قطعة أرض بحجم جلد ثور- محمد عبدالرحيم الخطيب - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الخميس، 11 يناير 2018

قطعة أرض بحجم جلد ثور- محمد عبدالرحيم الخطيب

تقول الأسطورة ذات النفحة التاريخية: إن “عليسة” (ابنة ملك صور) بعد وفاة والدها هربت من المملكة إذ علمت بتدبير أخيها الطامع في الحكم مؤامرةً لقتلها، فأفشلت تدبيره بمغادرتها، وأبحرت باتجاه شمال إفريقيا، إلى أن استقرت في بلاد البربر قريبًا من تونس الحالية. وهناك فاوضت زعيم البربر، الذي لم يكن ليسمح للأغراب باستيطان أراضيه، على أن يمنحها أرضًا بحجم جلد ثور، فوافق. وبخديعة ذكية منها -وكانت معروفةً بالدهاء- استطاعت أن تجعل من إهاب الثور رقعةً من الأرض بحجم وطن جديد تأسست عليه مدينة قرطاج (أو: قرطاجنة).

معرفة ملامح هذه الأسطورة ضرورية قبل الإقدام على قراءة رواية (موسم تقاسم الأرض) للروائي إبراهيم الكوني (كتاب مجلة “الرافد”، عدد: (141)، مايو 2017م) وإلا واجه القارئ شيئًا من الغموض والاضطراب.

تُعيد الرواية قراءة الأسطورة، وتوظيفها توظيفًا جديدًا يخدم الطرح الفكري الذي تحمله؛ حيث تحاول تفكيك بعض المسلّمات والمفاهيم حول الوطن والاغتراب وامتلاك الأرض، والنظر إلى ذلك كله نظرة مغايرة، أو على الأقل إثارة الأسئلة حول مدى صحة هذه المسلّمات. وكان عنوان الرواية المقتبس من مقولة لهيرودوت أول مداخل الكاتب إلى هذا الطرح الفكري.

وعلى عادة الكاتب الليبي “إبراهيم الكوني” في اتخاذ الصحراء فضاءً لأحداث رواياته، فقد دارت معظم أحداث هذه الرواية في الصحراء، حيث (البربر) بطقوسهم وعاداتهم.

وقد تخيّر الكاتب من الروايات المتعددة للأسطورة ما يمكّنه من تشكيل عمله وفقًا للطرح الفكري الذي يبتغيه. فعلى سبيل المثال، تتعدد الروايات حول قصة حصول “عليسة” على قطعة من الأرض، غير أن الكاتب تخير من بينها قصة “جلد الثور”، لما فيها من تشويق أكبر، ودرامية تخدم العمل.

ومع معايشة العمل نجد عددًا من الأسئلة التي تطفر إلى الذهن، من قبيل: لماذا لا نفكر بالطريقة التي يفكر بها البربري “أمزغيس”؟ ولماذا لا تكون الأرض كلها وطنًا لجميع البشر؟ وهل “الوطن” هو الذي نولد فيه أم الذي يمدنا بأسباب النجاح والعيش الكريم؟ وإذا كان من الوارد والجائز أن يكون لنا أسلاف ارتحلوا إلى أمكنة شتى في أزمنة مختلفة، فهل تُضحِي هذه الأمكنة أوطانًا لنا باحتضانها أسلافنا السابقين؟.. أسئلة حتمًا ستتقافز في ذهن القارئ كلما استمع إلى صوت البربري الحكيم في  العمل

ولهذا كان صوت “أمزّغيس” (زعيم البربر) هو الصوت اللافت في الرواية؛ حيث يمتلك نظرة إنسانية رحبة لمعنى الوطن والانتماء إليه؛ إذ يعتبر الأرض مشاعًا مشتركًا بين جميع البشر، وهو ما لا يصحّ معه ادعاء أحد ملكية بقعة من الأرض وإن وُلد فيها وعاش وسكن، فكأن الأرض -بالنسبة له- مجرد محطة ينتظر فيها أشخاصٌ ليأتي من بعدهم آخرون، ولهذا فالكل (أغراب) على هذه الأرض. يقول لحسناء الأغراب الفينيقية “عليسة” (أو: “عليس” كما في الرواية) في مفتتح العمل: “نحن لا نكتفي بأن نتغنى بأننا أضياف في هذه الأرض، بل نتباهى بأننا أضياف. هل.. هل قلت “أضياف؟”. الحق أننا لسنا أضيافًا وحسب، ولكننا أغراب! أغراب مثلنا مثل السيدة المهيبة التي تواجهني الآن، ومثل الرهط الجليل الذي أقبل علينا في ركابها، لأن يقيننا يقول: إن كل إنسان وَجَدَ نفسه في أرض، هو غريب في هذه الأرض” (ص 10).

كما يرى أن الشوق الذي يدفع الأغراب إلى ارتياد الآفاق إنما هو دليل انتماء هؤلاء الأغراب إلى هذه الأماكن بشكل أو بآخر، يقول: “الأغراب في عرفنا هم أهلنا الذين عادوا إلينا، لأن دهاتنا علمونا أن الإنسان لا يركب الخطر عندما ينطلق في هجرة إلا تلبية لنداء، ونداء الدم أقوى من كل قوة؛ لأن الشوق لارتياد ما تُخفيه الآفاق ليس نزوة فنية لاستكشاف المجهول، ولكنه عودة: عودة الابن الضال إلى الوطن الضائع!” (ص 13).

فهل هو نوع من نداء “أمنا الأرض”؟ ربما.


وحين استعر النقاش بينه وبين عراف القبيلة “تامولي” بسبب موافقته لحسناء الأغراب على إعطائها “أرضًا بحجم جلد ثور”؛ حاججه العراف بما ينص عليه ناموس القبيلة، فرد عليه قائلاً: “لماذا لا نحتكم إلى جناب الناموس فننصف أناسًا نراهم أغرابًا، في حين زكاهم لنا الناموس بالأمس أهلاً؟ ألم ترد في الناموس الوصايا التي تقول إن هذه الصحراء كانت منبت المخلوق الأول المدعو “مندام” في الزمن الذي تلا انحسار الغمر وبروز اليابسة؟ ألم تتسبب غزوات اليم المجنونة في تشتيت شمل القبائل في مراحل تالية؟ ألم تهاجر الأمم إلى كل الأوطان انطلاقًا من هذا الوطن بسبب الحروب، أو الأوبئة، أو الجدب، في كل مرة؟ ألا يعني هذا أن كل من أقبل علينا اليوم، من أمم نسميهم أغرابًا، ليسوا سوى شقنا الذي انفصل عنا يومًا، وما إقباله علينا اليوم سوى عودةٍ إلى وطنه الأم؟” (ص 39).

هل هي أمنية يتمناها الكاتب بإزالة الحدود والقيود التي تُقيد البشر عن الانطلاق في الأرض، تمامًا كما كان الأقدمون يفعلون؟ أم تراها دعوة إلى عيش مشترك يحياه الإنسان مع أخيه الإنسان بلا فوارق أو حدود؟.

وفي الوقت الذي امتلك فيه “أمزغيس” تلك النظرة الإنسانية للوطن التي تدعو إلى أرض واحدة لكل البشر لا حدود فيها ولا قيود؛ فإنه لم ينكر تلك المشاعر الشخصية التي يستشعرها المرء تجاه وطنه، وحرصه على الانتماء إلى مكان يحتضنه ويُظله، يقول مخاطبًا “عليس”:

“- ولكن يجب أن نعترف أيضًا بأن إنسانًا بلا وطن ليس إنسانًا.

……………..

– بل ليس حيوانًا أيضًا.

– بدليل أننا لا نتعلم حب الأوطان إلا من الأنعام.

………………

– رأيت أنعامًا تهلك حزنًا على فراق وطن، فكيف أنكر رؤية إنسان يلفظ أنفاسًا بسبب ضياع وطن؟”.

أما شعوره هو بالوطن فشيء آخر: “الحقّ أني جئت لأقول: إن أنبل الأوطان ليست الأوطان التي تحملنا، ولكن الأوطان التي نحملها؛ لأننا في الحق لا ننتمي إلى الأوطان التي نسكنها، بل ننتمي إلى الأوطان التي تسكننا”.

الحقّ أننا في حاجة إلى الإصاخة للمعاني الإنسانية والكونية التي صدح بها زعيم البربر “أمزغيس”، علّنا نتنبه إلى أزمات اللاجئين والمشردين في بقاع الأرض، وقد نصل إلى أن نردد مع البربري الحكيم قائلين: “كل هجرة هي التحاق بأسلاف سبقوا، وكل حلول في وطن هو عودة إلى أرض ميعاد”.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق