من العراقيين إليه كاصطفاف مع الدكتاتورية، وهنا وضع نفسه في موقف شبيه بالموقف الذي سمّاه هو نفسه "الانتحاري" في مذكراته. فهو وصف في مذكراته اصطفاف القيادة الفلسطينية إلى جانب صدام حسين في غزوه للكويت بـ"الموقف الانتحاري"(1)1.
وبأيّ حال، يبدو المآل ضاغطاً وبادياً، حتى أنه لا مدعاةَ كبيرةً لإلحاق ذلك الجزء قسراً برواية عبر ستّ وستين صفحة بالضبط. هذه الصفحات، كما أحسب، ليست عضواً أصيلاً في جسم الرواية، فضلاً عن أن انشقاق الأنتلجنسيا يجب أن ينطلق، في الأصل، بين العراقيين، ولاحقاً بين العرب والعراقيين، غير أن الرواية تصرّ على تصويره بدءاً بين "أيمن مقدسي"، الفلسطيني الأصل والعراقي المولد، و"علاء خليل" العراقي أصلاًَ ومولداً. قد يكون "التقرير" ألصقَ برواية عن بغداد، لا عن القدس، يكون تمهيداً مهمّاً لها، في الأقل سيعبّر عن انشقاقاتها الأخرى، طائفيةً كانت أو حزبية. فهو لم يتمكّن من التعبير عن ذلك في القدس التي تعيش حالة أخرى مختلفة تماماً.

لقد نوّهت عابراً في كتابي أنسنة الشعر (2)1 بعلي بدر وتبنّيه محاولة هدم السرديات عبر كتابة الرواية. إذ سعى في روايته الأولى بابا سارتر إلى تمحيص سردية الستينيات العربية، ونقدها، وتفكيك مزاعمها. إن الفكرة المركزية هي أن المحو المحض مجرد وهم. فالإصرار على فكرة محاربة السرد بالسرد لإزالته وتصفيته وإبادته، وإحلال الآخر مكانه، إنما هو إصرار عبثي. إذ لا وجود لسردية محضة. لقد سرّب علي بدر مفاتيح روايته قبل نشرها، كان ذلك في حوار، في عمّان في 2/10/2005، فقد لخّص الأطروحات الأساسية لروايته: فكرة "نقل الملكية"، وفكرة "اختراع التاريخ بالسرد" خدمة لمصالح معينة، وفكرة "الهجنة والمنفى"؛ وكلها أطروحات كبرى تنتظم فكر إدوارد سعيد؛ الشخصية المحورية في الرواية. ومن عادة علي بدر أن يسرّب الأصول الفكرية لرواياته، وأعتقد أن ما يشيع من تعبيرات تتناول رواياته بالنقد أو حتى بالعروض الصحفية إنما تستهدي بتسريباته عبر الحوارات بما فيها تعبير "تهديم السردية". بل هو يحاول أن يوحي بمكانة لعمله بربطه بأعمال أخرى مشهورة، فهو يضاهي مثلاً روايته بيوليسيس (ص14)، مصابيح أورشليم يوليسيس، وأورشليم دبلن. يسعى علي بدر، متأثراً بأفكار إدوارد سعيد، إلى أن يحوّل أفكار الأخير إلى سرد روائي. يربط أفكاره بالقدس ليتمكن من معالجة مسألة "نقل الملكية" روائياً. فالقدس مدينة نُقلت ملكيتها مراراً، فصارت مصابة بإشكال نقل الملكية، إشكال التغيير: "أورشليم هي المدينة الضائعة... هي الحلم... والكلّ يبحث عنها... هي اليوتوبيا..." (ص14)، البحث عن القدس بحث عن بغداد أيضاً بالنسبة للمنفيين العراقيين، هي البحث عن اللاشيء أيضاً، عن الذي لم يعد استرداده ممكناً، فالمنفيون لا يستردون مدنَهم حتى لو استردوها فعلاً؛ لأنها تتغير. إن البحث عن أورشليم، عن مدينة، عن المدينة، كما تقول الرواية، هو بحث عن "الفقدان الأبدي" و"الخسران المطلق" وعن "الزوال المستمر" (ص16).

تبدأ الرواية لديّ في الصفحة السابعة والسبعين: "إلتفت إدوارد سعيد إلى يائيل وهو يقرأ الخريطة...". الرواية عن إدوارد سعيد، وتبدأ باسمه. وصلة الأخير بالقدس مدينةً وقضيةً هي المحور الأساسي للرواية. تتحول القدس، في رواية مصابيح أورشليم، إلى "طرس" مثلما يرغب الروائي نفسه. تُكتب وتُمحى، تنكتب وتنمحي، في تبادل للأدوار، وتداول بين شعوب مختلفة، قادمين من قارات مختلفة: أوربا بمواجهة آسيا، الغرب بمواجهة الشرق، بناء جديد وأنقاض، إدوارد سعيد وثيودور هرتزل (أو يصير إدوارد سعيد "اليهودي التائه"، بينما يستقر عاموس عوز ليكتب رواياته. إنه تبادل الأدوار)، كلهم يكتبون المدينة ويمحونها، كلهم مارسوا الكتابة والمحو على وفق ما تخيّلوه من سُنّةٍ للتاريخ ومنطق أو "مسيرة" إن شئتم. هنا تحاول الرواية أن يكون لها دور في هذه الكتابة وذاك المحو. تحاول أن تفعل شيئاً من منطلق الدخول في الصراع، وليس من منطلق الوصف. إذن، أرى أن النيّة معقودة على الهدم والبناء، ولكنه هدم لأيّ شيء، وبناء لأيّ شيء؟ تلك ستراتيجية يراد لها أن تكون تمهيداً لكتابة واقع جديد انطلاقاً من محاربة واقع قائم، غير أن الواقع القائم لم يعد قائماً سردياً، وهنا تقع الرواية في هوّة لا قرار لها، فهي تعبر هذه الفجوة بالوهم. فمحاربة النسخة التي يعدّلها الروائي على وفق أغراضه لا تعني إمكانية تهشيم الأصل، وليس بإمكان "سحر" الرواية أن يعبر هذه الفجوة ليمتدّ تأثيرها إلى الأصل الثابت واقعاً وسرداً. إنها كتابة مستحيلة مهما تغلّفت بأوهام الموضوعية في "إدارة"، كتابة، صراع.
تستوطن الروايةَ فرضيةٌ عصية. فرضية ترى إلى مبتدأ الدولة فكرة، ولذا يمكن تهديمها بفكرة. وهي، في الواقع وبعبارة أدقّ، تبدأ بأيديولوجيا، بمنظومة من الأفكار مدعومة بقوة وسلطة كبيرتين، وبمال وفير، ورجال أشدّاء. وبنقص أيٍّ من تلك العوامل لا تقوم الدولة. فأين منها فكرة في رواية؟ من هنا نقول إن الرواية تنسخ (بكلا معنييْ النسخ: التزوّد بصورة طبق الأصل، والإلغاء والإبطال) واقعاً وسرداً، وتخلطهما، فتضيع الحدود وتتداخل، وتبهت، وعلى هذه الحدود الضائعة، والمتداخلة، والباهتة، أي على النسخة يتمّ تشييد فكرة أخرى يراد لها أن تدمّر السابقة عليها بمحض تشييدها، بلا قوة داعمة. وهنا مكمن المعضلة التي لا حلّ لها.

إن مآل التاريخ الآن غيره سابقاً. ومنطق السيرورة مختلف عمّا كان عليه سابقاً. ومع التغيرات العميقة في منطق التغيير والتداول والتبادل، صار من الممكن طرح سؤال فلسطين بطريقة جديدة، لاسيما في عالم تُطبق عليه ثقافة التسوية والتطبيع والتعايش، عالم ماض على وفق خطة التعدد الثقافي، وثقافة حلّ النزاعات سلمياً. من هذه الزاوية، تبدو الرواية، في جانب منها، مسكونة بحنين إلى منطق "المقاومة" و"الكفاح". ويبدو سعيُ علي بدر سعياً يائساً للهدم كما يرى، فهو يقع في هوّات الخلط بين هدم السردية وهدم الواقع، كلّ ذلك يدار بسردية تبقى حبيسة الخيال. سردية الواقع الماحقة تتخلّف إلى الوراء حين يتمّ الالتجاء إلى الرمال الأثيرة، الرجراجة، الخدّاعة، وحين يُؤثَر البدء بالحديث من أعماق العزلة، ومن خفق الريح بين الأذنين، ومن هواجس "التربية الوطنية" القديمة والعمياء. ذلك جليّ في تماهي الرؤية، في مواطن عديدة، مع خطاب الإعلام بكلا طرفيْه المتصارعين: "النصر للحجر لا الأسلحة الفتاكة" (ص142)، وصورة الفلسطيني كـ"مخلوق غريب..." (149)، وصورة الإسرائيلي الذي يراجع نفسه ليكتشف أن إسرائيل غيتو كبير (ص120)، والقدس نفسها التي كانت أورشليم لكن "أخذها المسلمون وسمّوها القدس" (134)، "موسى وشعب إسرائيل يهاجرون من مصر ويدخلون فلسطين... إدوارد وآنطي ميليا يخرجان من فلسطين ويدخلان مصر..." (ص98). "إدوارد هو عوليس... أورشليم هي دبلن..." (244). "اليهودي يعيش في غيتو... الغيتو في نفسه... ولذلك بنى الجدار العازل، إنه يريد أن يعيش في غيتو أبديّ... لا يريد الآخرين مطلقاً... إنه يكره كلّ شيء..." (ص246). يهاجر اليهود ويخرج إدوارد، والمهاجر إلى بلد غير الخارج منه، فالأول، في سياق كهذا، ينتزع الملكية والأحقية والتاريخ من الثاني، وأخيراً اليأس المبطّن بالتفلسف عبر الحكي عن طريق لا توصل إلى شيء، هي الطريق إلى فلسطين، بالأحرى الطريق إلى فلسطين لا توصل إليها، فأنت حين تصل إليها لا ينتابك الشعور بأنك فيها، ولكن لماذا لا تشعر بأنك فيها، ببساطة لأنك فيها ولستَ فيها؛ لأن فلسطين في إسرائيل (ينظر، ص97). أما أورشليم، أما القدس، فلم تكن يوماً لأحد (ينظر، ص227)، ومن هنا ربما يكون مردّ عنوان الرواية مصابيح أورشليم، فاختيار الاسم الفينيقي قد تكون له دلالة أن هذه المدينة ليست لأحد، إذ لا وجود للفينيقيين الآن، ولا نسبَ مؤكداً لكلّ مدعٍّ بالأصل الفينيقي، فهم بلا وريث محدد، والمدينة لا وريث لها ولا مالكَ أصليّاً. والرواية  تصرّح بهذا الاختيار لاسم المدينة (ينظر، ص262)، وتتبنى الاسم الفينيقي القديم بدلاً من الأسماء الأخرى: يبوس، وإيليا كابتولينا، وبيت المقدس، والقدس.
إنه محض تبادل للأدوار قسراً. هو الارتحال، قسراً أيضاً، في جهات مختلفة، متعاكسة، تبادل للتيه، يصبح التيه تيه الفلسطينيين، وليس تيه بني إسرائيل، يتحول إدوارد سعيد في الرواية إلى اليهودي التائه، فيما يجد عاموس عوز استقراره ليقطن الأرض ويكتب الروايات (ينظر، ص99). "موسى وشعب إسرائيل يهاجرون من مصر ويدخلون فلسطين... إدوارد وآنطي ميليا يخرجان من فلسطين ويدخلان مصر..." (ص،98). إنه التبادل القسري، لأن قدر أورشليم ليس فقط ألاّ تكون يوماً لأحد، بل أن تكون مفتوحة أبداً، مغزوّة أبداً، منذ اليونان، والرومان، والفرس، والعرب، إنها مدينة لا تعود أبداً، فلا أحد يمكنه العودة إليها، حتى إذا تمكّن من العودة إليها.

إن فنّ استدراج شخصيات السرد الإسرائيلي الحديث (يائير وإيستر مثلاً)، وتفكيك بناها السردية، وتكييفها طبقاً لغرض جديد، وإعادة تركيبها، سيخلق سرداً جديداً، وهو سرد سيعكس بتركيبه الجديد الوجهَ الآخر للأزمة، أو لنقل بشكل مباشر، الوجه الفلسطيني المعذّب، وسيبيّن ضمناً الوجه الإسرائيليّ الملوّث بجرائم بشعة. هذا الفنّ ينتج أروع بناء للسرد؛ هو ذلك البناء المتداخل الذي تمتزج فيه الشخصيات والأزمنة والأمكنة. تختلط فيه القدس بالقاهرة، وكلتاهما بالتاريخ القديم، دمج إدوارد سعيد وهو صبي في القاهرة يعزف البيانو قبالة فتاة الشبق بكارثة 1948، وبالهرب الكبير من القدس أمام العصابات الصهيونية، وبالتاريخ التوراتي الذي ينفخ في اليهود روح العداء المستحكم ضد الأغيار "كلّ شخص ليس منكم هو من أعدائكم" (ص109)، بقصيدة اللورد تنيسون "مجدوا هجومهم... الجنود الستمائة" التي تتكرر كثيراً في الرواية (ينظر، ص186-187، 200، 225، 246-247 مثلاً). لكن من المهم هنا أن ندقق في واقع البناء والتقويض المفترضيْن في الرواية. في الحقيقة، لا يقوّض البناءُ الجديدُ البناءَ الأسبق. قد تصحّ هذه الفرضية حين قوّضت إسرائيل فلسطين واقعاً ونصّاً سردياً أو، في الواقع، نصوصاً سردية. لأنها كانت من العنف والشراسة والعزم بما يكفي لنسف سردية العرب وواقعهم كليهما. وقد أعطت مؤشرات ووقائع على هذا الأمر في العام 1948 والعام 1967 ممهّدةً له بسرود ممتدة على طول تاريخهم. لكن محاولة تقويضية روائية هي محاولة محكومة بالنقص، محكومة بأن تكون مبتورة، بلا أذرع ولا أرجل، إنها محاولة "فم مرّ"، يلجأ إلى السحر التعزيمي متوهّماً غرز المعزِّم الإبرَ في الدمية تفضي إلى إيذاء المعزَّم ضدّه. البنية التي جرى تفكيكها بنية مستنسخة، ولذا أمكن تفكيكها، أما الأصل فثابت قويّ، وما تقويض النسخة كتقويض الأصل، ولا يضير الأصل أن نسخةً منه قُوِّضتْ، وتلوعب بها، مادام الأصل محفوظاً.
إذا عددنا إسرائيل سردية محضة فستكون مجرد وهم، فهناك فلسطين منقوشة على صخرة إسرائيل الصمّاء؛ فلسطين بوصفها سردية تكافح لتجد في الطرس مكاناً أسوةً بإسرائيل. رواية مصابيح أورشليم تنظر إلى الواقع بوصفه سردية، ثم تشرع بتفكيك هذه السردية مركوبةً بوهم تفكيك الواقع. وهنا مكمن سرّ عبثيتها، ولاجدواها، وفشلها في ملء الفجوة التي يخلّفها الواقع. وما من شيء مؤكد، وواقعي، أكثر من السؤال الذي تقيمه الرواية، على نحو خاطف: أين خارطة فلسطين؟ وما من جواب شافٍ بأكثر من جواب الرواية نفسه: "في إسرائيل طبعاً" (ص154). وإذا سلّمنا جدلاً بتحقق تبهيت النسخة الإسرائيلية من جدل السرد والواقع، فإن النتيجة ليس تسطيع الممحوّ والمغيّب، ولا إمكانية لإعادة المندرس في الطرس إعادة تامة، إذ ستدخل عليه خطوط النسخة الباهتة، ومن ثمّ لا يكون هناك انطماس وإظهار، بل صياغة شيء جديد من كلا عمليتيْ الطمس والإظهار.
يبثّ علي بدر نفسُه دواعي كتابة الرواية، رواية مصابيح أورشليم، ويقيم تكذيباً سردياً للسردية كحرب لا هوادة فيها ضدّ دولة إسرائيل، كان العنوان العريض للحوار الذي أشرت إليه سابقاً هو: "أسعى لتدمير الأسطورة الإسرائيلية بأخرى مقابلة". في النسخة الإسرائيلية التي تحاربها الرواية، يتمّ تكييف أدوات لاستعمالها في بناء هيكل فخم لفكرة مستحيلة. إنه يعبر فجوات لا يراها في النسخة رأي العين، ثمّ يقول عنها إنها مجرد فسحات للهواء لن تؤدي إلى هاوية. ومن ثمّ يبني جسوراً معلقة في الهواء بلا دعائم سوى الخيال المحلّق. إنه أخيراً يقفز من أوراق روايته إلى الأرض متوهّما إمكانية تماثل مهارة استخدام القلم واستخدام السيف. السرد يواجه السرد، وما دامت إسرائيل كانت قد تأسست انطلاقاً من "أسطورة أدبية... من فكرة رومانتيكية... نشأت من رواية... وبالتالي يجب إعادة كتابتها عن طريق الأدب أيضاً... يجب تكذيبها عن طريق الرواية... الرواية التي هي أفضل حرب... طالما كلّ الحروب خسرت وفشلت لماذا لا نجرّب الرواية... إدوارد سعيد كان أخطر حرب على إسرائيل، أخطر من كلّ الحروب الفاشلة التي خضناها... كان يعتقد أن أفضل ما يفعله هو إعادة سرد الأساطير لتكذيبها... لتدميرها... لكشف خداعها... لكشف زيفها" (ص13)، فلسوف يكون بالإمكان مواجهة الدولة بالسرد. غير أن هذا الداعي يحمل في تضاعيفه فجوة مؤكدة، تلك هي القفزة من مواجهة السردية إلى مواجهة الدولة الواقعية. فالدولة لم تعد سردية، هي قائمة هناك، على الأرض، جبّارة، وعاتية، ولديها القدرة على تدمير كلّ سردية مضادة بكونها واقعاً ملموساً. إن ضرب الأسس سواء أكانت أيديولوجية أو أسطورية أو دينية، لم يعد يفتّ في عضد الأشياء العينية الواقعية. ومع ذلك، يعاود علي بدر بثّ دواعي كتابة رواية مصابيح أورشليم ليذكر دائماً بمنهجه في الكتابة الروائية منذ بابا سارتر ومحاربة سردية الستينيات العربية. فعلي بدر ـ ابن حقبتنا الثمانينية بالعراق، وربيب ولعنا المبكر بالمناهج الحديثة بنيويةً وتفكيكيةً وأسلوبيةً ولسانيةً وغير ذلك، والدارس لظواهر ثقافتنا العربية (حتى أن بعض ملامح شخصية علاء سعيد تعكس شخصية علي بدر وجيلنا كلّه؛ جيل الثمانينيات المأخوذ بالصرعات الحديثة، بالنثر والشعر المكتنف بالأسرار الزائفة لقصيدة النثر ـ أقول علي بدر لا يسعُه أن يكتب من دون غاية جليّة هي أقرب إلى غايات البحث منها إلى الدلالة الكبرى التي تجلّيها أيّ رواية معتبرة. ولديّ إحساس يكبر مع الأيام، ومع قراءة كتابات علي بدر، مؤداه أن ثمة ملامحَ مهمة من رواياته تشي بكونها بحوثاً نقدية ضلّت طريقها الأكاديمي، واستُلّت منها شبكة المنهجيات، ولُطِّفت بوقائع الحياة بدلاً من الوقائع النقدية، والشخصيات الروائية بدلاً من الشخصيات النقدية والفكرية والشعرية. إنه نمط من الصراع المحتدم النادر الذي قاساه علي بدر برأيي حين رغب في تطويع الباحث فيه إلى الروائي. أليس مفتتح رواية مصابيح أورشليم بحثاً خالصاً؟ أنظر إلى الصفحات 16، 17، 39. أليس هناك تنويه بمعجم (ينظر، ص12)، أليس هناك حقاً (تخطيطات وأفكار ويوميات إنسكلوبيدية للكتابة) ملحقة بالرواية؟ إنه هاجس البحث الذي يطوّعه علي بدر إلى رواية، والعكس غير صحيح.

تقاوم رواية مصابيح أورشليم الشرط التاريخي مقاومة عبثية. غير أن هذه المقاومة العبثية هي ما يبقى منها حيّاً ومثيراً: صراع الكلمات ذو الزخم الهائل متولد من زخم الواقع العنيف وقسوته. ثمة إثارة أخرى أيضاً تقع في ذاك التقفي المثابر لإدوارد سعيد عبر خلق مناخ جديد لقسط من حياته، وجعله على مقربة من شخصيات إسرائيلية روائية. شيء واحد أضرّ بهذه الستراتيجية الجديدة هو أن السرد الذي قاومته مصابيح أورشليم هو سرد لا يتمتع بسطوة عالمية مثل ذاك الذي قاومه إدوارد سعيد نفسه في كتبه. فهذا الأخير كان يرى أن سيرورة التاريخ عبر صراع النصوص لا تتمّ إلاّ بمواجهة نصوص عبقرية وعاتية في تأثيرها؛ لأنه يرى أن النصّ الهائل التأثير هو الذي يستدعي ويتطلب المواجهة، وهو الذي يحفّز على اختراقه(3) لكن علي بدر لا يتاح له هذا الظرف. وفضلاً عن ذلك، فالنصوص الذي وظّفها في عمله نصوص مجهولة بين العرب، وتلك حصيلة الجهل الذي ما زلنا نعاني منه، وتلك "مأثرة" الحكومات القومية التي رأت أن ترجمة النصوص العدوّة جريمة، فبات القارئ العربي جاهلاً جهلاً مريعاً بكتابة مَنْ يُذيقونه الهوان يومياً.
لديّ إحساس بأن الرواية تريد لنفسها أن تكون سلوى وسلواناً، تضخّ في المزاج العربي العكِر والغاضب والكئيب والمتكدر أملاً ووعداً بكلّ ما فشل العرب في تحقيقه، وفي ثناياها تستيقظ الرغائب اليائسة لتراود ذلك المزاج حتى ليكون:
"الرصاص تحوّل إلى حلوى، الدم الذي يلفّ خاصرة القتيل تحول إلى ماء. البكاء تحوّل إلى ضحك. مدينة توقفت كلها عن الحركة إزاء طيور تحلق على السطوح... اللاجئون يعودون إلى أرضهم، إلى الشجرة المسقية، إلى الزيتون والبرتقال، اللاجئون يعودون إلى مراكب الصيد في البحر، إلى البيوت المنحوتة في الأرض، ورجال داوود يرمون الأسلحة ويستقبلون الساكنين القدماء ويصبحون هم الضيوف...." (مصابيح أورشليم، ص218).

ختاماً، بودّي أن أخلُص إلى شيء يتعلق بخُلاصة الرواية، وهي ما طرحه أيمن مقدسي، وذكره الراوي حين كان يسرد ظروف تبنّيه كتابة هذه الرواية. فما طرحه الفلسطيني المولود ببغداد هو، من وجهة نظري، الخلاصة الحقيقية للأفكار التي تعالجها الرواية، وهي خلاصة لا تمنح فكرة الطرس المكان المجلّى، بل تمنح ذلك المكان لفكرة "توهّم حقيقة"، أو "إمكان وجود"، أو احتمال ممكن" (ص13). فالراوي يصرح بعدم وجود "مواقف ثابتة، أو أشياء جاهزة، أو رؤى حقيقية" (ص13). لكن في هذا تعارضاً مع فكرة حروب السرد، وإلغاء السردية بالسردية، ذلك أن "توهّم حقيقة" قد يفضي إلى صنعها وتثبيتها، ليزول عنها لاحقاً معنى "توهمّ" وتظلّ "الحقيقة" حسب. وهنا مكمن معضلة الرواية، فهي تتخطى هذه الهُوّة بين السرد والواقع، وتسبح في فضاء السرود المتنوعة والمتصارعة لاغيةً العينيّ، وماضيةً إلى "أصل النشأة"؛
"لأن إسرائيل نشأت من أسطور أدبية... من فكرة رومانتيكية... نشأت من رواية... وبالتالي يجب إعادة كتابتها عن طريق الأدب أيضاً... يجب تكذيبها عن طريق الرواية... الرواية هي أفضل حرب... طالما كلّ الحروب قد خرست وفشلت لماذا لا نجرّب الرواية... إدوارد سعيد كان أخطر على إسرائيل، أخطر من كلّ الحروب الفاشلة التي خضناها...
كان يعتقد أن أفضل ما يفعله هو إعادة سرد الأساطير لتكذيبها... لتدميرها... لكشف خداعها... لكشف زيفها..." (مصابيح أورشليم، ص218).
أعتقد أن رواية علي بدر تستكمل مشهد الهزيمة في الحروب الفعلية، ولكن على مستوى حروب السرد. إنها هزيمة سردية في كونها مهرباً، واستعراضاً للمتناقضات (نكبة فلسطين مقابل تأسيس إسرائيل، تيه الفلسطينيين مقابل توطين اليهود، إلخ)، والمهرب غرض من أغراض ما تفترضه الرواية كاتباً أصلياً لها: أيمن مقدسي الفلسطيني. فهذا التائه الجديد كان قد طرده التائه القديم من أرضه، فصارت أرضُه "سليبة"، واستوطنه الألم، فاخترع علاجاً لدائه من الكلمات التي صارت لديه عالماً، والأحداثُ في الكلمات حياةً، والأسماءُ كينونةً وواقعاً (ينظر، ص17).
إن حرب السرود في الرواية تخترع الزمن الماضي لتعود إلى الأصل، إلى النشأة الأولى، وتحارب من موقع متأخر زمانياً، تحارب سرداً تخلّلَ مفاصل الحاضر ورسم معالمَه، وفجّر تناقضاته، وهزّ أسسه.
.......................................................................................
(1) 1 ينظر، خارج المكان، دار الآداب، بيروت، 2000، ص267.
(2) 1 ينظر، أنسنة الشعر، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2006، ص46.
3 إدوارد سعيد، فرويد وغير الأوربيين، دار الآداب، بيروت، 2004، ص38.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق