صناعة السعادة – وليام ديفيزه - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الخميس، 25 أكتوبر 2018

صناعة السعادة – وليام ديفيزه



في فبراير 2016 أعلنت الإمارات إنشاء وزارة للسعادة، كان ذلك استجابة لـ”موضة” عالمية تستهدف إدراج مفهوم السعادة العمومية في البرامج السياسية. الأكاديمي البريطاني وليام ديفيز أستاذ علم الاجتماع والاقتصاد السياسي خصّصّ كتابه “صناعة السعادة” لدراسة هذه الظاهرة؛ ظاهرة دخول نظريات ومفاهيم السعادة في بُنَى القياس والمراقبة والحوكمة. يشير في المقدمة إلى أن الاهتمام بـ”علم” السعادة في السنوات الأخيرة يعود إلى سببينالأول يتمثل في طبيعة الرأسمالية، فتحسين حياة البشر يساعد في التغلب على المشاكل الاقتصادية، وقد أشارت دراسات عدة لما تكبده تعاسة الموظفين والعمال من خسائر بالمليارات على الاقتصاد الوطني الأمريكي مثلاً. والثاني يتعلق بالتطورات التقنية في مجالات قياس وتحليل مستوى السعادة، مع كل ما يعتورها من إشكاليات أخلاقية ومنهجية ناقش الكتاب بعضها.
في البداية تتبع المؤلف المحاولات التاريخية لإخضاع مفهوم السعادة، أو اللذة للقياس والضبط الرياضي، وأشار لجهود جيرمي بنتام الشهيرة، ولايبزيغ الألماني، وغيرهم. ثم تناول ظهور وذيوع المدرسة السلوكية التي قادها واطسون وأدت إلى ثورة في النصف الأول من القرن الماضي في العلوم النفسية، وكانت ترتكز على تكميم -أي التحويل إلى كمية مقاسة- الظاهرة البشرية في انفعالاتها وسلوكياتها. ثم يحلل المؤلف في فصل هام كيف أن انتقاد الفردانية والنزعات الاستهلاكية وحيونة الانسان في سوق المال وتمدد السوق وتضخم المادية النفعية استثمرها علماء الاقتصاد السلوكي في رسم مسارات منهجية جديدة، فأحد أطروحاتهم الأساسية تقوم على أن استمالة الحس الأخلاقي والهوية الاجتماعية للمستهدف أكثر فاعلية من استمالة مصلحته الشخصية، فمثلاً أظهرت نتائج بحثية أن تقديم زيادات الأجور للموظفين باعتبارها منحة وليست مقابل مجرد للعمل الإضافي يؤدي بفعالية إلى استخلاص جهد أكبر من العاملين، لأن “الموظف يتورط حينها بعلاقة تبادلية أكثر إلزاماً”، وهكذا تحوّلت العلوم السلوكية إلى أدوات للسيطرة الاجتماعية تصب في مصلحة السلطةوقد رصد أيضاً تجليات أخرى للظاهرة مثل تقديم بعض الشركات لرسائل اجتماعية وإعلانات عامة المحتوى وكأنها ليست حملة ترويجية (على المستوى العربي لاحظ مثلاً إعلانات شركة زين للاتصالات).
وقد واجهت الدراسات السلوكية في مهدها صعوبات كثيرة في جمع المعلومات عن المستهدفين، ثم دخلت تحولات جذرية على حقل جمع المعلومات للقياس والتنبؤ وذلك عبر (1) صعود ما يسمى بالبيانات العملاقة (Big Data) و(2) التطورات المريعة في حقل النماذج التحليلية والخوارزميات الحديثة، (انظر للتوسع: كتاب التحليلات التنبؤية لايريك سيجل، من منشورات مكتبة جرير، فهو يساعد على فهم الكتاب الذي نحن بصدده)، وكذلك (3) توظيف انتشار “النرجسية” لاستخراج المعلومات الشخصية لا سيما في شبكات التواصل الجديدة (الفيسبوك أنموذجاً).
يعاود المؤلف تركيز نقده لظاهرة تكميم أو ترييض مستوى السعادة الإنسانية وإخضاعها للمراقبة والتخطيط من قبل الحكومات وشركات الدعاية والمؤسسات التجارية الكبرى، ويقول إن الأفراد إذا شعروا بأنهم أسرى قوى لا يستطيعون التأثير عليها -في البلدان الديموقراطية فضلاً عن الدكتاتوريات القمعية- سواء فيما يتعلق بالأمن المالي، أو الصور التي تقذف في وجوههم كل يوم عن الكمال الجسماني، أو مقاييس الأداء عديمة الشفقة، أو في ضغوط وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، إذا واجهوا كل ذلك سيكونوا معرضين بلا ريب للانهيار النفسي. فالمشكلة أوسع وأكثر عمقاً من تبسيط المعادلات الرياضية واستبانات قياس سعادة الأفراد، فالمسألة تتعلق بتوزّع السلطة في مجتمع واقتصاد ما.
تكمن المشكلة أنه -وخلال التاريخ الطويل للتحليل العلمي للعلاقة بين المشاعر الذاتية والظروف الخارجية- هناك دائماً ميل إلى اعتبار أن تغيير المشاعر الذاتية أسهل، وهذا صحيح بالطبع، ولكنه ليس بالضرورة هو الخيار الصحيح، إنها استراتيجية متكررة لتحييد النقد السياسي.
يقول ديفيز:”إن قدر العثور على حلول اجتماعية وسياسية للمشاكل التي تسبب البؤس يبدأ من الكفّ عن النظر إلى تلك المشكلات من ناحية سيكولوجية محضة“. ويتسائل:”ماذا لو أن حصة من عشرات المليارات من الدولارات التي تنفق حالياً على رصد أقل التقلبات التي تطرأ على عقولنا ومشاعرنا وأدمغتنا وتوقعها ومعالجتها وتصورها والتنبؤ بها، كانت تنفق بدلاً من ذلك على تصميم وتنفيذ أشكال بديلة للتنظيم السياسي والاقتصادي؟!”.
وفي ملاحظة ذكية يقول المؤلف في مطلع الكتاب مقدماً إشارة لامعة تكشف عن أحد الانتقادات المركزية لمشكلة أطروحات السعادة التي يُروج لها:”غالباً ما يقال إن الاكتئاب (غضب انقلب إلى الداخل)، وفي كثير من النواحي فإن علم السعادة (نقد انقلب إلى الداخل) على رغم كل توسلات مختصي علم النفس الإيجابي كي نبصر العالم من حولنا!”.
صدر الكتاب عن عالم المعرفة عدد سبتمبر ٢٠١٨م، ويقع في ٢٥٠ صفحة تقريباً، ويعيب الكتاب مع أهميته تشوش الأفكار وافتقارها للتنظيم والتراتب المنطقي نسبياً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق