فيلم باللغة الإنجليزية إنتاج سنة
2012، عن رواية تحمل نفس الإسم للكاتب السويسري باسكال ميرسير عُرض بدور
سينما عالمية عديدة، منها سينما بيوسكوب الهولندية بروتردام.
نُفاجأ في أول الفيلم، بالبروفيسور
السويسري الرصين ريموند جريجوريس وهو يركض صارخاً، محاولاً منع فتاة بمعطف
وردي، من الإنتحار من على جسر في برن بسويسرا، وحين يُفلح في استبقائها معه
لبعض الوقت، تهرب تاركةً معطفها مع كتيّب شعر صغير، لشاعر برتغالي مغمور
يدعى آماديو دي برادو، وما إن يتصفحه حتى يشعر بأنه إنما يعنيه هو، فكل
قصيدة، كل بيت، بل كل كلمة كانت تنفذ إليه، كما لو أنها تعرف طريقها إلى
روحه وحواسه، تُقاوم الجغرافيا والصقيع لتستقر بقلبه، سخيةً، حزينةً،
وبأنها تقصده وحده، تقصد ضجره، ومخاوفه، وصدماته بالحياة والناس، وحين
يقلّب الكتاب يعثر على تذكرة إياب للشبونة بقطار تلك الليلة، فيهرع آخذاً
مقعد الفتاة بالرحلة، ويترك عمله بالتدريس ومستقبله وحياته كلها راكضاً إلى
ذلك الشاعر، الذي تحدث إليه من دون أن يراه.
وهناك، وبمساعدة طبيبة عيون يجد
جريجوريس نفسه وجهاً لوجه، مع تاريخ مذعور لزمن عاشت فيه البرتغال أسوأ
عقودها، تحت حكم الدكتاتور أنطونيو دي أوليفرا سالازار، الذي حطّم البرتغال
بقبضة المليشيات والبوليس السري، وقهر كل أشكال الحياة والإبداع
والمعارضة.
بالفيلم سيلتقي جريجوريس أعضاء تنظيم
سري، تشكّل بالستينات للعمل على قلب الديكتاتورية، ليخوض معهم في مجاهل
لشبونة، بفقرها واهترائها وخوفها الذي لم يغادرها، حيث يُبدي الأشخاص
تحفظاً وخوفاً ملحوظين في الإفضاء له عن تنظيمهم ونضالهم من أجل التغيير،
لكنه لا ييأس مطلقاً، ويواصل بإلحاحٍ مهذب القبض على كل الخيوط التي تقوده
إلى مصير آماديو دي برادو، حتى يعرف أنه كان عضواً بالتنظيم، وأنه لم يُقتل
من قِبل سفاح لشبونة رويز ميندش، الذي لاحق أعضاء التنظيم وسجنهم ونكّل
بهم، بل من تمدد بالأوعية الدموية سرعان ما أودى بحياته.
يتمكن جريجورس من التسرب إلى التفاصيل
الدقيقة للتنظيم، الذي مارس العمل الوطني، إلا أنه مارس أيضاً النذالات
والخيانة وتصفية الرفاق، إذ كان أحد أصدقاء آماديو ويدعى خورخي على علاقة
حب بإستيفانيا التي ظهرت بدور مبهم جداً في التنظيم، ولا يمكن تحديد دورها
إلا بكونها الذاكرة التسجيلية له، فقد كانت مثاليةً لحفظ أي شيء يُخشى من
كتابته على الورق، وقد سعى خورخي لقتلها لاحقاً بحجة أنها صارت خطراً على
التنظيم، لكن الحقيقة هي لكونها فضلت عليه آماديو، فما كان من آماديو إلا
أن قام بتهريبها إلى إسبانيا، حمايةً لها من رفاق التنظيم، لا من دكتاتورية
سالازار.
أجاد مخرج الفيلم وضع المُشاهِد
بثقافة وتقاليد لشبونة العريقة، وجغرافيتها المسوّرة بسبعة تلال وإستلقائها
على ضفاف نهر تاغوس، إذ تنقّل به في الشوارع المرصوفة بالحجارة، وبمسارب
الجبال وعَبَر به النهر حتى تخوم المحيط، ووضعه بالمزاج البرتغالي المسكون
بالحنين والخوف والتوق للأمان والحرية، حين جعل من موسيقى الفادو الخاصة
بلشبونة، خلفيةً لمشاهد القلق والرجاء التي تخللته، كما أجاد اختيار
ممثليه، إذ استطاع العثور على ممثلين متشابهين تماماً، لآداء أدوار
الشخصيات على مرحلتين طوال ثلاثين عاماً، كما حافظ أبطاله على لكنة مشروخة
مع إنجليزيتهم لإضفاء واقعية على كونهم برتغاليين، كما أجادوا إظهار
الإرتياب والحرص طوال الفيلم، وأكثر من هذا أظهروا سلوكاً يدلل على
إعتيادهم على الخوف من التصريح والثقة بالآخرين، بسبب دوائر الخوف التي
رسمها البوليس السري على جبين البرتغاليين، لكن الفيلم بمجمله جاء هادئ
النبرات، فاتر الطرح، تخافتت موسيقاه التصويرية وألحان الفادو بمواضع
كثيرة، حتى حلّت محلها أنفاس الممثلين، وذرع أقدامهم على الحصى بالأزقة،
وصرير أرضيات الخشب وأزيز الأسرّة، ما سمح بالتركيز على الديكور
والإكسسوارات والإضاءة، والشوارع، والكلاسيكيات في الثياب والأثاث،
بالإضافة لكون الفيلم قد غلبت عليه البلادة في الأداء وقلة الحماسة، حتى
بدا أن ثمة من وضع الكلمات بفم الممثلين، حتى في أشد حالات إنفعالهم وخوفهم
حلاكةً، كما غص الفيلم بالتناقضات، فإسم الفيلم لا يشي بشيء يمكن فهمه، إذ
جاء ركوب قطار الليل من برن للشبونة لثوانٍ معدودة، ما جعل العنوان فارغاً
من المعنى، وسر تخلي جريجوريس عن حياته المهنية بسويسرا لأجل معرفو
آماديو، لا يتناسب مع شخصية جريجوريس نفسها، التي ظهرت بالفيلم على أنها
رصينة وملتزمة، لكن الفيلم كان لافتاً رغم هذا، في أخذ المُشاهِد إلى أجواء
ما بعد سقوط الدكتاتوريات العتيدة، وصدمة الناس وحيرتها بما يتوجب عليها
فعله بحرية لم يعتادوها، وإلى أجواء عدم التسامح التي تتغشّى الشعوب بعد
سقوط ديكتاتورييها، إذ تظهر الفتاة صاحبة المعطف الوردي التي شرعت
بالإنتحار، على أنها حفيدة سفاح لشبونة رويز ميندش، حين لم تستطع أن تجد
لها موطأ قدم بالبرتغال، حتى بعد سقوط الدكتاتورية بسنوات، لتقول الجملة
الفاصلة بكل الفيلم، وهي أن البرتغاليين لم يتعافوا بعد من الدكتاتورية،
وأنهم سيحتاجون وقتاً لهذا، لكنها تتساءل عن تكلفة هذا الوقت، وبالأخير، لن
يكون بوسع الُمشاهِد إلا التأثر بالشاعرية العالية التي جاءت بقصائد شاعر
الثورة آماديو دي برادو، وبفرحه لتكلل جهود البرتغاليين في العبور إلى
التغيير، وفي قصة حب جديدة نشأت بين جريجوريس وبين طبيبة العيون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق