كم هي مقيتة رائحة المستشفيات التي لم أتعود عليها رغم مرور سنوات على وجودي هنا، نسيت الكثير من تفاصيل بيتنا. غابت عن ذاكرتي روائح شجرتنا عندما تتزين بالورود. احتلت اليوم روائح (الديتول) -المعقمات والأدوية، محاليل تحميض أفلام الأشعة- كل هذه احتلت مساحات مراكز الشم عندي حتى ظننت أني أشتمها منذ ولادتي.
غرفتي التي طال سكني فيها ما هي إلا بقايا مرحاض اكتشفته بحاسة اللمس التي باتت قوية. جدران السيراميك باردة طوال السنة التي لا أعرف فصولها، نافذتي مرتفعة جداً كأنها صممت لسجن وليس لدورة مياه. هناك حنفية مبتورة تتموضع فوق سريري بثلاثين سنتيمتراً، كثيراً ما ضربت رأسي بها حتى تعلمت طريقة أخرى للاستيقاظ تقتضي أن أنزلق للأسفل قبل أن أنهض بجذعي.
مر على وجودي هنا وقت طويل عرفت مروره بلحيتي التي لم تعرف الحلاّق، وأظافري التي أصبحت ملعقة بشرية للطعام ومجرفة للصديد والدم. لا أتذكر حقاً كيف دخلت إلى هنا، الظلمة والزمن كفيلان بمحو الكثير من الأشياء من الذاكرة. كل ما أتذكره أني كنت كعادتي في وظيفتي أمام جهاز الكمبيوتر أعطس متأثراً بالزكام المنتشر عندما شعرت بالاختناق، فتحت النافذة، فجأة أطبق أحدهم منديلاً على فمي فقدت الوعي بعدها لأستيقظ هنا.
ظننت في البداية أنها مزحة، صرخت مهدداً، ظننت أنهم يودون إخافتي فتظاهرت بأنّي أموت رعباً، مر النهار وأسدل الليل عباءته. كففت عن التظاهر بالخوف لأني كنت حقاً في قمة الخوف. الهواجس تتقافز في دماغي البسيط: لمَ أنا هنا؟ اخترق سكين الصمت قلبي وزاد من خوفي، لا أحد يجيبني، لا أحد هنا سواي حتى حشرات الليل التي لا تنفك تزعجني بقرب نافذتي كل ليلة لا وجود لها. حاولت أن أجمع نفسي المتطايرة من الخوف لأفكر في سبب وجودي هنا. هل أنا مخطوف؟ كدت أضحك من الفكرة فأنا موظّف عادي ليس لي عداوة مع أحد. أتناول إفطاري الذي لا يتغيّر مع زملائي الذين لا يتغيّرون، أتناوله بهدوء، لا أتدخل في الأحاديث التي تلتهب من حولي عن مباراة البارحة، أو عن المدير، والموظفات والوصف الذي لا ينتهي لهذه وتلك.
أكمل طعامي، أجلس خلف جهازي حتى الظهيرة ثم أوقّع كي أنصرف إلى منزلي. لا أتشاجر مع زوجتي -وإن كانت لا تكف عن الشجار- أتناول غدائي مُطعّماً بالتوبيخ الدائم: لمَ فلان ارتفع مرتبه وأنت لا؟ لم لا تحصل على تذاكر سفر كزوج فلانة؟ لمَ لا تبحث لنا عن شقة أوسع مثل عائلة فلان؟ حديث لا ينتهي أقابله بالصمت الذي يثير غضبها أكثر. ليس ذنبي أني بارد كالثلج هذه نعمة اكتسبتها بعد وفاة أقاربي بجلطات. إن لم أكن مخطوفاً فلمَ أنا هنا؟! بينما كنت أسأل نفسي سمعت صرير الباب الحديدي فقفزت -وهذه ليست عادتي- شاهدت شيئاً ما يتم دفعه إلى وسط الغرفة ثم أُغلقت الفتحة المربعة التي في أسفل الباب، ركضت لأرى، مططت رقبتي لأنظر من خلال الشبك الحديدي الذي يعلو الباب شاهدت سواداً ضخماً يرحل مبتعداً.
طرقت الباب منادياً، صارخاً بضرورة شرح سبب وجودي هنا، لكن الصمت افترش المكان من جديد. عدت لأتفحص ما وضعه. تحسست الطبق في الظلام، في البداية كنت حذراً من إمكانية دس السمّ في الطعام فامتنعت عن الأكل لكن ذلك لم يشكل إزعاجاً لصاحب الجسد الضخم. صيامي القصير اضطرني للأكل وأنا أردد الشهادتين، ثم تمددت على السرير منتظراً الألم الذي سيمزق أمعائي وأموت بعده لكني استيقظت سليماً. وبصراحة لم يكن الطعام سيئاً، أو ربما كان لكنه الجوع الشديد ما جعله رائعاً. كانت وجبة يمكن أن أقارنها بأرقى المطاعم -التي لا أذهب إليها أبداً- تمنيت لو كنت حُراً لذهبت إلى أحدها وأكلت كل ما أشتهي، كل ما أعرفه وما لا أعرفه ولو دفعت راتب الشهر كاملاً.
تكرّر قدوم الشخص الضخم كل يوم مرتين لسحب الطبق بعصا طويلة وإدخال آخر.. حاولت مرة أن أمسك بالعصا بكل قوتي وأنا أصرخ كي يُخرجني أو على الأقل أن أعرف تهمتي الشنيعة التي قادتني إلى هنا، لكنه سحبني بسهولة وأدخل ذراعه الضخمة، وضعه برفق على عنقي لدقيقة رأيت خلالها أهوال القيامة -وأقول برفق لأني جربت أن يشد قبضته في مناسبة أخرى وتلك أرتني جهنم رأي العين- وبعدها توقفت عن إغضابه.
بحثت في الجدران المظلمة التي لا ترى النور أبدا عن منفذ.. الجدران كلها من السيراميك البارد لا يتغير الإحساس بها إلا عندما تصل كفي إلى الباب الحديدي، أو المرحاض الذي أقضي فيه حاجتي ويقع على مسافة قصيرة من السرير، وبقايا الحنفية التي تعلو سريري. النافذة التي تسرّب ضوءًا ضئيلاً شحيحاً لا ينفعني في الرؤية نهائياً كانت الأمل الوحيد في الهروب. حاولت أن أرمي الطبق المعدني مراراً على النافذة لعلها تنكسر، لكني اكتشفت أنها عبارة عن قضبان حديدية ضيقة.
حاولت تسلّق الجدار لكني كنت أنزلق في كل مرة حتى آلمت ظهري فتوقفت. بحثت في الباب عن مزلاج أو مكان لوضع مفتاح، لكنه كان كتلة من الحديد الأصم لا فتحة به سوى تلك الضيقة التي تسمح بمرور طبق الطعام وقنينة الماء. مددت ذراعي لأقصى ما استطعت، تحسّست الأرض التي كانت تختلف عن أرضية سجني. عدت خائباً، جلست في السرير متجنباً الحنفية التي بتّ أعرف موقعها عن ظهر قلب. خطرت لي فكرة. توجّهت إلى المرحاض فكرت في كسره والتسلل عبر المجاري، لوهلة تخيّلت نفسي خارج هذا الظلام أنعم بالنور، لكني تذكرت أنّي أكبر من أن أتمكن من الخروج هكذا.
عدت خائباً لأنام لساعات لا أعلمها. كل هذا الصمت حطّم أعصابي الباردة كالثلج، صرير الفتحة المعدنية أصبح الموسيقى الوحيدة التي أسمعها منذ أن توقفت عن طرق الباب والصراخ.. بتّ أشك في قدرتي على الكلام لذا أصبحت أصرخ كالقرود بين الحين والآخر، كي أتأكد من أن صوتي ما يزال بخير. كل هذا الظلام الذي يحيط بي أكّد لي أنني تحت الأرض، وكالخُلد تطورت حاستي السمع واللمس. كضرير وأبكم عشت هنا لمدة طويلة، بعد أن أصبحت أكثر هدوءًا بدأت ألاحظ روائح مواد تحميض أفلام الأشعة التي ظننتها صوراً فوتوغرافية، وأنّي محتجز في أستوديو ما، لكن روائح خفيفة تتسرب من مكان ما لمعقمات وروائح المرضى أكدت لي أني في مستشفى لكني في منطقة منه لا يأتي إليها أحد.
بدأت في تلمّس جسدي كطبيب اسأل نفسي: هل يؤلم هذا؟ كيف أشعر هنا؟ خمّنت أني ربما في حجر صحي لمرض غريب ومُعد. لا شيء يدلّ على المرض سوى أنفي الذي يسيل من البرد والعطاس، وهذان زالا بعد مدة من التعود على برد المكان وعلى برودة الدثار الخفيف. لكن بعد مدة من بقائي في هذا المكان الرطب أصابتني أمراض جلدية، تصاعدت الرغبة في الحك، أصبحت رغبة ملحة لا أهدأ إلا بعد أن أمارسها على البثور إلى أن تنزف ويسري الخدر في جلدي.
رائحة العفن والفطريات أصبحت اعتيادية لأنها نَمَت معي كلحيتي وأظافري. قدّرت كل ما كانت تقوم به زوجتي من غسيل لملابسي وتحضير طعامي. تذكري لجلوسي بين يدي الحلاق بشفرته وهو يصول ويجول في ذقني ثم في شعري. رائحة كريم الحلاقة، ملمس الشفرة، كل هذا أيقظ ألم الشوق لحياتي المملّة القديمة. مرّرت يدي على لحيتي التي وصلت لصدري، تأوهّت وعدت إلى سريري. الظلام سمح لي بإعادة ذكريات كثيرة حلوة مع زوجتي وأولادي، حتى شجارها أصبح ذكرى جميلة. ثرثرة الموظفين.. آه، ليتني شاركتهم اختلاس النظرات إلى الموظفات، ليتني شاركتهم الصراخ في مباريات كرة القدم، ليتني رميت بجرائدي في سلّة المهملات وصادقت فتيات، عشت بطيش أو حتى أخذت زوجتي وأولادي في رحلة ما.
الآن حصحص الحق ويعاقبني الله على إهمالي وتقصيري وبرودي. أدركت أني سأموت هنا وحيداً. أجهشت بالبكاء مراراً دون خوف أو خجل لأني أعلم أني وحيد تماماً. بكيت كطفل صغير. أحتضن المخدة، وفي لحظات انفعالي أضرب رأسي بالحنفية أصمت للحظة. يُخيّل إليَّ أني أسمع ضحكة خافتة سرعان ما تزول وأعود لبكاء مكتوم. بعد تحليل الموقف والمكان تأكدت بأني هنا لسرقة أعضائي وبيعها. لكن كان من المفترض أن يبدأ الطبيب في عمله حال وصولي وأنا بصحة جيدة قبل أن أتأثر بالجو المحيط، وإن كانت عملية خطف فهل سيُبقيني الخاطف إن لم يدفع أهلي الفدية؟ هل سيطعمني دون جدوى ما يفعله؟ تدريجياً فقدت الأمل في خروجي، تعودت ديناميكية الحياة الميتة التي تمضي في بطء قاتل، إلى أن استيقظت ذات يوم على نور لم أعد أطيقه. أغمضت عيني. ضوضاء رجال حولي يمسكون بكشافات نور يسلطونها على وجهي وجسدي النحيل، التقطت أذناي كلمات متناثرة من حديث آدمي لم أسمعه منذ سنوات:
- خذوه إلى الخارج.
- غطوا عينيه لم يفقد بصره بالتأكيد.
- هيا.
أمسك أحدهم بذراعي. حاولت فتح جفنيّ اللذين لم أعد أدري إن كانا مفتوحين أم مغلقين طوال السنوات السابقة. مشيت معه بثقل وألم بسبب الصديد الذي ينزّ من باطن قدمي. لست معتاداً على لمس أحدهم لي، سحبت ذراعي ببطء وألم. حالما خطوت خارج زنزانتي بدأ الضوء بالازدياد. بحثت عن صوتي لأسأل بصوت خفيض:
- هل ستأخذون أعضائي؟
التفت لي لكني لم أكن أراه بوضوح فما زالت الرؤية مشوشة. قهقه ولكز جاره وأعاد نفس جملتي ليضحكا معاً. ارتفع صوت من أمامي:
- ستخرج أنت بريء.
تساءلت في نفسي: بريء ممّ؟
تشجعت وقلت بخوف:
- ما هي تهمتي؟
توقّف السائرون، التفت الرجل الذي أمامي وبدأت ملامحه العسكرية تتضح لي:
- لا تسأل عن أمور خطيرة لا تعنيك، احمد الله أنك لست واحداً منهم، وإلا لكنت في زنزانة تعذيب تجعلك تتمنّى جهنم لتبرد بنارها.
اقشعر جسدي لنظرته الغاضبة التي لا تزال غير واضحة لعينيّ الضعيفتين. تخيلت عودتي لسجني فصَمَت. وضعوا عصابة على عينيّ قبل أن نصل إلى نهاية الممر، ومنديلاً ذا رائحة نفاذة. استيقظت بعدها وأنا في مكتبي ذاته أمام جهاز الكمبيوتر، حليق الذقن والرأس حتى كدت أظن أني كنت أحلم لولا آثار البثور الدامية على جسدي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق