الكونوس - رانيا الجوري - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 15 يناير 2018

الكونوس - رانيا الجوري


 منذ أن حملت المسدس لأول مرة في حياتي وأنا أرى كل الأشياء تتناثر أمامي بفوضى،أو للصدق كنت أحب أن أرى الأشياء تتناثر بفوضى تماماً متل ملابسي التي تملأء أرجاء غرفتي وتغضب والدتي ، كنت أحب أن أغضبها كانت تبدو على حقيقتها وهي غاضبة ،تبدو بالضبط أمي التي أعرفها بألفاظها البشعة غير تلك التي تتفوه بألفاظ مصطنعة أمام الناس ،ألفاظ مزدحمة بالحنان البارد والقلق الجليدي ،كنت أشعر بضياعي كلما ملأ صوتها الكافر بالصدق أذني
والآن وأنا مجبر على الحديث ،أشعر بأن ذاكرتي اللعينة تتحول إلى منشار همجي يمزق أحشائي فهل هذا نوع جديد من التعذيب ؟لماذا لا تدعيني وشأني يا حضرة الماذا؟ من قلت أنك أنت؟
على مهل أخذت أمزق ذعري أمام تمرده الأحمر ،أتأمل قساوة ملامحه أسحق جليد المقامات والرتب أعجن بقايا أسئلتي بكثير من الحكمة علني أتعثر بوسيلة تجعل هذا البعبع البشري يفصح عما في قلبه بصدق غير واثقة بتاتاً أنه يعرف معنى الصدق ،مجرم محترف مثل (الكونوس)متهم بأكثر من قضية قتل والكثير من تجارة السموم والسلاح ، أي صدق تراه يعرف هذا !
ولما لاحظت انشغاله بقميصي الأبيض انتشر على وجهي بعضاً من الارتباك وحتى أنفض عني هذا التلوث نظرت الى عينه بحدة وقلت
_قلت أني العاملة الاجتماعية يااا ما اسمك قلت لي؟
محسوبك( الكونوس )
على ذراعه الأيمن شاهدت وشماً لفت انتباهي كان يشبه الى حد ما لوحة الطفل الباكي الشهيرة للفنان الايطالي (جيوفاني براغولين) وبدا لي أنه حديث الوشم فابديت اعجابي بعفوية وبعفوية مثلها وضح لي أن زميله السجين الروسي (سيمون) من رسم الوشم واسترسل يصف الأحداث من لحظة اختراع ماكينة الوشم حتى اختياره للوشم حتى تهديداته حتى انجازه ومن ثم دفع نفقاته.
اسمعي. ماتور المسجل البدائي (اللوكمان), رفاص قداحة ,ماسورة قلم الحبر، زيت زيتون والمواد الكيميائية الموجودة في داخل البطارية .هؤلاء الروس دواهي يا سيدتي (سيمون) هذا( ابن بندوقة) فعلاً. لقد حذرته قبل أن يشرع في الرسم قلت له: إياك ثم إياك ، أريدها كما هي في الصورة سأعطيك وجبة هيروين وعلبة سجائر . وقد أنجز مهمته كما يجب أليس كذلك يا سيدتي؟
حاولت غرس ابتسامة صغيرة على ملامحي تشي بتأكيد ما قال، فهو وشم جميل فعلاً ،لكن ماذا يفعل الطفل الباكي على ذراع مجرم يا ترى!
أرى أن نظارتك تتوسل إجابة ربما لألف سؤال يقرع باب ذهنك الآن يا سيدتي ،هل أبدو لك ذئباً أليفاً أم طفلاً يعيش تحت جلد الأجرام؟كيف أصرف عفاريت عمري من أمامي الآن؟لست أدري لكني أحب أن أستحضر بعضهم الآن ليس من أجلك أنت بل من أجل هذا الطفل الباكي بثيابه البالية بضياعه ويتمه وطفولته المهترئة،كنت في العاشرة من عمري عندما استيقظت ذات ليلة أثر حركة غريبة في ساحة البيت وقفت بجانب شباك غرفتي وشاهدت خالي (البوف)يفرغ سرقاته ويقوم بتعريبها ولما لمحني نادى لي تعال 
تبقى بضع أيام يا أحمد! عدني بأن تأتي لزيارتي ، لقد أنجزت آخر عملية لأضمن مصاريفي داخل السجن ،خذ هذا احتفظ به ،هذا لك إياك وأن يعلم بوجوده أحد ،لم أتمكن من سرقة الخراطيش لكني متأكد بأنك ستعرف كيف تحصل عليها بطريقتك ، كن حذراً واعتني بنفسك ، كان اسمي أحمد حينها لكن مع مرور الزمن يحمل كل واحد لقب خاص به ، (البحتوس)، ( الأزرق) ،(الكيس) ،(الماكس) ،(أزميتو) ،(البيكير)،(الواوي)، (النوي) والكثير منها أما أنا فكما تعرفين عرفت (بالكونوس).
وهكذا حصلت على أول مسدس (ديسرت أيجل) في العربية نسر الصحراء صناعة إسرائيلية أميركية ، ثنائي موفق على الدوام .مسدس ثقيل لصبي في العاشرة من عمره لكني خلال عام درست مكوناته وأجدت الرماية، طبعاً حصلت على الرصاص بمعرفتي.
والدتي ذلك الشيء المبهم الذي عجزت عن فهمه وأنا طفل وأنا شاب وأنا منحرف وأنا مجرم وأنا سجين وأنا أمامك الآن يا سيدتي!
انطلق (الكونوس) كرصاصة عشوائية مطلقاً معه بصراحة وحشية صراع خفي وحقد مبهم ،حتى استقرت تعبيراته فانتصب غضبه وثار ليتدفق من فوهة قلبة المعتم،عاصفة غضب ولوم هبت فوق كلمة واحدة (أمي)، وظل كالعلق يمتص من بهائها حتى أحالها كلمة مقيتة وخطيئة لا تغتفر بحق الأمومة أجمع.
كانت تترضى علي كلما عدت الى البيت أحمل الغنائم ،وتفتخر أمام جيراتها بسبع ديارها الذي هو أنا ،لم تؤنبني لمرة واحدة واحدة لعدم ذهابي الى المدرسة بل بالعكس كانت تغضب مني وتهدد برمي من المنزل إذا لم أوفر لها مصروف البيت ،كانت تريدني صورة طبق الأصل عن خالي ووالدي رحمه الله فهؤلاء هم الرجال الذين عرفتهم في حياتها وبالتالي كانت تردد دائماً تلك المقولة البائسة 
كلما ناولتها ثمن انحرافي (الي خلف ما مات)، لم نتبادل أي حوار غير الصراخ والشتيمة، لم تسمع نحيبي المختلس في غرفتي النائية بعد أن أصبحت صبي أكبر تاجر مخدرات في البلدة ، صرت أكبر وامتلأت قامتي بالذنب والعار، وعدم ممسوخ ينهش مستقبلي ،حتى صارت بدلة السجن هذه التي أرتديها طوق نجاة ،انتظرت كثيراً على عتبة التلبس لكني رفضت الاستسلام فكان الفرار دائماً الى جريمة أخرى ،هذا الطفل الباكي يا سيدتي ! بكى في المرة الأخيرة وهو في الثانية عشر من عمره وظل يبكي بصمت دون أن يذرف دمعة واحدة حتى هذه اللحظة ،صورته لم تفارق خيالي،كان صورة وبقي صورة.
تعرفت بعد ذلك على (الميعا) و(النولي) و(السحلية) و(الجيمكا) و(أبو شمة) و(الخازوق) صور باكية لصورة مجتمع ينتحب ، أخذت دائرة الأتهام تتسع وتتسع   ولم يتضح من نافذة أفكاري المظلمة أي نهار .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق