ما هو العقل؟ - عبد الحليم عباس - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الثلاثاء، 25 ديسمبر 2018

ما هو العقل؟ - عبد الحليم عباس


(1)
إن معرفتنا بالكلمات لا تبدأ بالمعاني المجردة، حتى الفلاسفة لا يُولدون ومعهم المعنى المجرد للكلمات، وهذا يجعلنا نتساءل إن كان هُناك أصلاً معنى مجرّد للكلمات سابق للاستخدام العادي المتعيّن، الأمر الذي يضعنا أمام مسألة أصل اللُّغة نفسها.
 
ليس في وسعي تناول الأصل التاريخي للُّغة ومتى بدأ الإنسان يستخدم المفاهيم المجردة، فهذا موضوع بحث أكاديمي طويل، ربما هُناك من يكرِّس له العمر كله، ولكنني أفكِّر كإنسان عليه أن يواجه قدره الخاص في هذه الحياة، والذي يتمثّل في الاستجابة الفورية لتحدي الحياة نفسها، قبل أن يحصل على المعرفة اللازمة لذلك.
 
لك أن تتخيل، بغض النظر عن رأيك في نظرية التطوُّر، أسلافنا الأوائل الذين واجهوا الحياة بلا سابق معرفة، تماماً مثل إخوتهم ورفاقهم الآخرين في الطبيعة، لم تكن "المعرفة" قد تراكمت كما نعرفها الآن، كل الذي كانوا يملكونه هو إرثهم الطبيعي الأكثر غريزيةً وفطريةً الذي انحدر إليهم من أسلافهم، والذي تكفلّت الطبيعة بحفظه، لأسباب تخصّ الطبيعة وحدها، أسباب تتعلّق بما هو خارج الإنسان.
 
مثلاً إذا كُنت تعيش في مجتمع الغابة الطبيعي -والذي نصفه بالوحشي- فلن يكون لديك الوقت الكافي للتفكير في الأشياء وفهم العالم قبل الاستجابة للحياة نفسها، وبدلاً من فهم الحيوانات المفترسة فهماً علمياً عليك أن تمتلك غريزة البقاء، وليس أمامك فرصة جيدة للتجربة والخطأ والتعلُّم من الخطأ، فأن تخطيء قد يعني أن تفقد حياتك. ولك أن تتساءل: ما الذي قد يعنيه العقل في مثل هذه الظروف؟
 
نحن ما زلنا، وبعد مرور عشرات الآلاف من السنين، نواجه الموقف نفسه، وبشكل ربما أكثر تعقيداً: علينا أن ننخرط في الحياة، وفي نفس الوقت علينا أن نفهمها، وأن نفهم أنفسنا والآخرين والعالم، أحياناً من أجل المعرفة، وكثيراً من أجل الحياة نفسها، إذ يجب عليك أن تفهم بينما تحاول أن تستمر في الحياة، وتستمر في الحياة بينما تحاول أن تفهم، وهذه هي تقريباً مسيرة كل البشر وقدرهم الأبدي، باستثناء تلك الأقلية المحظوظة -أو ربما التعيسة- التي قد لا تجد نفسها بحاجة إلى الفهم من أجل الحياة.
 
وأنا هُنا أتساءل عن العقل من قلب المعركة، معركة الحياة، فالمسألة ليست ترفاً، إلا بشكل نسبي وذلك إذا ما تذكرنا أولئك الذين يخوضون معركة الوجود دون أن يملكوا ترف التساؤل عن أي شيء، إنهم يشعرون فقط، أي يعيشون واقعيّاً ما نعيشه بالفكر نحن الذين نملك ترف التفكير والكتابة، ولكنني مع ذلك لست مترفاً إلى الحد الذي يسمح بتكريس حياتي من أجل المعرفة، مثلاً من أجل أن أفهم ما هو العقل وما أصل اللُّغة، لأنني أتساءل من قلب المأساة التي أعيشها، ولا يُمكنني الإفلات منها لكي أبحث عن الحقيقة، فالحقيقة ليست مهمة في ذاتها بقدر ما هي مهمة لأجل معركة الوجود التي نخوضها.
 
ولذلك فإنني سأُوجه بصري إلى الواقع الذي هو في المتناول، سأفكِّر في العالم كما أراه من موقعي هُنا في هذه اللحظة وهذا المكان، لأنني ابن هذه اللحظة وهذا المكان. وبغض النظر عما تقوله الكُتب، وخصوصاً تلك المعنيّة بالأفكار والمفاهيم المجردة، فإن الذي أراه من هُنا من قلب الواقع عندما أفكِّر في مفهوم كالعقل، هو أن هذه الكلمة لم تبدأ تجربتي معها ولا تجربة الناس الآخرين من الكُتب والمعنى الفلسفي أو الأنطولوجي.
 
ونحن الذين نتكلّم ونفكِّر ونكتُب باللغة العربية، معنيون بأن نفهم دلالة كلمة "العقل" وفعلها تأثيرها كما يُوجد في سياقنا وواقعنا، ولن يجدينا بشيء أن نبحث خارج هذا الواقع ما دامت الكلمات تشير إلى الواقع المتعيّن المحدد، فعندما أقول عقل باللغة العربية الآن في هذه اللحظة من التاريخ فأنا أشير إلى شيء ينتمي إلى السياق الذي أُوجد فيه، وعندما أسمع هذه الكلمة في هذا السياق فلا ينبغي أن أبحث عنها في المعاجم ولا في الكُتب الفلسفية، لأن الذين يتكلّمون معي يعيشون هنا في الواقع والآن، ولا يعيشون في الكُتب ولا بُد أنهم يقصدون شيئاً موجوداً هنا والآن، وعليّ أن أعرف ما هو هذا الشيء.

ولكن ينبغي الانتباه إلى وجود لُغات أُخرى في مجتمعات متعددة الأعراق كالسودان على سبيل المثال، وفي هذه اللُّغات هُناك مقابل -ليس بالضرورة مطابق- لكلمة "عقل"، هذا المقابل غير العربي يتعلّق بواقع حي مُعاش، وليس بالضرورة بمعنى مجرد، ومن هُنا يعمل على التأثير جنباً إلى جنب مع الكلمة العربية "عقل"، في الواقع الاجتماعي الحي.

وعلى الرغم من أننا نعيش استلاباً مزدوجاً فيما يتعلّق باللُّغة، استلاب تجاه الحضارة الغربية الحديثة، وآخر تجاه الماضي والتُراث، بحيث نستخدم كلمات لا تنتمي إلى واقعنا الراهن، إلا أننا في النهاية لا يُمكننا أن نعني ونقصد ما كان يعنيه التراث أو ما تعنيه الحضارة المعاصرة، ببساطة لأننا لا نعيش في الماضي وكذلك لا نعيش في تلك الحضارة وإنما نعيش هُنا في واقعنا الراهن والمحدد، والذي حتى إن أشرنا اليه بكلمات ذات دلالات ومعاني غريبة، إلا أنه كواقع يبقى موجوداً وحقيقياً هُنا ، بل هو الواقع الحقيقي الوحيد بالنسبة لنا.

ولذلك عندما نفكِّر في العقل، يجب أن لا نذهب بعيداً، يجب أن نبدأ البحث هُنا، في الاستخدام الشائع، والحي والمؤثر، فهذا هو المعنى الذي يحرك الحياة الخاصة بنا، وليس المعنى المجرد الذي حدده الفلاسفة والمفكرون، خصوصاً أولئك الذين لا ينتمون إلى سياقنا الراهن، ولا أعني بالسياق الراهن " سياق الحضارة الإسلامية"، فالسياق يجب أن يكون أكثر تحديداً من ذلك، من أجل يكون مفيداً كبنية لتحديد ولفهم الظواهر، وإلا فسيكون شيئاً فضفاضاً، موجوداً في الخيال فقط، في الكتب والخطابات.

(2)
تجربتنا مع كلمة "العقل" تبدأ مع الاستخدام اليومي العادي، مع عبارات مثل الإنسان العاقل في مقابل الانسان المجنون، أو الإنسان العاقل في مقابل الانسان المتهور المندفع والذي لا يعرف مصلحته، أي لا يعرف "الواجب الاجتماعي". ومن المفيد هُنا أن نذكر عبارة "المرأة العاقلة" لأنها ذات دلالة مهمة.

فمن هي المرأة العاقلة؟ لا تحتاج الإجابة إلى تفكير طويل، هي المرأة التي تعرف مصلحتها، والتي تعني مستقبلها النهائي الذي يشمل الزواج والأُسرة إلى جانب أشياء أُخرى أقل أهميةً مثل الوظيفة، أو الدور الاجتماعي. امرأة عاقلة لا تعني امرأة تفكِّر مثل "هيجل"، إنما تعني امرأة تتصرف وفقاً لمعايير محددة في سياق اجتماعي وثقافي محدد. أما "امرأة عقلانية" فهذه كلمة شاذة غريبة ونادرة الاستخدام. أما "الرجل العقلاني" فهذه قد تكون عبارة القصد منها الحط من القدر الديني لهذا الرجل، فهو عقلاني يستخدم عقله فقط لفهم الدين ويتبع عقله، إذن فهو ضال والعياذ بالله!

صحيحٌ أننا في أوساط المثقفين نجد أن "العقلانية" هي أمرٌ إيجابي على العموم، ولكن هُنا أيضاً بشرط أن لا يتعلّق الأمر بتقرير نتائج غير مرغوب فيها.

كثيراً ما نقول، عن حق، أن العقل الديني سائد ومسيطر في مجتمعنا، ولكن في الوقت نفسه نلاحظ أن رجال الدين أنفسهم غير راضين عن مستوى التديُّن في المجتمع، وغير راضين عن الأخلاق. أين هي إذاً سيادة وسيطرة العقل الديني؟ يبدو أن هُناك نوعاً من المفارقة والتي عبرتُ عنها في موضع آخر بالعبارة "عقل ديني وسلوك لا-ديني". هذا التناقُض يوضّح مدى هامشيّة ما ندعوه "بالعقل" على أرض الواقع، أو بالأحرى يدل على أن العقل الحي والشغال والفاعل في الواقع، هو شيء آخر مختلف عن العقل بالمعنى الذي يوحي بالفكر والتفكير.

فليس المهم هو كيف يفكِّر الناس، أو بماذا يعتقدون، وإنما المهم هو ماذا يفعلون، وكيف يسلكون في الواقع. فالمُقابل الواقعي لكلمة "عقل" ليس هو التفكير، وإنما هو السلوك الذي يسلكه الناس، بغض النظر عما يفكِّرون فيه أو يعتقدونه، أما المقابل الذهني المجرد لهذه الكلمة، فمن يهتم به طالما أنه مجرد أي غير واقعي. وإذا أردنا أن نفهم العقل في مجتمعاتنا فإن أساليب التفكير والمحاجَّة الموجودة في الخطابات المختلفة لا تقول شيئاً عن العقل، ويجب أن نبحث عن العقل الحقيقي في الاختيارات الواقعية في الفعل والسلوك. ففي مجتمع يعيش حالة من الفصام بين الفكر والسلوك، فإن دراسة الفكر لا تخبرنا شيئاً مفيداً عن السلوك، لأننا ببساطة قد نفكِّر ونقول أشياءاً، ونفعل أشياء مختلفة، والسؤال عن هذا التناقُض إجابته كذلك تُوجد في الواقع لا في الفكر.

كثيراً ما نقول إن أزمتنا هي أزمة عقل، هي أزمة في الفكر، ولكن عندما ننظر إلى الأفكار التي نجمع جميعنا على أن الناس يؤمنون بها، لا نجدها متحققة في الواقع بنفس هذا الاجماع. وكما ذكرت قبل قليل الفكر الديني يسيطر على العقل ولكن لا يسيطر على السلوك، الأخلاق أوضح مثال، وكذلك يُمكن أن نقول المثل عن الفكر الحديث في الأوساط التي تتبناه كفكر، لا تجده كسلوك بنفس القدر، الديمقراطية وقبول الآخر مثلاً. قد يقول البعض إنها أزمة واحدة لعقل واحد، ولست استثناءاً منهم. ولكن إذا كان هـناك انفصال بين العقل والواقع وأزمة، فإن الواقع هو الشيء الحقيقي، وما "العقل/الفكر " إلا شيء هامشي، إذ لو كان غير ذلك لكانت له الكلمة الأعلى على الواقع.
قد يعترض أحدهم بأن هذه "ماركسية"، وهذه هي ثنائية "بنية تحتية/بنية فوقية" نفسها. أقول أين المشكلة هنا، لتكن ماركسية أو أي شيء آخر. يعتقد البعض أن مجرد وصفهم لفكرة ما بالماركسية مثلاً يعني تفنيدها، على أساس أن خطل الماركسية هو من المعلوم بالضرورة، دون أن يفكِّر في نقد الفكرة نفسها، وهذه مشكلة في التفكير (وفي العقل بكل تأكيد) ولكن هذا العقل نفسه قد يسلك الواقع وفقاً لشروط الواقع، وفي تناقض مع ما يعتقد به، وأيضاً دون أن يفكِّر في هذا التناقُض على أنه دلالة على أسبقية "التحتي" على "الفوقي"، أي أسبقية الواقع الموضوعي على الاعتقاد والقناعات حتى الدينية منها. مثلاً قد تجد شخصاً عُنصرياً ومتديناً في نفس الوقت، وقد يفكِّر في العُنصرية كإخفاق أخلاقي وديني، ولكنه لا يفكِّر في أسباب هذا الإخفاق الأخلاقي والديني، والتي هي أسباب مادية واقعية، بمعنى أنها أسباب موجودة خارج حيّز الفرد.

على أن التأكيد على أسبقية العقل الحي المتجذّر في الواقع المادي لا يعني القبول به كأمر حتمي بالطبع، وإنما يعني أن التركيز يجب أن يكون على الواقع الموضوعي، على العلاقات القائمة في الأرض، مثل علاقات الاقتصاد والعمل وعلاقات التبعية والولاء والمصالح، العلاقات التي تحكم الواقع قبل أن تحكم الذهن. وذلك من أجل فهمها وتغييرها، ليكون الناس أكثر حرية. وهُنا فقط يُمكن أن يكون هُناك عقل بالمعنى الفلسفي، فالعقل الذي يفوق الواقع يبدأ مع قدرة الإنسان على تجاوز الواقع من خلال الحرية، وفي غياب الحرية ينحط العقل ليكون مجرد أداة للخضوع والتكيُّف مع الأمر الواقع، ويكون الأكثر عقلاً هو الأكثر خضوعاً وتكيُّفاً. وفي أزمنة الأخطار قد تكون هذه حقاً هي مهمة "العقل"، هكذا يكون الاحتماء بالقبيلة مثلاً هو عين العقل!

ولكنها ليست المهمة الوحيدة الممكنة للعقل في مواجهة الأخطار، إذ يُمكن بل "يجب" أن يكون العقل هو سلاحنا في مواجهة الخطر، وفي معركة الحرية أيضاً، أي في معركة تغيير الواقع، ولكن كلمة "عقل" هنا لا توحي بالفهم والإدراك بقدر ما توحي بالرغبة والإرادة، فهو هُنا عقلٌ يريد، ولأنه كذلك فهو أيضاً ليس شيئاً متعالياً على الواقع، إنه في الحقيقة مجرد استجابة مختلفة، قوة مندفعة في اتجاه آخر مختلف. العقل هُنا يعني إرادة الحياة بشكل مختلف ومعايير مختلفة، الحياة بوعي وحرية وكرامة على سبيل المثال.





عبد الحليم عباس
كاتب سوداني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق