“متاهات الوهم” ليوسف زيدان - داوود الجلنداني - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 1 فبراير 2016

“متاهات الوهم” ليوسف زيدان - داوود الجلنداني


يعد كتاب (متاهات الوهم) الكتاب الأول من سلسلة ثلاثة كتب (دوّامات التدين) و (فقه الثورة) ويتألف كل كتاب من سبعة فصول هي عبارة عن معاودة للنظر وإعادة البناء والتعديل في بعض الأفكار المنشورة بالمقالات التي عمد الكاتب على نشرها طوال مسيرته الثقافية في الصحف المصرية. ويستحضر الكاتب في مقدمته للكتاب عبارة “العماد الأصفهاني” التي نوّه فيها الى “إنه لم يُرَ أحدٌ كتب كتاباً وعاد إليه إلا وقال: لو غيرتُ هذا لكان أحسن، ولو عدّلتُ ذاك لكان يُستحسن، وهذا دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر”، وهو من المعاني العميقة التي ارتكز عليها يوسف زيدان في مراجعاته وإضافاته على مقالاته المنشورة. وتدور صفحات هذا الكتاب بالقارئ حول مواضيع مختلفة أثّرت على العقل الجمعي العربي والمصري وأدت الى ما أسماه المؤلف حالة من “الخَبل العام” بسبب ارتكاز هذه المواضيع على اعتقادات وهمية تحمل في مجملها صفة الخرافة وغير خاضعة للتمحيص والتدقيق بالنظر الى الرؤى والأفكار والزوايا الأخرى التي إن أُخذت في الاعتبار لكانت ساهمت في إثراء المعرفة وأوصلت إلينا الأفكار والتاريخ الخالي من المغالطات ومن الاعتقادات التي قد تروجها بعض المؤسسات الرسمية النظامية أو الدينية وهو ما يُنتج الوعي في الأخير.
فصول الكتاب :
يتحدث الكاتب في الفصل الأول (أوهام المصريين) وهي الأوهام التي يختصون بها عن غيرهم أو يشاركونهم إياها، وهي باختصار الاعتقاد الخيالي بصحة أمر ما بحيث يؤمنون به ويبالغون في التصديق به وتأكيده من دون أن يكون هناك أي دليل أو إثبات عليه. ويضرب لنا المؤلف أمثلة على ذلك ومنها ما كانت تعتقده العرب في الماضي من وجود طائر عملاق (العنقاء) يستطيع حمل فيلٍ أو (الغول) الذي يفتك بالمنفردين ولا يخرج إلا في الليل، ومن ثم أضافت العرب (الخل الوفي) الذي أعدته من المستحيلات الثلاثة باعتباره وهماً يتمناه الأصفياء في الأصدقاء والمُحب في المحبوب. يتطرق بعد ذلك يوسف زيدان الى الحالة المصرية بشكل خاص حيث يُعرّج الى مسألة الخلافة والبابوية باعتبارها من المسائل التي تمت اثارتها من بعض الرجال المتحدثين باسم الإله في الأرض -كما وصفهم المؤلف- وهي من الأمور التي تُفرّق بين المسلمين والمسيحيين في هذا البلد أكثر مما تجمعهم، حيث يرى بأن البابوية والخلافة هما فكرتان تعودان الى ما قبل المسيحية والإسلام وترتبط في جذورها بالدنيا وليس بالدين واستعرض بعض اللمحات التاريخية لهما. تطرق بعد ذلك الى وهم الفرقة الناجية وهو الذي يرتبط للوهلة الأولى بالإسلام مع أن الفكرة في أصلها يهودي حيث ساد الاعتقاد المبكر لديهم بأنهم أبناء الرب ومن يولد لغير أم يهودية فهو “هودي” أو “متهود”، إلا أن هذا المفهوم طورته بعض المذاهب والجماعات الإسلامية التي أمعنت في إشاعته للإطاحة بأصحاب الفكر المخالف. ويرى يوسف زيدان في ختام الفصل الأول بأن صفة “مصر المحروسة” التي داوم المصريون والمحبون لها في ترديدها للإشارة لمصر لا تعني بأن مصر لم تتعرض للغزو، فقد تعاقب على حكمها الفرس والرومان ومن ثم بعد ذلك جاء المسلمون لفتحها، وهنا يقول زيدان بأن النصوص لا تحمي من اللصوص.
أما الفصل الثاني الذي عنونه الكاتب (بشاعة المقوقس) فهو يتناول الفترة التي حكم فيها المقوقس الأسقف والقائد العام للجيش وأمير هرقل على مصر، والذي جاء بمذهب المونوثيلية وهو المذهب الذي اخترعه الأساقفة لهرقل للتأكيد على ضرورة توحيد المذاهب المسيحية حفاظاً على استقرار الديانة وتثبيت كرسي الحكم. وكان من المعروف عن المسيحيين المصريين (اليعاقبة والمونوفيست والأقباط) عنادهم العقائدي، وحين جاء المقوقس بالمذهب الجديد ولاقى صداً وبعداً قام بتشريد أتباع المذاهب وقتل الأساقفة وهرب وتشرد الكثير منهم كالأب بنيامين الذي بقي هارباً طيلة ثلاثة عشر سنة الى أن جاء الفاتح عمرو بن العاص فأعاده الى الإسكندرية وأعطاه الأمان الشهير وعهد إليه رعاية أهل ملته، وفي هذا الفصل يحاجج يوسف زيدان القائلين بغزو المسلمين لمصر بأنه كان فتحاً حيث يعرض في هذا الجانب أمر الخليفة لقائد جيشه بالبقاء خارج المدن وعدم الاختلاط بالناس، ويشير المؤلف هنا كذلك الى أن مصر بقيت مسيحية حتى القرن الرابع الهجري حيث بدأ الدين الذي وفد إليها من قلب الجزيرة العربية بالانتشار وبدأت العربية تحل محل اللغة اليونانية.
لم يتناول يوسف زيدان في الفصلين الثالث (بُهتان البُهتان فيما توهّمه المطران) والرابع (أسرار الخلاف وأهوال الاختلاف) مواضيع جديدة وإنما تطرق للرد على بعض منتقديه في الساحة المصرية وهو مما قد لا يهم القارئ كثيراً.
تحدث يوسف زيدان في الفصل الخامس (التاريخ المطوي في لفائف البردي) عن الاعتقاد السائد لدى الكثيرين بأن الماضي والتاريخ والتراث هي أمور بعيدة عن الواقع الفعلي وأن الانشغال بالمشكلات المعاصرة أهم بكثير من معرفة ما حدث وكان سابقاً. وأشار في هذا السياق الى سلوك بعض الجماعات الإرهابية وظاهرة التعصب التي إن لم نبحث ونتقصى في أصولها وأسباب نشأتها فإننا لن نستطيع معالجتها. ومن أهم المداخل التي نستطيع بها معرفة التاريخ هي البرديات التي ظلت وعاءً للكتابة لأكثر من ألفي سنة، واعتُبرت الدليل الوحيد المتوفر لدينا عن بعض الفترات التاريخية. ويعتقد يوسف زيدان بأن أول نص مهم كتب على البردي باللغة العربية هو “عهد الأمان” الذي وقعه عمرو بن العاص مع الأنبا بنيامين 642 ميلادي. واستعرض الكاتب مجموعة من البرديات “المراسلات” مكتوبة باللغة العربية وبعضها باليونانية والقبطية بين قُرة بن شَريك العبسي الذي كان أميراً على مصر وعاملاً للأمويين فيها وبين باسيل وهو رجل مسيحي يعقوبي كان مسؤولاً على منطقة كبيرة في صعيد مصر بمنطقة تقع بين سوهاج الحالية وأسيوط.
الفصل السادس الذي جاء بعنوان (الوهم الأندلسي) يتناول ما يتعلق بالوجود الإسلامي في الاندلس وما أُحيط حوله من مغالطات، ويلفت الكاتب هنا نظر القارئ في البداية الى المفارقة الحاصلة في التعلق العجيب والوجد الآسر لنفوسنا بسبب ضياع الأندلس وكيف أن “الوهم الأندلسي” يفوّت علينا الانتباه لما يضيع الآن من بين أيدينا. يشير يوسف زيدان هنا الى مغالطة شديدة في أذهاننا عندما نتصور أن المسلمين قد توجهوا الى الأندلس فاتحين لها بنية نشر الإسلام بينما تشير مصادره الى أن الحملة العسكرية التي ترأسها طارق بن زياد جاءت بعد الاتفاق المبرم بين الكونت يوليان والأمير موسى بن نصير من أجل مساعدته في الحصول على عرش اسبانيا، ويفند الكاتب ما يتداول عن هذه الحملة في أن طارق بن زياد قد قام بإحراق السفن التي عبر بها الى الجانب الآخر من البحر حتى لا يعودوا عن فتح بلاد الأندلس، حيث يقول زيدان بأن هذا لا يمكن أن يكون صحيحاً لأن هذه السفن في الأصل لم تكن ملكاً للمسلمين الذين لا يتقنون ولا يمتهنون صناعة السفن، بل إنها كانت السفن التي يملكها الكونت ويليان لتجارته المزدهرة في البحر المتوسط. وتدور الأيام على المسلمين في الأندلس لينتهي الأمر بأن استعان ملوك الطوائف بأعدائهم كما استعان القوط في البداية بالمسلمين على بعضهم البعض لتُطوى بعد ذلك صفحة الوجود العربي في الأندلس بسقوط غرناطة على يد الملك فرديناندو ملك قشتالة.
جاء الفصل السابع والأخير (الإسلاميون والكرسي) متزامناً مع ظهور الإسلام السياسي في مصر بعد الثورة، ويرى المؤلف بأن الإيهام السياسي بالإسلام والتوسل به ما هو إلا مسألة ترتبط بأوهام الخلافة الإسلامية التي أشار إليها في الفصل الأول (أوهام المصريين) وأنها ما هي إلا اعتقاد خاطئ بصفاء الزمن النبوي الأول من الشوائب كما يصفه.
خاتمة :
برع يوسف زيدان في كتابه متاهات الوهم خاصة في الفصول الأولى والأخيرة في استعراض خلفيته التاريخية وتحقيقه الفريد للتراث والتي تنم عن اشتغال مكثف في التراثين الإسلامي والمسيحي واستطاع من خلاله إثراء القارئ بمختلف الوجهات التي عرضها في منهج تمحيصي يقوم على التشكيك في الرواية وإخضاعها للعقل وللوجهات الأخرى المخالفة وهذا ما أتاح للمتلقي فرصة تأسيس الوعي بعيداً عن الخرافات والوهم. كما أن اللغة التي كتب بها المؤلف تصل بكل يسر وسهولة للقارئ دون معاناة في فهم المصطلحات أو إرهاق في تتبع الأحداث وهي الصفة الغالبة في كتابات يوسف زيدان سواء كانت على مستوى الرواية أو مقالاته وكتبه الفكرية. إلا أن الفصلين الثالث والرابع لم يقدما الثراء والمعرفة كونهما قد خُصصا للرد على منتقدي الكاتب وهو ما قد نفهمه كون الكتاب في الأصل هو تجميع لمقالات منشورة مسبقاً مع إجراء بعض التعديلات والإضافات، ومع هذا فإن الكتاب رائع على الصعيد المنهجي والمعلوماتي والطرح الفكري الذي يُقدمه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق