أراد أن تؤخذ أعماله بعين الحالم لا بعين الواقع لتتمكن من الطيران معه والتحليق بكل حرية. نجح الفنان التشكيلي بسام الحجلي في أن يغوص في عالم النفس البشرية، وأن يحط في هذا العالم؛ بعد أن أطلق العنان لأحلامه لتقوده إلى المحبة والإنسانية، من خلال رسائل بصرية مفعمة بالحياة وغنية بالألوان بعد أن آلمه ما وصلت إليه حال الإنسانية.
دخل كلية الفنون الجميلة بعد أن تتلمذ على يد أهم الفنانين التشكيليين، فانطلق في الحياة برفقة أدواته التي لا يمكن أن تخونه، ففي لحظات الحزن الشديد راقصته ريشته الملونة بألوان كلها صدق وإنسانية، سافر إلى لبنان ودول عربية مختلفة ليدخل عالم التصميم والفكرة، وتحويل أحلام الأفراد إلى واقع حتى يشعر بعلاقته مع المكان، فتطورت النواحي الفنية عنده من حيث العلاقة بين الكتلة والتوازنات، وتعددت اللغات الفنية التي بدأ يخاطب بها أعماله، فبدأ يراقص الألوان بريشته السحرية متطلعاً نحو المستقبل؛ ويعزف على حركة اللون واللوحة، فقدم لنا معزوفات بصرية ولونية تمثلت بالعديد من المعارض أقامها في عدة دول عربية. ليتابع رحلته إلى دولة الإمارات حيث أسعده تنوع الجنسيات والأفكار والأحلام والغنى الثقافي فيها، مما دفعه ليغوص في عمق النفس البشرية؛ بعد أن سيطر المال على الإنسان ولم يعد يهتم الإنسان إلا لنزواته ورفاهيته، فدخل عالم الفن الحقيقي وغاص فيه، وبدأ يطرح العديد من التساؤلات عن علاقة الفن باللوحة وعلاقة اللوحة بالإنسان وماهي اللوحة وأسئلة أخرى، ولأن الفنان حامل أمانة ويمتلك لغة بصرية حسية تمنعه من أن يقف موقف المتفرج، ينقل الأمانة بصدق وجد أن الحلم ملجأه، متجاوزاً الواقع ليكتشف هوية الإنسانية الحقيقية، وينقلها لنا على تلك الورقة البيضاء التي لطالما استفزته وحمّلته مسؤولية توعية الناس ومحبة بعضهم بعضاً من خلال رسائل بصرية كونية.
اكتشف خطاً مختلفاً بعد أربعين سنة من البحث عن قيمة الفكرة واللون، ولم يعد الموضوع رسم لوحة أو فكرة هما عملاً مغرياً بالنسبة له يستفزه ويشبعه فنياً وروحياً؛ فبالنسبة له الرسم هو اللغة البصرية والحسية والروحية التي يستخدمها، ليوجه رسالة إلى العالم كله بعد أن آلمه الواقع، واكتشف بأنه لا شيء فيها يستحق الحياة أو الموت بعد أن امتلكنا المال وابتعدنا عن إنسانيتنا. لجأ إلى عالم الأحلام متنقلاً كطفل بين الحقول يداعب الشمس ويراقص السنابل، ويحلم بحياة جميلة، بوطن آمن حيث تبني الطيور أعشاشها، فتمرد ذلك الفنان على الواقع ليبحث عن الإنسان والذات البشرية، ويراقص ريشته على ضحكات وأنغام الألوان وينقلها إلى الناس بكل شفافية، من خلال رسائل بصرية كونية غير قادر على التوقف حتى تنتهي الحالة الانفعالية التي يشعر بها، والتي تطورت وأصبحت خطاً تشكيلياً جديداً ومختلفاً بما يسمى السريالية الواقعية.
وعن ألمه حول ما يشعر به لما يحدث لبلده سورية الحبيبة وأبناء بلده قال: “عندما وصلت إلى الإمارات حزيناً أفتقد لبلدي، وأتألم لألمه وأتوق شوقاً لأطفالي، عشت الحلم الذي منحني النشوة لأغرد مع لوحتي البيضاء والفرشاة والألوان، شاكياً لها ألمي ووحدتي وشعوري بالقيد، لتنتقل روحي تراقب المكان وتلف حولي وتنقلني لأعيش لحظة الغفوة التي أسيطر عليها وهي الشعور بين المنطق واللامنطق، بين الإحساس والعقل بين الوعي واللاوعي، فتفتح اللوحة أبوابها لأدخل عالم الصورة ولغة الإنسان والحياة”. أصبح الرسم بالنسبة له ثورة فنية، ورحلة نقل لصور الجمال والهوية وآلام الإنسان، ثورة وعي إنساني وانسجام مع الكون وعلاقة الكون الأصغر بالكون الأكبر. فظهرت الواقعية السريالية الحديثة، بعد أن تجاوز المعزوفة البصرية؛ والتي هي حركة تشكيلية تربط بين الحلم والواقع برسائل كونية إلى المتلقي والإنسانية جمعاء. مفتتحاً معرضه “رسائل كونية” في مدينة دبي بهذه الكلمات التي تعبر عن رسالته إلى العالم: “في قلبي وطن يتسع إنسانية العالم الحزين. وفي روحي محبة تراقص أطفال العالم أجمعين. وفي أحلامي وطن عجزت عن حمل آلامه السنين”. حوى المعرض 72 عملاً فنياً، استغرق إعدادها سنتين، يظهر الألم جلياً من خلال لوحاته، حيث هرب من ألم الواقع إلى الحلم، بعد وصول الدمار على صعيد الذات البشرية إلى حواف الكون، أصبحت لوحاته نوافذ تظهر الخوف على مستقبل أطفالنا وعلى الإنسانية، وبأحلامه تصور عوالم خالية من الخطيئة. كلما تعمق أكثر في التقنية واللون والزيت والماء والأحبار والنار وجد لغة أعمق، وحضوراً لشخصية اللون وعلاقات فنية جديدة تذكره بتلك العلاقات في الواقع الأليم؛ فتصارعت الأفكار مع الأحاسيس، وتجرد من سلطة العقل والمادة، وبدأ يتلذذ بشعوره بالحرية والسعادة.
الناقد التشكيلي “محمد الشهدي” كتب عن أعمال “الحجلي” ومعرضه “رسائل كونية” واصفاً استنطاق العين للوهلة الأولى ما تلتقطه قبالة العمل الفني أيا كان جنسه.. ويتحول ذلك إلى تفاعل إذا ما كان هناك إقناع من هذا أو ذاك من الأعمال للواقف أمامه، واستفزاز المتلقي يعني بالضرورة إدخال الحس القرائي إلى قريحته بشكل مباشر، والعناصر التعبيرية المنتقاة والحركة بكل خصوصيتها وصولاً إلى الاصطفاءات اللونية، إلا بوابات ومفاتيح تيّسر ولوج هذا المتلقي للتعاطي مع العمل الفني التشكيلي الذي قد يصل حد التلاقح أو حتى التذاوب. ذكر بأننا بصدد قراءة أعمال يحضر في رصيدها ماسبق، فإننا مضطرون إلى التخلص من نمطية البحث التقليدي لتوسع دائرة التعاطي مع منتج فناننا هذا، ونفضفض قياسا بمسار التشكيل الحديث لهذا المنتج الذي سنتحاشى بشكل أو بآخر تسمية أو تحديد هويته. إن للفنان التشكيلي منابع خصبة لا حصر لها، وليس على المبدع إلا أن يجند آلياته لسبر مخابئ كل ما شُد إليه من مواضيع مرئية كانت أم وجدانية، وعليه أن يتشبث بالحد الأدنى من الإرهاصات التي تداهم لحظة الخلق عنده.
من هكذا منطق نجد أن “الحجلي” يلج بياض فضائه العذري مسلحاً بأكثر من آلية فهو يقص شريط رحلته برفقة اللون كزميل في الحركة وليس كمادة دائمة الطاعة والامتثال، ويترجم مفهوم الزمالة هذا أن بسام لا يموقع اللون ويحدد له مساحة حضور معينة، ولا خط تموقع بعينه، بل كل ما يقوم به هو أن يعين لهذا اللون أو ذاك نقطة انطلاق ليكمل اللون طريقه في انسيابية لا تحضر خلالها إرادة الفنان، وبالتالي لا سلطة له في تحديد مسار ألوانه المنسابة عادة عمودياً.
نرى من خلال لوحات الفنان “الحجلي” أن في داخله وطناً، ولوحاته تحكي قصة وطن وقصة طفل وقصة طبيعة وقصة إنسانية أرهقها المال والسياسة. ويدعونا من خلال معارضه لنحلم معه لينير شمعة في حلمنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق