أرشاق: أنا أنْهزمُ بي ... وتـهزمُني اُلْعَواطِفُ اُلْنّبيلَة - سليم دولة - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الخميس، 5 أبريل 2018

أرشاق: أنا أنْهزمُ بي ... وتـهزمُني اُلْعَواطِفُ اُلْنّبيلَة - سليم دولة



(1)

نُـهوضٌ مَعَ نجْمةِ فَلَقِ اُلْصّبْح اُلْتونسي اُلْأنيقِ، قَراءَةُ أقْرب فَصلٍ من كِتاب, وتصفّح مجلةّ فكريّة ...

على اُلْصّوت اللّذيذِ في كلّ اُلْأوْقات, صَوت «فيروز» أو ابنها زياد الرّحَباني... كانَ اُلْكِتاب لهذا اليوم رواية «أكودَة 1943» (دار نقوش عربية 2017 ) لكاتبة تونسيّة ( هويدا ) والمجلة كانت «المجلّة الفلسفية: الأنوار في مواجهة الظّلاميات». شَحْطة ماءٍ باردٍ على عـَجلٍ, مُخاطَبة القطّة ( مَـمّوشكا ) بما يليقُ بعَواطِفِها . تَأمّل ورْدَة في اُلْـحَديقَة تَنمو على مـَهل . تذكّر بعْض اُلْأَصْدقاء واُلْصّديقات سَافروا في كِتاب اُلكَوْن دونَ طقوس وداعٍ تليقُ بذالك اُلْوداعِ اُلْأَخير... مع قهْوة أُعِدّها على عجَل..أتذّكر اُلْصَديقات والأصْدقاء ,أترشّفها , تلك القَهْوة على أصْوات ديّكةٍ قادمَةٍ من بَعيدٍ . كتابةُ بعْض اُلْفَقرات في مَديحِ أصْدقائي وصديقاتي... وتونس لرَفـع مَعْنوياتي اُلْـخاصّة و إنْ أنا أَنـْهَزم بي؛ لوم ذاتي لأنّي أشتاق بنْت أحمد أمّي ولا أزورها في غير المنام لأنّي جبانٌ عاطفي أخْشى لوْمَـها اُلْصّامت, أنا الذي لم أنـْمو بين أنامِلها وكَبرت بعيدا عنْها في اُلْـمِحن وبين الكُتب وقاعات الدّرس. أرْتدي ثيابي .أرتّبُ كُتبي وأوْراقي في جِرابي , أودّع قطتي... أعْتذر لوردة اُلـْحديقة ,أفتح الباب الخارجي, أخْطو حَوالي ألف خُطوة، في الشارع, أعودُ إلى اُلْبيت: لا رَغْبة لي في مُـخاطَبة واحدٍ من اُلْإنس . الكَلامُ في تونس مُوجع . اُلْصمت في تونس مُوجع ... وقْع الذّكريات في تونس موجعٌ زهدٌ في الدُّنيا وشقيقتها الآخرة ضَرورة وجودية بالنسبة لي . كلّ شيءٍ قديم وفاسد ومفسودٌ: الكتابة / القراءة / فكرة «الثواب والعقاب» «الخيانَة واُلْإخِلاَص»، «الجنّة والنار»، «الملائكَة والزّواحف» . بي رغبة أن أسْتجيبَ لثغاء الطّبيعة ...اُلْتي تدُسّ اُلْـموت في اللّذة. أقول لي: أين تلك «الأنثى».. !!!؟

وحْدها «الطّبيعَةُ الطّابِعَةُ» وفيّة لعَاداتها، تقْفِزُ فِكْرة الوَفاء في ذهْني فجأة فأتذّكرّ فيلسوف « الجُوديّة» الشّهْرزادي التّونسي اُلْوفي والنّادِر مُصْطفى كمال فرحات فأُقرّرُ اُلـْخروج ثانية من البيْت بعْدَ أن ركّبتُ أرْقام هاتفه هو المقيمُ في مدينة سوسة، ما حفَزني على مخاطبَة صاحبي أنّي اشْتقتُ إليه و أردتُ أن أقَدّم له هديّة منّي كتابا اشتريته باُسْمه لفيلسوف يعْشقه وهو ميشال سار, والكِتاب هو: «الإصْبع الصّغيرة», المكتوب بطرافة الرّحالة الثّقافي: ماذا عنْ المفَاهيم التي كثيرا ما يَصْعُب في بَعْضِ الأحْيان تَكْوينها؟ قُلْ لي ماذا عَنْ الجمَال؟
تجيبُ الإصْبع الصغيرة : امرأة جميلةٌ , فرسٌ جميلٌ, فجرٌ جميلٌ ...
قفْ ولنَنْظر جميعا . أنا أسْألك عن مفْهومٍ .. وأنت تذْكر لي ألْفَ مِثالٍ ..فلنْ نَنْتهي مع بنَاتك ومُـهورك ...
سَبقْت صاحبي الى «مقهى زَهْرة اُلْشرق»، فكان اللّقاء وكان الحَديثُ ... حديث اُلْوفي اُلْتّونسي لصديقهِ الفَرنْسي؟

(2)

تنُطّ من ذاكرتي - قال صاحبي - بين الحينِ والآخَر صُورة لِشَخصية عجيبةٍ , «شَكْسبيرية» هي بمثابة «الهوية» السرية والحقيقية للعاصمة الفرنسية باريس وتحديدا في جهة «الحي اللاّتيني». إنها صورة» السيد لوسيان ؟
- فمن يكون هذا السيد « لوسيان « الذي لازلتَ تذْكره بعْد ما يزيد عن الأربعين سنة والذي كنت دائما تستحضره في أحاديثنا ..؟
- هو رجل فرنسي مُفْرط في الطول _ صموت , قليل الكلام . عادي اللّباس ويعَملُ مُوزّع جريدة «-لوموند الفرنسية» فقط لا يبيع سواها, ويقوم بتوزيعها راجلا إذْ لا يملكُ وسيلة نقْل يوزّعها تحْت الطّلب ومن بين حُرفائه (ج -ب - سارتر ألبار كامو , ريمون آرون ...) . وكان يُودِع بحِذوي عددا من الجريدة لأطّلعَ عليه ثم أرْجِعه له , لأنه يعْلم بوَضعي المالي المزْري كطالبٍ شمال أفريقي ,وقد كنت أتوغّل في صفحاتها مُترشفا قهوة أُمَطّطُها بالماء السّاخن عَسى أنْ أُطيلَ في عُمرها لخواءٍ وانخرام فاضحٍ في الجيب..وقد توطأ معي صاحب مقهى (( ليكرتوار )) طيب الذّكر السيد «هنري». والمقهى يعود تاريخ وجودها إلى القُرون الوسطى . زمن تأسيس جامعَة الجامِعات اُلْأوروبية «السوربون»... في القرون الوسطى سنة 1253.
المرشد الرّوحي للمَلك لويس الرابع عَشر كما تقول Robert de Sorbon روبار دي سوربون بجهود الموسوعات. من العَجَيب أن اسم هذه القهوة , أقصد قهوتي الشّخصية والتي دَعَتْ إليها اُلْضّرورة القُصوى بأن تكون في «خفّة الفَراشة» كما كان يحْلو لي أن أُسميها «الفراشة», من العَجيب أنّ هذه القَهوة بالذات واُلْـمُتَشرّفة على أمْـهَل من المهل, أصْبَحتْ مرغوبٌا فيها ومُشْتهاة ربما لمجرّد التسمية من قبل الوافدين الذين لايشْكون ثُقبا في اُلْـجيْب ولا أيّ شَكْل من أشْكال العَوز واُلْفاقة والفقر ...
قلتُ لصاحبي فلنترك شأن القَهْوة وأنْ بردتْ ونعود إلى السيد «لوسيان». فماذ ا عنه ؟

(3)

- ان «للسيد لوسيان» عادته وهو أنه كلّ عشيٍّ يطْرق مقهى (( ليكريتوار )) بخطاه الواثِقة الملكيّة , يُتْحِفُ نفْسه بكأس نبيدٍ واحدة لا غير يتقتّل لها بلذّة و يشْربها على مَـهَلِ اُلـْمُتـمـهّلين الرّاسخين في مَعرفة سرّ أسرار السوائل الروحيّة ... ثم يعود إلى غُرفته الوحيدة في «الحي اللاتيني» وينـمهك في الاستعداد لسهرته الأوبيرالية الكبري فيتنوّق في ارتداء كسوته السّوداء التي تشْترك مع «الألوهية» -على رأي الحكيم الجريدي- تشْتكرك مَعها في صِفتيْ : اُلْوِحدانية والقِدم : الله واحد وكسوة السيد لوسان « لا شريك » لها, متوحّدة بوحْدانيتها . لا معنى لحياة الكَمال الكلي والإكتمال الأنطلوجي والغِبْطَة والفَرح الرّوحي لدي «مسيو لوسيان» غير هذا «المعنى». إنه متوحّد بذاته وصفاته. قلت لصاحبي :
هل كان « ميسو لوسان » يضحك مثلا ..؟ أو يسرّح النظر في جميلات باريس ..؟ هل صادف أن بكى أمامك ؟ أو رقص أو غنى ..؟

(4)

- أنه رجل خجول, مفرط في الحياء والحِشمة, كثير احمرار الوجه .. ولن أنسى مَشهدا قد عاينته مُعاشية وبتواطئٍ عاطفي مني . إنّه يومٌ عصيبٌ, عصيبٌ جدا على «مسيو لوسيان» الحكيم السوربوني خارج أسوار السوربون. اذ كسّر مُستقر عادته فعَدل ذات يوم حِدادٍ شاق على توزيع الجريدة , (( جريدة لوموند )) ولازم ساحة «جامعة السوربون» باك مُنتحبا كما الثّكالى ... غير قادر على الكفّ بكاء مُرا ونحيبا جارحا لجهات الروح .سألته شخْصيا مِرارا عن اُلْسّبَبِ .فكان يَزْداد بكاءً واُنهمار دمْعٍ وشهيقِ كلّما ألححْتُ عليه في اُلْسؤال وبعدَ صمْتٍ قال لي بِـحُرقَة اُلْـمَحْرورِ الـمُلِتاع اُلمشْتاق . قال لي حَرفيا:
ويْلنا جميعا من البرابرة الجُدد. لم تسْلم من شرّهم وتشرّرِهم صديقتي وأليفة عمري ...؟
قلت من ..؟
قال بصَوْتٍ مُتهدّجٍ : اُلْشّجرة , شجرة ساحة السوربون. آه قطعوا الشّجرة ليبنوا مِئرآبا للسيارات وهي كارثةٌ ايكولوجيةٌ وعاطفيةٌ , كارثةٌ حقيقيةٌ يا صديقي الحقيقي يا له من عُدوانٍ بشري آثم لا يتحمّله عَقْل سليم ولا يقْبله بصَرٌ ولا ترضاهُ بصيرةٌ ... وسرعان ما سَرَتْ إلى نفْسي أنْفاس روحه الثّكلى ولفّتني سُحُب عدْوى آلام طقوس حداد «مسيو لوسيان». هل تَكون تلك الشجرة هي ذاكرة المكان وحارستها التاريخية ؟ هل هي الشّاهدة على شهادة ميلاد جامعة من أكبر وأقدم جامعات العالم ؟ السوربون.
الذنب الوحيد ((لموسيو لوسيان )) كونه رهيف العَواطف يَسْكُن العالم بروحِ فنّانٍ أصيلٍ . رحم الله صديقي الجميل حفيد ج ج روسو الذي فضّل آخر عمره العِشابة وفنون اُلْبسْتنة على صالونات الثرثرة الأنوارية ....

(5)

يبدو أن «مسيو لوسيان شخصية روائية , قلتُ لصاحبي فيلسوف الوجوديّة ... الذي كان يسافر عواطفا وذهْنا بين الحينِ والآخَر من مدينة» سوسة» إلى «باريس» في السّبعينات من القرن الآفل؟
_ فعلا . لقد إسْتلهم من سيرته العِشْقية السريّـة صديقي الكاتب الفَرنسي ( القاص ) جون ماري روبلاس الجزائري الأصل, الإسباني الجذور , استلهم في كتابه «ذاكرة الأرْز» واحدة من قصصه.
« مسيو لوسيان » كان صاحب فرح طفولي_ يرْغَب أحْيانا أنْ يسْرد عليّ حَكايا ووقائع سَهرة ليلته الاوبيرالية ثم يلوذ بالصّمت ربما لأنّ اللّغة المطابقة للمَحْسوس به تُعوزه . توقفتْ ذاكرته النّغمية في «الأوبيرا» و«الأوبيرت», توقفتْ عنْد الموسيقى في الكلاسيكية . مفارقَة : وضع بوهيمي , بذوْقٍ أرِسْتقراطي . مُعظم رواتبه الشَهرية تُترجَم إلى تذاكر... فُرجة . ما يزيد عن الثماني سنوات ولم أر صديقي «مسيو لوسيان» يأكل - ربما لأخْلاقيات ورَثـَها عن أُصُوله الرّيفية الفرنسية- عمَلا باُلْوصيّة الذّوقيّة كما التي في ثَقافتنا الإحْتِشاميّة: «النّفس تَشْتهي».
هو مجرد «هَرماس صَحَافة» .... يمكِن أن يَكون قدْ اُمتهن بيْع اُلْـجرائد منذ صِباه ...لا يكْترث بمحْتوى جريدة «لوموند» التي يَتولىّ بيعها .
صمتَ فيلسوفنا الإرتوازي - الشّهرزداي - مُصطفى كمال فَرحات اُلْوفي اُلتّْونسي اُلنّْادِر- ثم ترحّم طويلا على روح صديقه «مسيو لوسْيان» الفرنسي العَاشِق «الايْكولوجي», اُلْوفي «للشّجَر» و «العُزلة» و«الأوبيرا».

(6)

آه كم أعجبتني روح اُلْوفاء للأوفياء وقلتُ :لي رجلٌ يبْكي من أجْل شَجرةٍ تُقطع في وطنه وكائنات تحسب على الرّجال يبيعون أوْطانهم بشرا وحَجَرا و شجرا ...
ما أرْوع الصّداقة تتجاوز الأعْراق والأجْناس والجنْسيات واُلْدّيانات والأزْمنة واُلْقارات, كم نحن في حاجة إلى جُرْعَة من جماليات الحياة ... مُغالبة للوِحْشَةِ واُلْتَوحّشِ .
أنا أنْهزمُ بي,,,وتـهْزمني العَواطِفُ اُلْــنّبيلة... سلام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق