الحبل - علاء الشاوي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 8 مارس 2016

الحبل - علاء الشاوي

كان الليل قد أرخى سدوله حين ولد في كوخ خَِربٍ. ولد وأمه نائمة فوق الحصير المتآكل، تسلل من بطنها خفية - ودون إرادته- ساخنا محموما ،يسبح في ماءٍ لزجٍ اختلط بأوساخ الحصير فاستحال إلى سائل جعل منه كتلة من القذارة لا عقل لها .
شرع في الصراخ وهو يتدحرجُ تحتَ الغطاء بين ساقاي أمه ، كانت لا تزال نائمة كما لو كان حشرة تطلعُ من حلمها .صرخ بلغة الأجنة:
ـ أنا هنا يا أمي.. أنا وليدك. أعيريني اهتمامك !
ضايقها دويُّ صُراخه فلكزته بيدها حتى ظن أن طعام وحنان الأم هو اللكز والضرب .
أزالت البطانية الصوفية ،المخططة بالأخضر والأحمر والأبيض، عنها وعلى وجهها ارتسمت علامات التعب والانزعاج بارزة بين تجاعيدها المثقلة بالزمن وشعرها المشعت.. التفتُّ إليها وقال: ـ يا لجمالك الأخّاذ آ أماه !
اصمت ! نهرته وهي تلفه بغطاء شعرها الذي يرعى فيه القمل بكل حرية . صمت مطيعا ،فقد بدا له أن ولادته كانت فأل شؤم عليها. رمته بعيدا عن الحصير ثم عادت للنوم كما لو أن شيئا لم يحصل . وكأنه عدم خرج من عدم .
توقف عن الصراخ بغريزة لا يملكها باقي الأطفال تجنبا لغضب يدها ..زاحفا إلى الحصير متمسكا بحبل الصرة .كان جائعا وكانت غريزته تقوده نحو ثدييها الفارغيين . ما هذا الجفاف في المشاعر والحليب !!.
جاء ،في تلك الليلة، زائرا غريبا على الحياة التي صارت كابوسه الأول. فكان أول حلمه هو العودة إلى ما قبل الحياة . العودة إلى ذلك البطن الدافئ، ذلك العالم السماوي حيث نبضات قلب أمه سمفونيةً يتسارع إيقاعها ويتباطأ .ذلك العالم النوراني حيث السكينة ولا شيء غيرها. بطن أمه ذلك الكهف الآمن بلا صراعات أو حروب . يسمع ما يجري ، خارجه ، بآذان صمّاء داخل قوقعته مغمض العينين منكمش البنية مثل فراشة ملونة داخل شرنقته في سِلمٍ روحاني عذب . رحمٌ ورحمة ورحمان : الجنة التي طرد منها آدم وطرد منها أيضا رغم أنه لم يقضم تفاحة ولم يعصِ أمرا . فقط ،كان يستمتع بهدوء، يتلذذ بحلاوتها في صمتٍ غريق.
مَرّت التسعة أشهر كأنها تسع ثوانٍ ثم طرد عنوة من بطن أمه ليواجه الحياة الوسخة كالحصير، بصراخه وهواجس الكهف الكبير الذي خرج إليه دون إذنه .صرخ: ما ذنبي ! أعيدوني أظل ولو لتسعة أشهر أخرى أستعيد خلالها الصور الصامتة ،بعدها بإمكانكم لفظي خارجا متى شئتم لأرسم وشما بتلك الصور على جسمي وأعيد النظر فيها متى استحممت أو كنت عاريا أصرخ بها :هنا تكونت وهنا عشت التسعة أشهر الأولى. لقد دخلت الجنة ذات مرة وقد كانت الأجمل .
لحظة فاصلة انتهت وصارت من الماضي . كان بتاج ذهبي قبل أن يجابِهَ الحياة مضطرا للرقص بجنون فوق الأرض مُتمايلا بعدما حمله البطن عن وسخها لتسعة أشهر كاملة.
في ليلته الأولى، تناول ما وجد مرميا في جنبات الكوخ من تبن وطين بعد أن كان ثدي أمه فارغا لا حليب فيه إلا من حظه العاثر . الكوخ أصغر من أن يتسع لعقل طفل مثله ؛ وهو من كان يتجول داخله تائها بقُماطه وأحلامه العارية ، لا زال حبل الصرة يربط بينه وبين أمه ، اهتاجت رغبته في العودة إلى بطنها مع ازدياد جوعه و حسرته. استدار باحثا عن أمله الأخير فوجدت الحبل، حبل الصرة وتمسكت به مثل الأعمى ليقوده لبطن أمه وهو خائب مما قدمته له الحياة ،عاد لكنها أبعدته صارخة: اذهب وواجه الحياة فقد انقضت التسعة أشهر خاصتك ! ثم انقطع الحبل …

آدم نفسه لم يعد إلى الجنة فما السبيل ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق