بالرغم من أن تيار ما بعد الكولونيالية كان سائداً في الثقافة الأنكلوسكسونية قبل ادوارد سعيد، إلا أن صدور كتابه “الاستشراق” في العام 1978 أعطى زخماً كبيراً لهذا التيار ورفده بمفاهيم وتحليلات جديدة في فهم الظاهرة الاستعمارية وتمظهراتها الجديدة. وقد نعتَ سعيد اشتغالاته النقدية في هذا المجال بنظرية الخطاب الكولونيالي، واندمجت نظريته مع التصورات السابقة لتيار ما بعد الكولونيالية لتشكل حقلاً معرفياً جديداً قائماً على نقد الظاهرة الكولونيالية، ومحاولة إرساء رؤية جديدة لعلاقة الدول المستعمَرة والمستعمِرة ضمن فضاء تعددي يستوعب الثقافات دون الإشارة إلى اية ثقافة مركزية.
ومن حسن الحظ أن سعيد وجد تحت تصرفهِ العديد من الفلسفات المعاصرة التي تحارب المركزية وتدعو الى التفكيك وإيلاء الأطراف أهمية واعترافاً كانت قد فقدتها في ظل هيمنة المركز الغربي طوال ثلاثة قرون. فلقد جاءت فلسفة ما بعد الحداثة كفلسفة نقدية لعصر الأنوار، وشكلت دعوة لتجاوز الحداثة التي ظلت متمركزة حول العقل، والذي يعني التمركز حول الثقافة الغربية المتماهية مع العقل منذ اللحظة الديكارتية. وظلت فلسفة ما بعد الحداثة طوال النصف الثاني من القرن العشرين تدعو الى تجاوز المركزية في الثقافة وتدعو الى التشظي والتفكيك وإعطاء الأطراف دورا أكبر في الفضاء الثقافي. وقد أفاد ادوارد سعيد على وجه الخصوص من ميشيل فوكو الذي تركزت تنظيراته على إعادة الاعتبار للهامش الذي تم إقصاؤه في الثقافة الغربية بعد هيمنة العقل على المتن وعدم إتاحة اية فرصة للهامش والأطراف. ولقد عبّر ميشيل فوكو عن التوجه ما بعد الحداثي بالقول إن هذا التوجه قد ظهر من أجل إعطاء حق الكلام لكل الذين حرموا منه طوال عمر الحداثة. وأفاد سعيد أيضا من تنظيرات ميشيل فوكو حول علاقة الخطاب والسلطة والتي شكلت عنصرا أساسيا في تحليلات سعيد في كتاب “الاستشراق”، حيث حقق سعيد نجاحا نقديا ممتازا في الكشف عن العلاقات الخفية التي كانت تربط أقطاب الثقافة الغربية بالظاهرة الاستعمارية من خلال تحليله لأعمالهم الأدبية (الروائية منها على وجه الخصوص). وأفاد أيضا من تفكيكية جاك دريدا من أجل الكشف عن التمركزات في الثقافة الغربية . كل هذه الأفكار ما بعد الحداثية كان لها أثر كبير في إثراء النص السعيدي ورفعه إلى مرتبة الناقد الأول للمركزية الغربية. ولكن التوافق مع تيار ما بعد الحداثة لم يجعل سعيد يذهب أبعد من ذلك مع أقطاب هذا التيار، لأنه اكتشف أنهم وبالرغم من نقدهم للتمركز حول العقل ودعوتهم إلى تجاوز الحداثة، الا أنهم لا زالوا متمركزين حول الحضارة الغربية ولا يتقبلون الآخر، بل إنه اكتشف أن أقطاب هذا التيار الذين ظهروا في الثقافة الباريسية متمرسون حول قوميتهم الفرنسية. وأدى هذا إلى أن يصبح سعيد ناقدا لهم مع إفادته من مناهجهم النقدية.
تندرج نظرية ما بعد الكولونيالية من حيث منهجياتها ضمن التيار الـ”مابعد” حداثي، او لنقل بشكل أكثر تحديداً أنها جزء من الحركات ما بعد البنيوية. وبالرغم من ان ادوارد سعيد أفاد كثيراً من التحليلات البنيوية في عمله المبكر “الإستشراق” حيث هيمنت على هذا الكتاب التحليلات الفوكوية البنيوية المستندة الى مفاهيم الخطاب، والتي أفاد منها في الكشف عن أشكال السلطة المتخفية وراء خطابات المستشرقين، إلا أن سعيد سيعمد الى تجاوز بنيوية ميشيل فوكو كما هو واضح في مؤلفه “الثقافة والامبريالية”. وبالرغم من أن “الثقافة والامبريالية” هو استكمال لكتاب “الاستشراق” من حيث موضوعه، حتى إنه يمكن اعتبار هذا الكتاب جزءا ثانياً لكتاب الاستشراق، الا أن هناك انزياحاً واضحاً نحو تجاوز البنيوية الفوكوية وميل من قبل سعيد الى تبني أفكار المفكر الماركسي انطونيو غرامشي وتحليلاته القائمة على جغرافية الثقافة. وقد عمد سعيد الى توجيه نقد لبنيوية ميشيل فوكو ونظريته في الخطاب، والتي عدّها سعيد تقود إلى جبرية لا تتيح للباحث رصد ما هو جديد في الخطابات المعاصرة.
تصنف ما بعد الكولونيالية بوصفها احد تجليات النقد الثقافي الذي جاء رداً على تحديدات البنيوية التي حصرت تحليل الخطابات في الجوانب اللغوية والجمالية والبلاغية دون الالتفات الى المحتوى الثقافي والإحالات والمرجعيات السياسية والاجتماعية التي يتضمنها النص. وقد أشار سعيد الى توجهاته الجديدة لتجاوز البنيوية بالقول :”لم يعد النص مجرّد خطابات بلاغية وسيميائية”، وهذه العناصر البلاغية والسيميائية لا تكفي وحدها لاستخراج ممكنات النص. وقد أكد سعيد في أكثر من مناسبة على ضرورة دراسة أي نص ابداعي من خلال علاقة هذا النص بالخطابات الثقافية الأخرى، وبسبب اشتغالاته النقدية الهامة في هذا الحقل فإن ادوراد سعيد يعتبر من أهم أقطاب ما بعد الكولونيالية.
من المفارقات المتعلقة بتيار ما بعد الكولونيالية أن هذا التيار قد وجد في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة مرتعاً خصباً لنشر هذه الأفكار وتطويرها. حيث أن حضور ادوارد سعيد في هذه الجامعة والشهرة الكبيرة التي حققها في الغرب قد خلق أجواء ايجابية لاستمرار هذا النوع من الدراسات. ولا زالت جامعة كولومبيا تحتضن هذا التيار لغاية اليوم، حيث يوجد العديد من المشتغلين بالدراسات ما بعد الكولونيالية من دول العالم الثالث، ويشكل هؤلاء الكتّاب القادمون من العالم الثالث ما يزيد عن الثمانين بالمئة من هذا التيار النقدي، وكل هؤلاء الكتاب كانت بلادهم واقعة تحت الاستعمار بإمبراطورياته الثلاث: الانكليزي، الفرنسي،الايطالي. ومن أهم المنضوين تحت تيار ما بعد الكولونيالية يأتي المفكر الهندي هومي بابا، وكذلك المفكر إعجاز احمد، وليلى غاندي، وكذلك الكاتب البريطاني سلمان رشدي الذي نقد بشدة سياسة الهيمنة الثقافية التي يمارسها الفكر الغربي وعدم تقبله لثقافات المهاجرين.
يبادر ادوارد سعيد الى كشف الحيل التي يمارسها الخطاب الكولونيالي للتغطية على ممارساته , حيث يشير سعيد أن هذا الخطاب ظل يركّز على تخلف الشعوب المستعمَرة وعدم أهليتهم لحكم أنفسهم. وقد أشار الى أن كارل ماركس برغم تقدميته ووقوفه مع شعوب العالم الثالث في حربها ضد الاستعمار , إلا انه كان مقتنعا هو الآخر بعدم أهلية هذه الشعوب في حكم أنفسهم. وبالتزامن مع هذا الخطاب الذي يكرس دونية الشرق وفوقية الغرب يبادر الخطاب الكولونيالي الى حجب كافة المعلومات المتعلقة بالمكاسب الكبيرة التي يحققها الاستعمار والمتمثلة بنهب الموارد كالمواد الخام. ومن المعلوم أن الظاهرة الاستعمارية الحديثة قامت في الأساس على التنافس على المواد الخام من قبل الدول الرأسمالية الاستعمارية بعد التصنيع السريع المتمثل بالثورة الصناعية والذي أدى الى نضوب المواد الخام ومصادر الطاقة، مما حدا بهذه الدول إلى استعمار الدول التي لم تشهد نموا صناعيا وظلت محتفظة بموادها الخام في باطن الأرض. وترافق هذا مع خطاب استعماري مخاتل بادر سعيد الى كشفه وتعريته.
الانجاز الاهم الذي حققه ادوارد سعيد في كتاب ” الاستشراق” هو ابتكاره منهجا جديدا في نقد الاستشراق، وقد أدى هذا المنهج الجديد الى تعرية المركزية الغربية ونقد الأسس الواهية التي قامت عليها هذه المركزية. وقد كانت الدراسات الاستشراقية تقوم على منهج فقه اللغة المقارن (الفيلولوجيا)، والذي طوره المستشرق أرنست رينان ووصل به الى أوج التمركز حول الغرب. وقد كان رينان قد نقل مفهوم اللغة الأولى أو اللغة الأم من اللغات السامية الى اللغة السنسكريتية مستثمرا الاكتشاف المهم الذي تحقق في القرن التاسع عشر حول مرجعية اللغات الأوروبية وأصولها السنسكريتية، مما أدى الى تهميش الشرق وثقافة الشرق التي كانت تحتل مكانة مركزية بوصفها منبعا للأديان والنصوص الدينية. وقد وجه سعيد ضربة موجعة للاستشراق عندما تجاوز المنهج المعتمد على فقه اللغة المقارن، واستخدم المناهج الحديثة في نقده للاستشراق. وقد وصف برنارد لويس عمل ادوارد سعيد بأنه عمل غير منهجي ولا ينسجم مع منهجيات الاستشراق المعروفة، واعتبره عملا بلا قيمة معرفية. ولكن الدارسين المحايدين اكتشفوا أن سعيد وظف مناهج جديدة عالية الكفاءة في نقده للظاهرة الاستشراقية، وحقق نجاحا هاما في نقده للمركزية الغربية التي هي منتج استشراقي الى حد كبير. حيث أن الاستشراق عمد في القرن التاسع عشر الى تكريس نظرية التفوق العرقي الغربي وتخلف الأعراق الأخرى الشرقية كالصينية والهندية والعربية.
وبالرغم من تهافت كافة النظريات العرقية التي وظفها الخطاب الاستشراقي لتكريس دونية الشرق وشعوب الشرق، وعدم أهليتهم لحكم أنفسهم بأنفسهم، إلا أن هذه النظريات قد عاودت الظهور كما رصدها ادوارد سعيد تحت مسميات جديدة ودعاوى جديدة . مثال ذلك المقال الذي نشره بول جونز في مجلة نيويورك تايمز في العام 1993 والتي دعا فيها بكل وضوح وصراحة إلى ضرورة عودة الاستعمار الى بعض دول العالم الثالث التي تشكل خطرا على السلم العالمي حسب زعمه. وهو يدعو للعودة إلى النموذج الاستعماري الصريح الذي كان سائدا في القرن التاسع عشر. وهكذا يظل الاستشراق يقوم بوظيفته التقليدية في خلق الذرائع من أجل تجديد الظاهرة الامبريالية وتقديم الغطاء الثقافي لها. وهذا النشاط المتجدد للظاهرة الكولونيالية وظهورها بأثواب ومسميات جديدة يعطي أهمية مضاعفة لخطاب ما بعد الكولونيالية.
إن منظور ادوارد سعيد لحقبة ما بعد الكولونيالية يختلف بشكل جذري عن المنظور الاستشراقي لهذه الحقبة. فالمنظور الاستشراقي لا يرى فيها إلا امتدادا للحقبة الاستعمارية السابقة. ولا زالت فكرة المركزية هي المهيمنة على الاستشراق، ولا زالت أحادية الثقافة هي المعششة في عقول المستشرقين. ولكن منظور سعيد لا يعترف بالمركز الغربي، ولا يعترف ببؤرة ثقافية وحيدة، بل إن منهجه قائم على التعددية وعلى رفض هيمنة ثقافة على ثقافة أخرى. ويشير سعيد أن الغرب حاول توظيف الكثير من المثقفين العرب من أجل تكريس الارتباط والتبعية للغرب على الصعيد الثقافي، ويرى أن المفكر المصري طه حسين يشكل مثالا صارخا على التبعية الثقافية للغرب.
نبه ادوارد سعيد إلى العلاقة الوثيقة بين الاستشراق وإسرائيل التي تعتبر جزءا من الظاهرة الاستعمارية، حيث أن الاستشراق هو الذي قدّم الشرعية لهذه الدولة منذ بداية تأسيسها. ويبدي سعيد استهجانه واستنكاره الشديد لمواقف المستشرقين حيال الصراع العربي الصهيوني. ويأتي في مقدمة هذه المواقف ما أعلنه برنارد لويس أن الصهيونية ليست حركة عنصرية، بل هي شكل من أشكال القومية أو حركات التحرر . كما أن المستشرق هاملتون جب لعب دورا هاما في رسم السياسة الخارجية الأمريكية القائمة على الدعم الكامل والمطلق لإسرائيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق