الصداقة.. لماذا استبعدتها النظريات الأخلاقية؟ - محمد حنفي

ضمن سلسلة «عالم المعرفة»، الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، يأتي كتاب «الصداقة.. قيمة أخلاقية مركزية» للمؤلف والمترجم ميشال حنا متياس استاذ الفلسفة المتقاعد في كلية ميلسابس «مسيسيبي»، الذي عمل بجامعة الكويت في الفترة من 1999 – 2004، حيث يأخذنا متياس عبر 283 صفحة مقسمة إلى مقدمة وسبعة فصول، إلى رحلة نقدية لمفهوم الصداقة ودورها في النظرية الفلسفية الأخلاقية خلال العصور المتعاقبة.
الصداقة.. غياب لافت
في مقدمة الكتاب، يؤكد متياس أن هناك حاجة ماسة إلى تحليل نقدي منظم وشامل لتطور الصداقة كقيمة أخلاقية أساسية في حياة الإنسان، ويرى أن نظرة متعمقة على تاريخ الفلسفة من القرن الرابع إلى القرن العشرين ستكشف غيابا لافتا، بل استبعادا للتنظير حول مفهوم الصداقة، ويرى ان هذا النوع من التنظير توقف في نهاية المرحلة الرواقية.
في الفصل الأول من كتابه، يتناول متياس العلاقة بين النموذج الأخلاقي والنظرية الأخلاقية، ويرى أن استبعاد الفلاسفة لمفهوم الصداقة من النظريات الأخلاقية كان خطأ، وأنه لا يمكن لنظرية أخلاقية أن تكون ناجحة إذا لم تعترف بالصداقة كعنصر أساسي من عناصر الحياة الإنسانية الجيدة، وان النظرية الأخلاقية لكي تكون وافية عليها أن تأخذ بعين الاعتبار جميع القيم الأخلاقية الكامنة في الرؤية الأخلاقية للجماعة.
عدم التذمر من الصداقة
في الفصلين الثاني والثالث، يتخذ متياس من الثقافتين الهلنية والهلنستية نموذجا لكيفية اعتبار الصداقة قيمة أخلاقية مركزية، ففلاسفة الثقافتين لم يتذمروا من العواطف والرغبات الطبيعية، لكنهم جادلوا بإخضاعها لسلطة العقل، ولهذا استبدلوا مفهوم الحكمة بالحصافة، حيث اعتمد هذا الاستبدال على افتراض أن السعادة الإنسانية لا تتحقق بالعيش وفقا لتقاليد أو قواعد معينة، بل بكمال الذات باكتشاف وظيفتها، ولا يستطيع الإنسان اكتشاف وظيفته هذه إلا من خلال الشعاع الذي يميزه عن الاخرين كفرد إنساني، هكذا كان مفهوم السعادة في الثقافتين وليس كما قال فولتير «اعتناء الفرد بحديقته هو الطريق الملكي لبلوغ السعادة الحقيقية».
وهكذا يرى متياس أن فلاسفة العصر الكلاسيكي كانوا أوفياء للنموذج الأخلاقي، وأن تجربتهم مع الصداقة ودورها في السعادة لم تخضع لأي اعتبارات دينية أو اجتماعية أو سياسية، بل ارتكزوا على الدليل التجريبي والحكم الفلسفي السليم.
التصور المسيحي للصداقة
في الفصل الرابع، يتناول متياس مفهوم الصداقة في العصور الوسطى، حيث يشير إلى غياب الصداقة كقيمة اخلاقية مركزية عن النظريات الأخلاقية لفلاسفة العصور الوسطى، ويشير إلى أن هذا الغياب المفاجئ غير المبرر على عكس حضورها في العصر الكلاسيكي، ويرى أن السبب هو تضارب الصداقة مع التصور المسيحي للحياة أو بصورة أدق للمحبة، فالصداقة تعتمد على الهوى أو الالفة، وهو انتقائي بينما المحبة المسيحية شاملة، فعندما يعقد شخص صداقة مع الآخر أو يطورها فإن هذه الصداقة تحد من قدرته على المحبة المسيحية.
صفاء الجوهر الأخلاقي
ويتحدث في الفصل الخامس عن الصداقة في النظرية الأخلاقية الحديثة، حيث يرى أن النموذج الثقافي الحديث الممتد بين القرنين الرابع عشر والعشرين قدم إنجازات رائعة في مجالات الحياة المختلفة، إلا أن فلاسفة العصر الحديث لم يعتبروا الصداقة قيمة أخلاقية، بل واستبعدوها من تحليل القيم، حيث استبعدوا الأخلاق كفضيلة خلال محاولاتهم تأسيس صفاء الجوهر الأخلاقي في حد ذاته.
مطلب أنطولوجي
بينما يخصص متياس الفصل السادس للحديث عن الصداقة في النظرية الأخلاقية المعاصرة، حيث يشير إلى أن التيارات البارزة المعاصرة كالبراغماتية والوجودية والتحليلية استبعدت الصداقة أيضا كقيمة أخلاقية مركزية داخل النظرية الأخلاقية، وكأن الرسالة هي: الصداقة ليست متطلبا أخلاقيا، وهي ليست كذلك لأنها ليست حاجة إنسانية، فهي ليست عنصرا ولا شرطا للحياة الصالحة.
وينهي متياس كتابه بالفصل السابع بتأكيد أن استبعاد الصداقة كقيمة أخلاقية مركزية في العصور السابقة غير مبرر، ويدافع عن أطروحته بضرورة التعامل مع الصداقة كقيمة مركزية، وبأنها شرط للحياة الصالحة، وبالتالي مطلب أنطولوجي وشرط من شروط بلوغ الخير الأسمى.