يركز التاريخاني جهوده على تحديد العلة النهائية؛ أي ما يتجاوز الخاص والفردي في التطور ومسيرة الحضارة الإنسانية، لاستخلاص ما هو عام وكلي مما هو متكرر في الأحداث والوقائع التي لا تعد ولا تحصى، للوصول إلى ماهية ثابتة او مبدأ مفسّر لحركة التاريخ، وهذا ما يقودنا من مفهوم القوانين الموضوعية المفسّرة لحركة التاريخ، وتعاقب التطور إلى الغايات النهائية، فخط التطور التاريخي والحضارة الإنسانية ماض في مسيرته الحتمية من الأدنى إلى الأعلى نحو كماله النهائي. وتختلف التاريخانية في تجديد طبيعة الحتمية التي تسير حركة التاريخ نحو نهاياته المنطقية، وهي في حدها الأقصى مماثلة لتصور لابلاش الفرنسي للحتمية الجغرافية، التي لا تفسح مجالا للإنسان وحرية اختياره في الوصول إلى تلك النهاية المحددة، بغض النظر عن إرادته المعلقة بإرادة التاريخ وحتميته المطلقة، وما دامت الحتمية مطابقة لذاتها ومفارقة للحرية الإنسانية، فهي لا تملك خياراً إلا تحقيق ذاتها، فالحتمية إذاً حامل موضوعي لغائية التاريخ واكتماله النهائي. وتبدو الحتمية والغائية وجهين لعملة واحدة، إلا أن الحتمية تتمثل في دافع داخلي يحرك التاريخ نحو غايته الكامنة في أحشاء الحاضر منذ البدء، ووظيفتها إخراج الغائية او رسالة التاريخ من القول إلى الفعل، فالمستقبل إذاً ليس وليد حركة الحاضر، بل هو كماله واكتماله النهائي.
ولا تجادل فلسفة التاريخ او التاريخانية في طبيعة القوانين الطبيعية المحركة للتغير ولضوابطها المنطقية، فهي قوانين كلية وضرورية تتحكم في مراحل التطور وتعاقبها الخطي او الدائري؛ أي أنها مطلقة وتنفي عنها صفتها الإحصائية او الاحتمالية المناقضة لمنطق الأمور، فهي ظاهرة في نسبيتها التاريخية، ولشروطها الخاصة المؤطرة لفعلها في مراحل معينة، فهي في النهاية قوانين مشروطة؛ أي فاعلة وصحيحة في ظروفها، فهي قوانين تاريخية فاعلة في مرحلتها المطابقة لها، والأهم من ذلك، لا يمكن توقع نجاحها إلا في أنظمة مغلقة يمكن ضبط المتغيرات والسيطرة عليها، وتوقع النتائج، وعزل الانحرافات الجزئية عن النموذج العام، من دون التأثير فيه لاستنباط التعميمات المسبقة وتأكيد الفرضيات القبلية.
وتناقض التاريخانية مفهوم التاريخية؛ وهي مبدأ عمل المؤرخ والسياسي وتعني التغير والتبدل، وحصول الوقائع في مكان وزمان معينين؛ أي ما يؤكد أن الأحداث السالفة هي حقائق واقعية، حصلت بالفعل واكتسبت صفتها الموضوعية والتاريخية لهذا السبب، ولهذا فالتاريخاني يبدأ من حيث انتهى المؤرخ الذي لا يهتم إلا بالتفاصيل فيخضعها للاستقراء للوصول إلى التعميم، ولكنه في النهاية لا يؤمن ولا يهتم بوجود غايات كامنة في مجرى التاريخ، كي يبقى في حدود الاستقراء والاستقصاء المنطقيين، وان خرج منها خرج من علم التاريخ إلى التاريخانية.
وتهتم فلسفة التاريخ – التاريخانية - بتقسيم الزمن والتطور إلى مراحل من الأدنى إلى الأعلى، واعتبار خط التاريخ خطاً تطورياً بالضرورة، تتعاقب فيه المراحل، ويطوي بعضها بعضاً بما يسمى التحقيب، وهي تقسيمات مستعارة من البيولوجيا، والداروينية التي فعلت فعلها في العلوم الاجتماعية.
واجتهد المفكرون في تحديد طبيعة تلك المراحل في العلوم الإنسانية، من الفلسفة والاقتصاد والتاريخ، إلى علم الاجتماع، وهي في الأساس تصنيفات تتجاوز أهميتها الإجرائية الى نمذجة خط التطور، وتفسير الانتقال من مرحلة إلى أخرى، ومن أشهر نظريات التحقيب: نظرية التشكيلات الاجتماعية المتعاقبة من المشاعية إلى الشيوعية في الماركسية، والمراحل الثلاث عند اوغست كونت؛ من المرحلة الدينية إلى الميتافيزيقية إلى الوضعية، ونظرية الاقتصادي روستو في التطور والإقلاع الاقتصادي، بالإضافة لمحاولات اقل أهمية في فلسفة التاريخ الغربية، أما ابن خلدون فتحفل مقدمته بالتصنيفات والتحقيب لمراحل الدولة والحضارة والأجيال المتعاقبة.
وتصر فلسفة التاريخ – التاريخانية – على أن هذه القوانين علمية بالمعنى الخاص للعلم؛ أي ما يفيد في مقاربة الواقع، وتميزها عن قوانين العلم الطبيعي بفاعليتها ومضمونها المعرفي الاجتماعي، فهي قوانين خاصة لممارسة الإنسان الهادفة والواعية للوصول إلى تعميمات ومفاهيم تتجاوز المعرفة المباشرة الوصفية التي يقدمها المؤرخ، ولكنها قوانين مشروطة بالتاريخ نفسه؛ أي أن اكتشافها وتعميمها يحتاج لمقدمات عملية ونظرية مستمدة من الممارسة التاريخية للإنسان، ولهذا تواجه قوانين التاريخانية نقداً لاذعاً من المؤرخين، وفلاسفة العلم، والمنهج العلمي. فعندما نتوصل إلى قوانين وتعميمات من الأحداث التاريخية، يعني أنها خاضعة للتجريب، والتحقق التجريبي، والتكرار، وهي في حقيقتها عكس ذلك تماماً، فهي فردية استثنائية لا تتكرر، ولا تسمح لنا باستنباط قوانين عامة، او ما يسمى قوانين التاريخ أسوة بالعلوم الطبيعية.
ولهذا فقوانين التاريخانية في حقيقتها قوانين ذاتية – ولا نقول اعتباطية - مسقطة إسقاطاً من العقل التاريخي على الواقع الموضوعي، الذي لا يقرأ ولا يرى إلا ما يريد أن يقرأه او يراه، ولهذا اعتبر كروتشه أن كل التاريخ هو في النهاية تاريخ معاصر؛ يعني أن المؤرخ خاضع لشروطه الوجودية والاجتماعية في الحاضر الذي يملي عليه حاجاته من البحث التاريخي في الماضي لخدمة الحاضر، وخلق حقيقته الموضوعية وفهمه المغاير للأحداث التاريخية عن فهم المعاصرين وغير المعاصرين لها لجعل الحقيقة التاريخية حقيقة نسبية قابلة للتأويل والتفسير في كل زمان ومكان، وتلك معضلة التاريخانية، ومقولاتها الكلية، والقوانين الموضوعية، واستشراف المستقبل، والحتمية، التي تعرضت لنقد مرير من فلسفة العلم، فما دامت التاريخانية فلسفة علمية كما تدّعي، فإن اللاتحدد والاحتمال أصبحا عنوان ابستمولوجيا العلم في الكوانتم، الذي شكك بالحتمية وطاردها خارج إطار الفيزياء الحديثة، وبالتالي فالمماثلة والاستعارة التاريخانية للحتمية من الفيزياء الكلاسيكية لا تدعم ولا تفيد في شيء، بل تعيدها إلى مرحلتها الكلاسيكية؛ أي ما قبل العلم، وأما المستقبل الذي تلح عليه التاريخانية لتميز نفسها عن المؤرخ والتاريخية، فلم يعد حكراً على أحد بعد أن دخلت الأنظمة الحاسوبية، والنماذج الرياضية، وعلم المستقبل، في صياغة الاحتمالات والتوقعات والسيناريوهات المنافسة لفهم المستقبل القريب والبعيد.
وتتضمن فلسفات التاريخ تحديداً لطبيعة الغايات، فهناك الغايات الدينية والأخروية التي يسير بها التاريخ، وهناك التقدم والكمال الإنساني في فلسفة التنوير، وهناك المجتمع الخالي من الطبقات.
وتختلف التاريخانية في تحديد السبب الكافي للتطور، فهناك نظريات تفسّر التغير بوجود النخبة، وأخرى تفسّره بظهور البطل العظيم المخلص، ومنها ما يفسّر التغير بتطور وسائل الإنتاج او العلم، او بظهور الأديان وغيرها.
وفي الفكر المعاصر أكمل كارل بوبر نقد التاريخانية، وقدم أعمق مساهمة نقدية لأسسها المعرفية، مفنداً حججها المؤيدة والمعارضة لاستخدام المناهج الطبيعية، فلا توجد من حيث المبدأ قوانين علمية موضوعية في التاريخ، ويعني ذلك استحالة التنبؤ العلمي بالأحداث او المستقبل، وأغلب الأخطاء الحاسمة في التاريخانية حول رفض او قبول مبادئ العلم الطبيعي لتكون دراسة التاريخ او التاريخانية علمية، ناشئة عن فهم خاطئ لطبيعة العلم ولمناهجه ومنطق الكشف العلمي ووظيفة التجربة والمشاهدة.
وفي معرض نقده لدعاة التاريخانية وأشباه التاريخانيين، مثل كونت اوميل الذين يدعون أن حركة التقدم التاريخي مطلقة وغير مشروطة، وناتجة بالأساس عن قوانين الطبيعة الإنسانية، وعلى أساسها يمكن استنباط المراحل الأولى والأخيرة لتطور التاريخ من دون الحاجة لأي شروط أخرى، ويفشل هذا الحكم بسبب المتغيرات التي لا تعد ولا تحصى في أي نظام تاريخي مفتوح للتأثر بكل الاحتمالات، ومنها الظروف والكوارث الطبيعية التي لا سلطان عليها في إعاقة التقدم.
كما أن مقدمات التاريخانية وخاصة مفهوم الطبيعة الإنسانية لا يمت للمنطق والتجريب بصلة، وتفسير الغالبية العظمى من الحوادث التاريخيّة بهذا المفهوم يعني تفسيرها تفسيراً ظاهرياً ساذجاً اعتماداً على الميول والغرائز، ولكن المفهوم الذي يستطيع تفسير كل شيء في التاريخ بهذا التفسير الغامض والساذج لا يفسّر في الحقيقة أي شيء، ولا ينتج قيمة معرفية، وفي نهاية المطاف على التاريخانية أن تقر بعجزها -خاصة في مقاربة المستقبل- لتعيد بناء نفسها من جديد، بشروط أهمها هدم محتواها الميتافيزيقي، ومنهجها المثالي والتأملي، والانفتاح على مناهج العلم الحديثة، من دون التضحية بكيانها الأصلي وتوظيف منجزات علم المستقبل ونماذجه، وتوظيفها في شكل عكسي على الماضي البعيد بطريقة فاعلة، لاستعادة فلسفة التاريخ من التأمل والتجريد إلى العلم والمستقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق