إذا كان الفيلسوف الألماني هيغل قد تساءل في كتابه “دروس
في فلسفة التاريخ”، عن المحرك الذي ما انفك يصنع التاريخ- وهو بلا ريب من بين
الأسئلة الحارقة التي عصفت بفكره- فإني أعتقد أن التاريخ يصنع وينحت عن طريق ذلك
الفكر التقدمي الثوري الذي لا يتوانى في امتلاك إرادة برومثيوسية للتغيير. وهذا
التغيير الحقيقي للبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا يتم في رأيي إلا عن
طريق “المثقف” فهو صانع التاريخ وأحد محركاته كما أنه فضلا عن ذلك يعتبر بمثابة
روح المجتمع وقلبه النابض، فهو يساهم عبر إنتاجه للوعي في تحرير المجتمعات من جل
أشكال التخلف والركود والسلبية، ليكون بذلك جسرا تنتقل من خلاله الإنسانية من ضفة
الجهل إلى ضفة النور. فعلى سبيل المثال فقد ساهم مثقفو القرن السادس عشر في
أوروبا، بحظ وافر في انبلاج فجر ما سمي بالنهضة الأوروبية التي كانت نهضة فنية
وأدبية بالأساس: فقد كان دافنشي أو رابلي أو ايرازم أو ديكارت جلهم رجال فكر
وثقافة عمدوا إلى تثوير الواقع ومحاولة تغييره.
بيد أننا قد لا نجانب الحقيقة في الإقرار بأن المثقف يؤثر في عصره ويتأثر به،
فهو مهما حاول أن يحيا في زمان غير زمانه ما استطاع. ويبدو أن هذه الإشكالية
بالأساس أي إشكالية “المثقف وعلاقته بعصره” هي التي أيقظت في ذهني العديد من
التساؤلات المؤرقة والخطيرة في نفس الوقت. فحينما نلقي اليوم نظرة فاحصة ودقيقة
نروم من خلالها استنكاه أبرز الملامح السوسيو-ثقافية لهذا العصر الذي نحياه، فإننا
قد نجد عقولنا اهتدت لحقيقة مفادها أن زمن الثقافة قد ولَى وانتهى كما ولَى وانتهى
زمن العبودية، فأقدامنا قد وطئت بذلك ومنذ زمن ذلك العصر الذي وسمه المؤرخ الفرنسي
فرناند بروديل بعصر “الحضارة المادية”. فالعالم اليوم شئنا أم أبينا خاضع أيما
خضوع للعولمة وكذلك لمنطق السوق بما يفرضه هذا الأخير من ضرورة سلعنة القيم
والأفكار وحتى الإنسان. وفي خضم هذا كله، اهتز عرش المثقف اهتزازا هيروشيمائيا:
فقد تراجع دوره وخفت صوته ولم نعد حتى نتحسس وجوده وأثره، الأمر الذي حدا بالبعض
للحديث عن “عالم اللاثقافة”.
فهل انتهى فعلا دور المثقف في مجتمعاتنا المعاصرة ليصبح بذلك مجرد تراث من
الماضي نستلذ بالحنين إليه؟ هل أن خفوت صوته وانتكاس إشعاع فكره سيؤديان بغير
المثقفين للبروز على الساحة وإنتاج اللاثقافة؟ كيف يمكن لنا أن نبعث فيه أي المثقف
روحا جديدة تكون كفيلة بإخراجه من “قمقم اللاثقافة” ليعود من جديد لإنتاج الوعي
وتغيير العالم؟
المثقف وإرادة التغيير
حينما كنت طالبا صغيرا في الصف الثانوي، استوقفتني وأنا أقلب صفحات إحدى
المجلات، بضعة كلمات للأديب والمفكر المصري نجيب محفوظ سرعان ما أصبحت محفورة في
ذاكرتي لم تمح بمرور الأيام والسنوات. كان يقول “إني أؤمن بالحياة والناس وأرى نفسي
ملزما باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق، إذ أن النكوص عن ذلك جبن وهرب
كما أرى نفسي ملزما بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل إذ أن النكوص عن ذلك
خيانة وهذا هو معنى الثورة الأبدية”.
لقد أثرت فيَّ هذه الكلمات أيما تأثير، فقد أدركت أن دور رجل الفكر في المجتمع
إنما يكمن حقا في ما أسماه نجيب محفوظ بـ”الثورة الأبدية” التي لا يمكن أن تكون
إلا تلك الإرادة والنزعة إلى التغيير: تغيير الحاضر من خلال إنتاج رؤى وقيم وأفكار
ثورية تعصف بكل السائد والمألوف. فالمثقف ليس مطالبا بإنتاج المعرفة والفكر فقط بل
مهمته العسيرة تكمن في تكوينه للوعي الذي يخول له تغيير التاريخ وصنعه من جديد.
لقد كانت أهم سمات المثقفين، هي محاولتهم تثوير الواقع في أبعاده السياسية
والاجتماعية والثقافية: فالمثقف حسب لينين يعتمد “منهجية التحليل الملموس للواقع
الملموس″. إن ذلك يظهر جليا حينما نبحث فقط في
تاريخنا الطويل ونتأمل مسيرة الفكر الإنساني عندئذ سنجد حتما أن المثقف هو من ينحت
التاريخ ويصنع التغيير: فهل كانت ستكون حقا ثورة فرنسية دون مثقفي عصر التنوير؟ هل
كان سيتفجر ذلك الغضب الشعبي دون كتابات فولتير؟ دون الأفكار الثورية التحررية
التي أبدعها مثقف يدعى جان جاك روسو؟ دون التفكير النير الذي أظهره مونتسكيو؟ لقد
سخروا في الحقيقة عقولهم وأفكارهم لإنتاج الجديد وصنع التغيير: إذ توجه البعض لنقد
مساوئ النظام السياسي القائم آنذاك على الحكم الفردي المطلق بحق إلهي، مؤكدين في
ذلك على ضرورة تأسيس نظام آخر يرتكز على الحرية والمساواة والعدل ويضمن بذلك كرامة
الفرد وإنسانية الإنسان. أما آخرون، فقد استهدفت أقلامهم الكنيسة ونظامها
الإكليروسي إذ استحوذت هذه الأخيرة آنذاك على الثروات في المجتمع وسيطرت على
العقول ومنعتها من التفكير الحر والعقلاني. فكان هذا النقد تحريرا للفكر الإنساني
من أهداب الجهل والخرافة وتأسيسا للحرية والعقلانية والمدنية. في النهاية، نجد ثلة
من المثقفين الذين لم يتوانوا في نقد أسس النظام الاجتماعي المقام أساسا على نوع
من اللامساواة الطبقية حيث تستحوذ فيه طبقتا رجال الدين والنبلاء على أغلب الامتيازات.
إذن فقد أسهمت كتابات كل هؤلاء المثقفين في زعزعة القناعات الثابتة آنذاك وتحريك
سواكن العقل، ذلك أن كل هذه الأفكار تحمل في داخلها إرادة صريحة وقوية للتغيير
وهذا هو في اعتقادي روح المثقف وجوهره.
فمن الأمور التي لم يخالجني فيها الشك يوما هو أن المثقف ليس ذلك “الكائن
الخرافي” الذي يظل أسيرا لمكتبه وأوراقه وعالمه المثالي بذلك البرج العاجي، وإنما
هو شخصية متشبعة بهموم الواقع منغمسة أيما انغماس في المجتمع ببُناه المختلفة،
وهذا هو معنى أن يعيش المثقف عصره أي أن يلتزم بقضايا الواقع وأن يعمل على
تغييرها. التاريخ يشهد للعديد من المثقفين الذين كانوا ملتزمين بقضايا العصر: فمن
منا لا يتذكر جون بول سارتر رائد تيار الوجودية والداعي لتحرير الإنسان من شتى
رموز القيود والاستعباد وقد وصل به الأمر إلى حد مناهضة سياسة بلاده، خاصة في ما
يخص قضية الجزائر حيث عارض السياسة الفرنسية والاستعمار عموما ووقف إلى جانب
الجزائريين الطامحين لاسترجاع حرية وطنهم. عموما ما أردنا أن نكشف النقاب عنه هو
ذلك المقعد الخطير الذي يتبوأه المثقف في المجتمع.
بيد أن المتأمل اليوم في واقعنا الحاضر المركب والمعقد، سيتأكد من خفوت صوت
المثقف وانتكاس إشعاع فكره، بل إن البعض أصبح يتحدث عن مجتمع اللامثقفين ومجتمع
اللاثقافة. فماهي أهم الملامح السوسيو-ثقافية لهذا المجتمع الجديد؟
مجتمع اللاثقافة: أفعى متعددة الرؤوس
قد لا نبالغ في القول إننا نعيش في عصر تتحول فيه البنى بسرعة خاطفة وبرقية
حتى أننا لا نكاد نشعر بتلك التغيرات التي ما انفكت تعصف بحياتنا بين الفينة
والأخرى: فكل المجتمعات قاطبة في جميع أنحاء المعمورة تتعرض لطفرات سريعة أحدثت
خللا في جميع المستويات: فكأننا حقا إزاء انتقال من عصر أرضي إلى آخر ربما سيكون
في الفضاء أو هو عصر افتراضي تكون فيه السيطرة لوسائل التواصل الاجتماعي التي نجحت
في فرض وجودها منذ سنوات. فالبشرية دخلت حقبة جديدة يسميها علماء الأنثروبولوجيا
عصر ‘الإنسان السبرنتيقي’ وهذا ربما ما قد تنبأ به الفيلسوف هيدغر حينما أعلن عن
نهاية الفلسفة وبداية عصر “السبرنتيقا”. فلا ريب إذن في القول إن جل هذه التحولات
كانت نتيجة لتلك الظاهرة التي ما انفكت تثير تساؤلات وتؤرق عقول العديد من
المفكرين ألا وهي ظاهرة “العولمة” التي نجحت أيما نجاح في جعل العالم بأسره- من
أكبر مدينة كوزمبوليتانية إلى القرية النائية الصغيرة- مسلعنا وخاضعا لمنطق اقتصاد
السوق.
فساد بذلك عصر الحضارة المادية وعصر ثورة المعلومات، فقد تحدث المفكر اللبناني
علي حرب عن تشكل فضاء جديد للتحكم والاتصال هو “الفضاء السبراني” الذي جعل الإنسان
غارقا ضمن عالم وهمي افتراضي ابتعد به عن الواقع.. كل هذه الانفجارات زلزلت أسس
الحضارة الإنسانية زلزالها وأخرجت لها أثقالها، إذ يمكننا أن نلاحظ العديد من
التداعيات التي برزت وراء انبلاج فجر العولمة: فقد انتشرت مثلا ثقافة الاستهلاك
أيما انتشار، الأمر الذي حدا بالبعض إلى أن يقلب الكوجيتو الديكارتي ليصبح “أنا
أستهلك إذن أنا موجود”. وفي مقابل ذلك، تراجع منطق الإنتاجية خاصة في عالمنا
العربي فالإنترنت وفرت عناء البحث والتفكير فأدت بذلك إلى تكلس العقل وجموده،
الأمر الذي جعل البعض يتحدث عن نهاية الثقافة وبروز وحش اللاثقافة الذي هو سمة
العالم اليوم وهو أيضا أثر من آثار العولمة وصورة من صور هيمنة منطق السوق وسلعنة الإنسان.
ففيروس اللاثقافة قد تغلغل في جميع الميادين والمستويات: وهذا يبدو ظاهرا للعيان
إذا ما تفحصنا مجتمعاتنا العربية المعاصرة إذ طفت على السطح ظاهرة تحقير المثقفين
كما لاحظنا كذلك تزايد الانحطاط الذوقي وانتشار الفكر البراغماتي وطغيان المادة
وسيطرتها على العقول، وهو الأمر الذي حدا بالفيلسوف إدغار موران للحديث عن “مجتمع
المراهقين”، وهي المجتمعات التي تسود فيها ظاهرة اللاثقافة وينتكس فيها الخطاب
الثقافي. فأي مكانة ستكون للمثقف في خضم زمن اللاثقافة؟
المثقف في زمن اللاثقافة: برومثيوس مقيدا
كنا قد بينا سلفا ملامح زمن اللاثقافة وهو زمن لا يمكن أن نقول عنه سوى أنه
يتسم بانتكاس الخطاب الثقافي وإعادة إنتاج “ثقافة اللامعنى” على حد تعبير ميلان
كونديرا. في خضم هذا كله، ارتفع زعيق غير المثقفين وخفت في المقابل صوت المثقف إذ
لم يعد كما كان في الماضي روح المجتمع وقلبه النابض ولا هو من ضمن من يصنع التاريخ
ويشيد الحضارة.
اليوم أصبح المثقف “كائنا خرافيا” مهمته فقط إنتاج بعض المعرفة لجمهور قليل من
الناس لا يسمن ولا يغني من جوع، ولكن قبل أن نحلل هذه النقطة، من الأهمية بمكان
ضرورة الإشارة إلى ظاهرة هامة: ألا وهي “الثقافي والسياسي”، فقد لاحظ العديد من
علماء الاجتماع السياسي الذين انكبوا على دراسة المجتمعات العربية المعاصرة وجود
ظاهرة طغيان السياسي على الثقافي. فقد أصبح العديد من المثقفين بوق دعاية لأحزاب
أو لرجال سياسة وكأننا حقا إزاء ما عبر عنه د. سهيل إدريس بقوله “الثقافي يرضخ في
وقتنا الحاضر للسياسي”. تكثيفا للقول، لا يمكننا أن ننكر البتة أن العديد من
المثقفين باعوا هممهم وانغمسوا في السياسة حتى النخاع. وهذا الأمر ساهم في ازدياد
الطغيان السياسي على الثقافي من جهة وكذلك استغلال فكر المثقف وعقله لخدمة
أيديولوجيات سياسية أو مصالح حزبية ضيقة من جهة أخرى. وهذا كله في رأيي سيؤدي إلى
تراجع قيمة المثقف في المجتمع وخاصة الحد من حرية تفكيره وإبداعه ونبوغه ليصبح
شأنه شأن برومثيوس وهو مقيد. يرى المفكر التونسي محمد الطالبي (رحمه الله) أن
العديد من المثقفين العرب هم موظفون لدى سلطاتهم وهو في رأيه مقتل الثقافة الحقيقي.
فـ”مثقف السلطة” لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يمتلك إرادة التغيير التي
تحدثنا عنها سلفا والتي تظل سمة مميزة تطبع بعمق شخصية المثقف.
هذا بخصوص الثقافي والسياسي، وإنما أردت تناول هذه القضية لما تكتسبه من أهمية
راهنية وكذلك ثقافية وحضارية. نعود الآن إلى تناول قضية فشل المثقف وتراجع مكانته
زمن اللاثقافة. بادئ ذي بدء من الأمور التي لا يختلف فيها اثنان هو عجز النخبة
العربية اليوم عن تقديم مشروع ثقافي يسهم في تشكيل وعي تاريخي يجعل المجتمع قادرا
على الفعل والقبض على مصيره. هذا العجز فسح المجال أمام المتطفلين من كل حدب وصوب
ليرتفع زعيقهم ويكون في المقابل “صوت المثقف كموسيقى هادئة تكون غير مسموعة بين
صليل السيوف ودوي طلقات المدافع″، على حد تعبير الباحث المغربي
محمد الإدريسي. هذا كله يجعل خطاب المثقف خطابا أجوف حتى ولو كان يظهر في وسائل الإعلام
الحديثة ويدلي بآرائه أو يكتب في الصحف والمجلات أو يؤلف الكتب؛ فإنتاجه المعرفي
غير مرئي للمجتمع لأن تلك الرابطة القوية التي كانت تصله بالمجتمع قطعتها تلك
الانفجارات التي تحدثنا عنها والتي تعد العولمة أبرزها. فهل يعني ذلك ضرورة
التسليم والانسحاب بذلك من الساحة وإدراك أن الزمن اليوم غير زمن المثقف أم أنه
يتوجب عليه أن ينتج رؤية جديدة يساهم من خلالها في بث روح فتية في الثقافة لتلملم
جراحها وتستعيد حيويتها وديناميكيتها؟
في رأيي أنه على الرغم مما يسم عالمنا المعاصر من تناقضات صارخة أسهمت وبعمق
في انهيار صرح الثقافة، يتوجب على المثقف أن يبقى على الساحة يقاوم ويكافح شتى
خطابات اللاثقافة. فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينسحب ويخفت صوته لأن ذلك سيكون
“إيذانا بخراب العمران” إذا عبرنا عن ذلك تعبيرا خلدونيا.
فالمثقف قاد مسيرة الفكر الإنساني من عصر النهضة الأوروبية إلى الثورة
الصناعية مرورا بالثورة الفرنسية والنهضة العربية الحديثة. فكل هذه الأحداث
الصاخبة لا يمكننا أن نكتشف من تحت ركامها إلا ذلك الفكر الذي يعتمل وفق نظام هادئ
وصارم: إنه فكر المثقف الذي ما انفك ينشد التغيير ويروم “الانتقال من حال إلى حال”
كما يعبر على ذلك العلامة ابن خلدون في ‘المقدمة’. وفي هذا الانتقال لا بد من جسر
ينتقل عبره المجتمع والذي لا يمكن أن يكون إلا المثقف وهذا هو في رأيي معنى
“الثورة الأبدية” التي تحدث عنها نجيب محفوظ والتي بقيت إلى اليوم محفوظة في جزء
دافئ من ذاكرتي وفؤادي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق