يبدو المفكر والفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل فوكو
1929 1984، ككائن أسطوري، غامض في حضوره وأصوله، تترك نقاط دمه المتناثرة
في لحظة موت أسطوري أثرها في كل ما تقع عليه، وذلك يبدو واضحاً في تأثيره
الفاضح في مجال الدراسات الإنسانية والفلسفية في الغرب والعالم أجمع، هو
يتمتع بذلك النوع من السلطة التي لا يعلن غروبها خبر وفاة عاجل، فنقاط دم
الكائن الأسطوري تعتمل في تفكير الفلاسفة المعاصرين، وفي كل «الضروب» التي
تصدى لها بوهجه المعرفي، في الفلسفة، وعلم النفس، والنقد الأدبي، والتاريخ
السياسي، والطب، والحقوق، وغيرها من المجالات التي تناولها، أو التي مسها
عابراً، وبالمقابل فإن الأثر ما زال حياً تكشف عنه تلك الدراسات، والبحوث،
والمراجعات، التي تناولت أفكار فوكو، وعلى الرغم من ذلك ظل الغموض يحيط
بأعمال فوكو وأطروحاته لا يريد عنه فكاكاً.
ينظر الكثيرون إلى فوكو باعتباره يمثل تيار ما بعد الماركسية، لإحداثه
اختراقاً أدواتياً جديداً، طور من خلاله الرغبة والإمكانية في التفكير خارج
إطار العمل ومفهوم نمط الإنتاج، فهو قد قطع فعلياً مع مفهوم الحقائق
الكبرى، طارحاً بدلاً عن ذلك «الخصوصيات»، فلا خطاب ينفرد بالحقيقة، بل هي
في قوالب الخطابات البشرية، وعلى عكس السائد فإن المعرفة لدى فوكو ليست
مرآة تعكس الموضوع، بل هي نزوع وتداخل مستمر بين حقيقتين كبيرتين «الفرد
ومحيطه»، وربما هذا ما دفع البعض إلى القول «إن فوكو رفض المكوث في حفرة
مستنفذة القعر، في إشارة لقطعه مع كارل ماركس، وهذه الأطروحات التي دفع بها
فوكو، كانت بمثابة قلب للأشياء، للأفكار والمفاهيم التي سادت وسيطرت على
العقول.
كان الكتاب والمفكرون الفرنسيون حينها ما
زالوا يعيشون تحت ظل ماركس، لم تنقطع النقاشات حول الرأسمالية
والإيديولوجيا والصراع الطبقي ونظرية فائض القيمة، وغيرها من المفاهيم التي
كانت سائدة، بالتالي شكلت أطروحات فوكو فعلياً فتحاً جديداً، وشيئاً
مثيراً بالطبع كشأن كل جديد، حفيظة الكثيرين.
كتاب «نظام الخطاب» والذي هو في الأصل محاضرة، لميشيل فوكو، الذي يعتبر من
أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، ترجمه للعربية محمد سبيلا، وهو
كاتب ومفكر مغربي، اهتم بالدرس الفلسفي واشتغل بسؤال الحداثة والدولة
المدنية و»عقلنة» الخطاب الديني، وصدر الكتاب عن دار التنوير في بيروت
والقاهرة، في طبعته الثالثة 2012.
نتعرف إلى التنظير الأكثر مباشرة لمفهوم نظام الخطاب أو النظام المعرفي لدى
فوكو، هو درس في درس، إذ إنه خطاب حول الخطاب، في تلك المحاضرة التي
ألقاها في الكوليج دو فرانس عام 1970، كما يحتوي الكتاب أيضاً على مقال
لجون لاكروا حول دلالة الجنون في فكر فوكو، وآخر يشرح فيه هنري ليفي «نسق
فوكو»، فالكتاب درس افتتاحي حول نظام الخطاب، ماهيته وسطوته المتعاظمة تلك
التي يؤكدها فوكو عندما يقول: «أفترض أن إنتاج الخطاب في كل مجتمع، هو في
نفس الوقت إنتاج مراقب، ومنتقى ومنظم ومعاد توزيعه من خلال عدد من
الإجراءات التي يكون دورها الحد من سلطاته ومخاطره، التحكم في حدوثه
المحتمل وإخفاء ماديته الثقيلة والرهيبة، إننا نعرف طبعاً، في مجتمع
كمجتمعنا، إجراءات الاستبعاد. وأكثر هذه الإجراءات بداهة، وأكثرها تداولاً
كذلك هي المنع، إننا نعرف جيداً أنه ليس لدينا الحق في أن نقول كل شيء،
وأننا لا يمكن أن نتحدث عن كل شيء في كل ظرف، ونعرف أخيراً أن لا أحد يمكنه
أن يتحدث عن أي شيء كان».
يتابع: هناك الموضوع الذي لا يجوز الحديث عنه، وهناك الطقوس الخاصة بكل
ظرف، وحق الامتياز أو الخصوصية الممنوح للذات المتحدثة: تلك هي لعبة
الأنواع الثلاثة من إجراءات المنع التي تتقاطع وتتعاضد أو يعوض بعضها البعض
مشكّلة سياجاً معقداً، يتعدل باستمرار، أشير فقط إلى أن المناطق التي أحكم
السياج حولها وتتضاعف حولها الخانات السوداء في أيامنا هذه هي مناطق الجنس
والسياسة: وكأن الخطاب بدل أن يكون هذا العنصر الشفاف أو المحايد الذي
يجرد فيه الجنس من سلاحه وتكتسب فيه السياسة طابعاً سلمياً، هو أحد المواقع
التي تمارس فيها هذه المناطق بعض سلطتها الرهيبة بشكل أفضل. يبدو أن
الخطاب في ظاهره شيء بسيط، لكن أشكال المنع التي تلحقه تكشف باكراً وبسرعة
عن ارتباطه بالرغبة وبالسلطة».
يضيف: وما المستغرب في ذلك مادام الخطاب – وقد أوضح لنا التحليل النفسي ذلك
– ليس فقط هو ما يظهر (أو يخفي الرغبة)، لكنه أيضاً هو موضوع الرغبة،
ومادام الخطاب – والتاريخ ما فتئ يعلمنا ذلك – ليس فقط هو ما يترجم
الصراعات أو أنظمة السيطرة، لكنه هو ما نصارع من أجله وما نصارع به، وهو
السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها».
فالكتاب، يتناول ذلك الارتباط الشديد بين
السلطة والخطاب، فهو بحسب فوكو علاقة وثيقة بين اللغة وأشكال السيطرة
والهيمنة الاجتماعية، هو إذاً، كشف لحقيقة الخطاب، لما يختبئ خلفه، هو سبر
لأغواره وأحواله المختلفة.
وتأتي أهمية «الخطاب» في فكر فوكو معززاً في مؤلفاته الرئيسية، بل في كل
كتبه لكن وبشكل أكثر تفرداً، فإن التعرف إلى مفهوم «النظام المعرفي» لدى
فوكو نجده في «نظام الخطاب» و«أركيولوجيا المعرفة» حيث يمتلك أهمية كبيرة
وخاصة. وتأتي أهمية «نظام الخطاب» من تلك الأهمية الكبيرة لمؤلفه «حفر
المعرفة» فقد تحررت إمكانات فوكو الكبيرة في تلك «الحفريات» ظهر في ذلك
المؤلف كوحش ثائر، يحطم كل شيء، ليكشف من خلال ذلك الحطام الكبير خلاله
الأصول الفلسفية والاجتماعية للمعرفة، هو البحث الذي استهدف بلا هوادة،
البحث المعرفي المتحرك ضمن مجموعات متعارضة، متباعدة، متوافقة، بغية التقرب
إلى فحوى الوصول إلى بنيوية «المفاصل الأساسية»، ليأتي بعده كتاب «نظام
الخطاب» متأثراً بتلك الروح التي تناول بها فوكو حفر المعرفة، وبذلك يكتسب
الكتاب أهمية خاصة، لما يبرزه من قوة وضعف الخطاب، وآليات الإقناع والتهميش
التي يحتويها الخطاب، وكذلك للكتاب أهمية لا غنى عنها لقراء فوكو والولوج
إلى عوالمه الصعبة والغامضة، فمفهوم الخطاب يعد مدخلاً ضرورياً لقراءة
فلسفة فوكو.
يتضمن الكتاب كذلك مقالة للمفكر والفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي، الذي
اعتبر من أهم قادة حركة الفلسفة الجديدة سنة 1976، والمقالة بعنوان «نسق
فوكو» وفيه يتحدث ليفي عن أهم ملامح أطروحات فوكو، ويرى ليفي أن القرن
التاسع عشر قد وضع ثلاثة علوم على الأقل وهي فقه اللغة وعلم الحياة
والاقتصاد السياسي، ويتساءل ليفي: لماذا ظهرت هذه العلوم بالضبط في هذا
التاريخ، وما الذي جعلها ممكنة؟ وما هو مبدأ تناسقها وكيف تتوزع؟ هل هنالك
قوانين أو قواعد أو إكراهات تسمح لإحدى الفترات بأن تهيء صورة وقائمة بهذه
العلوم، في الوقت الذي نراقب فيه عملية إنتاج الخطابات؟ ويحكم ليفي بأن ذلك
بالضبط ما يفعله فوكو، انطلاقاً من منطوقات التاريخ الطبيعي، والنحو العام
وتحليل الثروات في القرن الثامن عشر، وانطلاقاً من خطاب فقه اللغة وخطاب
علم الحياة وخطاب الاقتصاد السياسي في القرن اللاحق، وذلك بابتداع منهج هو
الأركيولوجيا اتخذ له موضوعاً جديداً هو البنية الضمنية للفكر.
ويرى ليفي في فوكو أحد الفلاسفة القلائل الملتزمين بالنضال، وأحد القلائل
الذين عرفوا كيف ينتجون النظرية الخاصة بالتزامهم، وهو من القلائل الذين
نزلوا إلى الميدان، هو الذي أسس المجمعة الإخبارية عن السجناء، وساند لفترة
جريدة «ليبراسيون»، وهو في نفس الوقت الوحيد الذي وجد في منظومته الفكرية
وفي «صندوق أدواته» ما يضفي به المشروعية على شكل التزامه، ويقول ليفي «إن
الفيلسوف عندما يتحدث فإنه يحرج نظام العالم».
وفي المنجز نطالع حواراً مع فوكو
أجراه فونتانا، وفيه يتحدث عن الدوافع لدراسة الجنون في العصر الكلاسيكي،
ودراسة الإجرام والانحراف، ويقول فوكو: «إنه قد كتب تاريخ الجنون في أفق
الأسئلة المتعلقة بالكيان السياسي للعلم والوظائف الإيديولوجية التي يمكن
أن يؤديها وهي المشكلة التي طرحت العديد من الأسئلة التي وصفها فوكو
بالمهمة» ويرى فوكو أنه حاول أن يرصد الأنظمة المختلة، وهذا ما حاول فعله
في «الكلمات والأشياء»، وأن ما كان ينقصه هو مشكل «النظام القولي» لمفعول
السلطة الخاص بلعبة المنطوقات، فقد اختلط بالنسبة له كثيراً مع النسقية أو
الشكل النظري، أو شيئاً آخر مثل الإشكالية المحورية، فقد كان هنالك، عند
نقطة التقاء «تاريخ الجنون» و«الكلمات والأشياء»، ومن خلال مظهرين مختلفين
جداً، هذا المشكل المركزي حول السلطة الذي لم يكن فوكو قد عزله آنذاك عزلاً
جيداً.
ويشير فوكو ربما، هنا إلى «الخطاب»، ويجيب هنا عن سؤال، حول كونه أول من
طرح على الخطاب مسألة السلطة، غير أن فوكو ينفي ذلك الزعم، ويقول: إنه قد
تأثر للصعوبة التي عاناها في صياغتها، لكنه يرى أنه لم يتحدث عندما يفكر في
أعماله «تاريخ الجنون» و«مولد العيادة» إلا عن السلطة، وفوكو لم يجد سنداً
في معالجته للأمر في اليمين واليسار، فكلاهما قد اكتفى بإدانة مظاهر
السلطة لدى الآخر، فآلية السلطة لم تخضع للتحليل أبداً، وفي الحوار يتناول
فوكو مصطلحي الإيديولوجيا والقمع، ويرى أن مصطلح الإيديولوجيا يصعب
استخدامه لثلاثة أسباب:
في السبب الأول، تكون الإيديولوجيا في حالة تعارض ضمني مع شيء سيكون هو
الحقيقة، والسبب الثاني، هو أن مصطلح الإيديولوجيا يحيل على ما يبدو، إلى
شيء هو بمثابة الذات، والسبب الثالث، هو أن الإيديولوجيا في موقع ثانوي
بالنسبة لشيء متعين، وبالنسبة لمصطلح القمع، فهو بالنسبة لفوكو غير مأمون،
ويبدو ملتصقاً بسلسلة كاملة من الظواهر التي تتعلق بتأثيرات السلطة.
يتناول الكتاب مقالة لجان لاكروا حول «دلالة الجنون في فكر ميشيل فوكو»
ويرى لاكروا في ذلك المقال أن أعمال فوكو تتركز أساساًَ على تاريخ الطب،
ويرى أن لفظ «التاريخ» هنا يتطلب التدقيق من حيث كونه يتعلق بأركيولوجيا،
أم بتاريخ الطب؟ ويجيب لاكروا بأن الأمر في حقيقته يتعلق بتأمل من النوع
الكانطي نسبة لإيمانويل كانط في تطور الطب، فهو يرى أن فوكو يصف تفكيره هذا
بأنه نقد، من حيث إن الأمر يتعلق بتحديد شروط إمكان التجربة الطبية،
بعيداً عن أية نية في إصدار أوامر قيمية، وبحسب لاكروا فإن فوكو قد طبق
منهجه الأركيولوجي في «الكلمات والأشياء» لا على الجنون ولا على الطب بل
على مجموع العلوم الإنسانية.
الكتاب إلى جانب المتعة التي يوفرها في تتبع أثر الفيلسوف الكبير فوكو، فهو
كذلك يعتبر مفتاحاً نحو كل عوالم فوكو، لفلسفته وأطروحاته وطرائقه في
التفكير، خاصة أن الكثيرين من قرائه يرون أن هنالك غموضاً يلف أعماله،
وبالتالي لا بد من اللجوء إلى أعمال مفتاحية لعل أهمها، أو ربما في مقدمتها
هذا المنجز «نظام الخطاب».
______
الخليج الثقافي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق