خسوف المثقف العضوي - حسن العاصي - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الاثنين، 3 ديسمبر 2018

خسوف المثقف العضوي - حسن العاصي


على الرغم من المحاولات التي أظهرتها النخبة العربية في مواجهة أسئلة التحدي الحضاري الغربي، إلا أنها أجرت مقاربات خاطئة أفضت إلى نتائج كارثية على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي، فقد اعتمدت النخبة -بمعظمها- فلسفة تؤمن بأن الإنجازات الحضارية الغربية، العلمية والفكرية يعود سببها إلى الحضارة العربية الإسلامية القديمة فقط، وغاب عنها أن إعادة إحياء هذه الأفكار في الحاضنة العربية في مجتمعات مازالت ذات صبغة عشائرية وقبلية سوف تولّد تطورا مبتورا وحداثة مشوهة.
هل يمكننا القول، إذن، إن أزمة الفكر العربي الحديث مصدرها أنه ظل فكرا نخبويا طلائعيا تؤمن به -نسبيا- العقول المثقفة المعزولة عن الناس، وأن هذه الأزمة تشمل كافة التيارات والأفكار الاشتراكية اليسارية والليبرالية والقومية وتلك الاتجاهات التي تعبر الإسلام السياسي؟
لقد انتكست الأفكار الماركسية بالرغم من إرثها المضيء نظريا، ولم يستطع “النعيم” الشيوعي النفاذ عبر أنظمة عربية متسلطة بتوجهات قبلية، يدعمها تحالف المصالح بين التجار ورأس المال وشيوخ القبائل والبيروقراطية الفاسدة، ويحميها الغرب الاستعماري، وانتهى الحال بالرفاق إما في المعتقلات وإما مطاردين أمنيا، وبقيت الثروة بين أيدي قلة نخبوية التهمت كل شيء سياسي واقتصادي وثقافي، بل ابتلعت الحياة ذاتها.
وحظوظ الفكر القومي لم تكن أفضل، فوحدة الأرض واللغة والتاريخ، لم تشفع لشعارات الوحدة القومية التي أصبحت مفهوما يثير إشكالية معرفية بعد هزيمة حزيران العام 1967.
والأفكار الليبرالية ظلت نخبوية بعيدة عن الجماهير، بسبب انشغال الليبراليين بموضوع الحريات السياسية وإغفالهم المطالب الاجتماعية التي تمس الشرائح الشعبية من الناس. وكذلك الفكر الديني الذي يعاني من الركود وغياب الاجتهاد الفقهي منذ أكثر من قرن، ناهيك عن قيام الجماعات السياسية الإسلامية بتأويل النصوص الدينية لخدمة مشروعها، وفشلها في بلورة البديل المختلف القادر على إجراء مقاربات مغايرة لما هو قائم.

في الخواص والعوام

في تقسيمات كانت موجودة في المجتمع البابلي، قسّم قانون حمورابي المجتمع إلى ثلاث طبقات، “الخواص، العوام، الأرقاء”. فكان يطلق على أعضاء الطبقة الأولى “الأويلوم” وهم الأولون السادة، وأفراد الطبقة الثانية يسمون “مشكينوم” وهم المساكين حقوقهم ليست كاملة رغم أنهم من الأحرار، والطبقة الثالثة هم “وردوم” الرقيق الذين ليست لهم أي حقوق.
لا يفاجئنا أن هذا التقسيم مازال معمولا به في غالبية الدول العربية، فمازال هناك علية القوم، وهناك خدمهم. مازالت قضايا العدالة الاجتماعية والمساواة مجرد شعارات لا قيمة لها، في مجتمعات ماضية في تغوّل واستحواذ نخبة النخبة على الثروة.
في المشهد العربي تبرز علاقة ملتبسة مربكة هي ما جمع بين النخبة ودلالاتها الثقافية “الخواص” وبين الجمهور الواسع “العوام”. هذا المفهوم منح النخبة مكان الصدارة المجتمعية، ومنحها تفويضا لإدارة شؤون العباد، حيث استسلم “العوام” لهذا القدر بتربص ينتظر ساعة الخلاص.
سيطرت النخبة “الخواص” على الثروات العربية، وعلى كافة مفاصل الدولة، ووظفت القضاء والتعليم والقطاع الصحي لمصالحها، وقامت بتحويل الجيوش والأجهزة الأمنية إلى أذرع لها تبطش باسمها. فيما أصبح العامة الذين يشكلون حوالي 80 بالمئة من الناس، عبارة عن طوابير من الفقراء والمهمشين والجائعين.
إن الدول العربية تستحوذ على أكثر من 55 بالمئة من احتياطي النفط العالمي. ومن بين الدول العشر صاحبة أكبر احتياطي، هناك خمس دول عربية تمتلك ما مجموعه 713 مليار برميل نفط. هذه الدول هي المملكة العربية السعودية والعراق والكويت والإمارات وليبيا. وبلغت عائدات دول الشرق الأوسط سنة 2017 ما مجموعه 325 مليار دولار، أي 41.3 بالمئة من عائدات النفط في العالم. وكان نصيب السعودية، ثاني أكبر منتج للنفط في العالم، منها 133 مليار دولار.
فيما بلغت الثروات الشخصية في العالم ما مجموعه 202 تريليون دولار، بلغ نصيب العرب منها 3.2 تريليون دولار. هذه الثروات العربية تتركز بين أيادي النخبة “الخواص” التي حولت الأوطان إلى مزارع أهلية خاصة. بينما بلغت نسبة الذين يعانون من فقر مدقع في العالم العربي 13.4 بالمئة من السكان حسب آخر تقرير تنمية بشرية صادر عن الأمم المتحدة.

النخبة المثقفة

أظهرت الأحداث في العالم العربي أن النخبة العربية -بمعظمها- إما أن تكون من المثقفين والمتعلمين الذين يجلسون على كافة الموائد، وهم النخبة المرتزقة التي تنحاز إلى من يحقق مصالحها، ويشتري سلعتها – المعارف ومهارات الإقناع- بأغلى ثمن، تراهم يهتفون مع الجماهير تارة، ويهللون للحاكم تارة أخرى، دون أن تعرف لهم وجها حقيقيان وإما أن تكون من نخبة حاشية السلطة، وهم عادة يكونون أصحاب الولاءات ويتبعون الأجهزة الأمنية، عملهم الوحيد تبييض وتلميع وجه الأنظمة.
إن النخبة المثقفة الحقيقية العربية لا نسمع صوتها، فهي متشتتة ومتفرقة، منشغلة بالشقاق النظري، ومتابعة ما يجري من خلف النوافذ. وهي في الواقع جوهر الإشكالية وأهم سبب لأزمة الفكر لاعتزالها واغترابها عن هموم الأمة، وانخراطها في معارك هامشية لا تمت بالأمراض الحقيقية التي استوطنت الجسد العربي المنهك.
فقد كشفت التطورات الملتهبة في المنطقة العربية عن جملة من الأسئلة والمفارقات المنهكة حول مكانة الجماهير الشعبية العربية وحقوقها في المواطنة والعدالة الاجتماعية، والتخلص من الاستبداد والفساد، في أولويات اهتمام النخبة العربية، في منطقة تغرق في مستنقع أزماتها التي لا تنتهي.

صورة المثقف

منذ أواسط القرن الماضي، المرحلة التي شهدت استقلال الدول العربية، تم تحديد صورة المثقف العربي الذي رسمت ملامحه الأحداث والأفكار التحررية المناهضة للاستعمار التي كانت سائدة في تلك الفترة. حيث استلهم المثقف العربي مكانته من تجارب المثقف الغربي النقدي وما أفرزته هذه التجربة من معارف نقدية وافكار وعلوم تنتصر للإنسان في مواجهة السلطة القمعية. حيث قام المثقف العربي بتقليد ما قام به المثقف الغربي من مواجهة العسف وتقييد الحريات التي مارسها الاستعمار بأنماط متعددة في طول البلاد العربية وعرضها. فتبلورت صورة المثقف العربي في خضم القضايا العربية الكبرى، بدءا من معركة التحرر من الاستعمار الغربي، مرورا بمعركة تحرير فلسطين، إلى مناهضة الإمبريالية وبناء الأوطان. ثم انخرط هذا المثقف بمهام تشكيل الهوية والسيادة والوحدة الوطنية، ومهام الحريات العامة، فكان المثقف الملتزم والعضوي والثوري والمناضل هي تسميات عكست الطابع الثقافي لتلك الحقبة الزمنية.
ونجد أن المثقف تحول حينها إلى حالة رمزية واكبت جميع الأحداث التي ألمت بمنطقتنا. في عهد الثورة الجزائرية ساهم المثقفون العرب في تحويل المزاج العام للشارع العربي إلى حالة مناهضة للاستعمار الفرنسي والوجه القبيح للغرب. وفي فترة الثورة الفلسطينية احتل المثقف العربي مكانته الريادية في العداء للصهيونية وابنتها إسرائيل. وفي المرحلة الناصرية أيضا كانت للمثقف العربي مساهمته في جعل هوى الشارع العربي قوميا وحدويا مؤمنا بمستقبله.
 إن المثقف العربي الذي آمن بثورات التحرر العربية، وانخرط بحماس في القضية الفلسطينية، وارتفع صوته لنصرة القومية العربية، وسحرته الثورات الاشتراكية، وحلم بالمدينة الأفلاطونية، وجد نفسه خارج الأطر التي شكلت صورته عبر سبعين عاما، حيث انهارت الأيديولوجيات الكبيرة من الماركسية التي أبهرت المثقفين العرب وسواهم، إلى القومية التي التف حولها كل من آمن بفكرة الصحوة العربية ومناهضة الاستعمار، فانتهت إلى عصبية فكرية عنصرية الميول، عبورا للناصرية التي أفسدتها النزعات العسكرية، وتراجع الانشغال بالقضية المركزية للعرب -فلسطين- إلى أدنى مستوياته.

المثقف كما عهدناه

المثقف العربي كما نعهده أصبح شيئا من الماضي، تخطته الأحداث والتحولات التي تجري -ولا تزال- في المنطقة العربية، خاصة بدءا من العقد الثاني للألفية الثالثة. فقد انكفأ المثقفون اليساريون العرب عقب انهيار الاتحاد السوفييتي واعتبروا أن الأفكار التي تدعو إلى البناء كفرا بعد “البروسترويكا”. والمثقفون القوميون تمادوا في التطرف والعنصرية كلما تكشّف أن نموذج الدولة القومية لا يخرج منه إلا التغول في القمع والاستبداد. أما نظرائهم المثقفون الإسلاميون فتبين أنهم عاجزون مثل الآخرين، وغير قادرين على تقديم نموذج أفضل، فكانت الطامة الكبرى أن تحول جزء منهم إلى حالة عدمية تكفيرية بذرائع متخيلة.
إن الأزمات العربية المتعددة والمتتالية أحدثت إرباكا شديدا في إيقاع المثقف العربي، بصورة تشتت مكوناته وأدخلته في تجاذبات فكرية وأحداث لم يكن متهيئا لمقارباتها. وبدلا من التوقف عن التقديس التراثي للالتفات عما هو حاضر ومؤثر، تجد العديد من المثقفين يحاولون إعادة إحياء العظام وهي رميم. أما المثقفون الحداثيون فقد اتبعوا منهاج النقل والاتباع لا الخلق والإبداع، فوقعوا في فخ التبعية للمذاهب الفكرية المتنوعة. هذا يفسر في مقاربته جزءا من أسباب غياب الدراسات الفكرية والعلمية، والخطط الاستراتيجية الجيوسياسية في معظم الواقع العربي، والتي تقوم على مبادئ محلية تراعي في تشكلها الظروف والمكونات الوطنية.
وبعد أن تقوضت الفكرة الاشتراكية بنموذجها السوفييتي، واضطربت الديمقراطية الغربية، وأخفق أتباع التيارات الليبرالية والقومية والدينية، وفشل اليمين واليسار والوسط جميعا في إحداث أي اختراق بجدار الواقع العربي البغيض، أين سيقف المثقف العربي وماذا سيفعل؟ وماهي خططه لمواجهة كل هذا التطرف والتشدد والعنصرية والطائفية المذهبية، والانقسامات العرقية التي ظهرت جلية، صريحة وواضحة في عموم المنطقة؟ وكيف سينهي حروب الإبادة، ويوقف ثقافة الاجتثاث والاستئصال؟
ما الذي ظل للمثقف العربي المسكين في مرحلة الانهيارات المتتالية التي مسحت ملامحه، وتعيد الآن رسمها من جديد، في ظل صعود الدولة الأمنية التي لا تقيم اعتبارا لكافة قيم الحريات العامة وسلطة القانون التي ينتمي لها المثقف؟ ما الذي ظل من صورة المثقف العربي بعد التطورات المرعبة التي تتوالى في أماكن متعددة من الوطن العربي، والتي أحدثت تغيراً جذرياً على كل ما نعرفه، وكل ما هو مألوف لدينا في المشرق والمغرب؟
كثيرة هي الأسئلة التي تتواتر من رحم الواقع العربي المتخم بالأزمات، ظلت دون إجابات واضحة. ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، تحولت إلى أسئلة مصيرية وجودية، تعبر عن حالة الانسداد والاستعصاء الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ وجدت معظم الشعوب العربية نفسها في حالة من التيه تعاني من ضنك الحياة ومن غياب الرعاية الصحية، وانخفاض معدلات التنمية، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، في حكم أنظمة استبدادية في معظمها تعتمد سياسة تكميم الأفواه. هنا أصبحت الأسئلة كبيرة عجز معها المثقفون العرب بصورتهم النمطية عن القيام بأي مقاربات موضوعية. وهذا يعود بظني إلى سببين، أولهما أن الاحداث التي وقعت في عدد ليس قليل من الدول العربية قد أسقطت الفكرة المألوفة عن المثقف العربي ودوره في الوعي الجمعي للشعوب، والثاني أن عددا من المثقفين العرب قد وضعوا أنفسهم في مواجهة شعوب كانوا ذات يوم يتشدقون بالدفاع عنها وعن مصالحها وحقوقها، في حين جاء الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات هذه الشعوب ضد الاستبداد العربي، اختار بعض المثقفين أن يقفوا إلى جانب الطغاة العرب، فيما انحاز بعضهم للفكر العدمي التكفيري.
هذا الانقلاب من بعض المثقفين مرتبط بما هو شائع وتقليدي عن مفهوم المثقف، هذا المفهوم الذي يغيب عنه أنه إلى جانب المثقف العضوي والنقدي والتنويري، هناك مثقف متواطئ مع الأنظمة السياسية القائمة لأسباب متعددة، منها تحقيق المآرب الخاصة، أو خشية بعض المثقفين من صحوة الإسلام السياسي في المنطقة التي تجعلهم يرتدون إلى حضن الأنظمة.

سقوط المثقف

إن هذا النكوص لبعض المثقفين العرب يظهر عجزهم وفشلهم في دورهم المجتمعي، ويبين قدرا كبيرا من الأنانية والانتهازية السياسية لديهم. إنه سقوط المثقف العربي في قعر السلطة التي تحدد له هامشا لا يمكنه تجاوزه، وأصبح واحدا من الأدوات الخطيرة التي توظفها السلطة السياسية لتبرير استبدادها وقمع شعوبها، وإلا كيف نفسر هذا الانحياز من قبل المثقف إلى سياسة الموت والقتل والحروب وإشاعة التفرقة والكراهية، عوضا عن وقوفه إلى جانب النهضة والإصلاح والتحديث، ومساندة الحياة والسلام ونشر المحبة والتسامح.
وسقط المثقف العربي في شرك هويته -غير المتبلورة أصلا- بمواجهة الآخر، وكأن الثقافة الغربية كلها شر مستطير، فنرى بعض المثقفين العرب يتبنون نظرية المؤامرة على الأمة لتبرير دفاعهم عن الأنظمة التي تقهر شعوبها، وهنا أنا لا أنفي بالمطلق وجود مؤامرات غربية هدفها السيطرة وتمزيق وحدة شعوب المنطقة، لكنني أعترض على توظيف هذه الفكرة لتثبيت دعائم الأنظمة، ووضع الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بهذه النظم العربية المستبدة وإما أن تكونوا عبيدا للغرب.
إنه سقوط للمثقف العربي في أحد جوانبه بمفارقات مرعبة، إنه جاهز دوما لتوجيه رماح النقد لأي آخر لا يشاركه مفاهيمه، بينما لا يملك الشجاعة على النظر إلى فكره وسلوكه في أي مرآة. يستفيض بالحديث عن الديمقراطية أياما دون انقطاع، ويدعم حججه بالآلاف من الأمثلة والتجارب التاريخية لشعوب متعددة، لكنه لا يجرؤ على إجراء أي مقاربة للاستبداد والقهر الذي يعيش فيه ويعاني من بؤسه يوميا. يحدثك عن الفقر والجوع ونسب البطالة في كل العالم، وهو لا يجد لقمة العيش في وطنه ويشقى للحصول عليها. يطالب بالحريات العامة ويمارس العنف والاستبداد. يؤمن بالحوار نظريا، ويضيق صدره بالمخالفين. يريد من الآخرين أن يضحوا ويموتوا في سبيل الفكرة أو الزعيم أو الوطن ليصبحوا أبطالا، فيما هو يتلذذ بالرفاهية. يثقل رأسك بالحديث عن الوطنية والانتماء والصناعة الوطنية، وكل ما يرتديه هو ويأكله صناعة غربية. يخطب لساعات ضد الاستعمار الغربي وأطماعه وثقافته، ولا يثق إلا بالدواء الغربي.
سقط المثقف العربي -ليس الجميع- في هاوية الواقع الذي أنكره، سقط في قاع جموده العقائدي ودوغمائيته الضريرة، سقط في فخ اغترابه عن محيطه، مما أنتج إشكالية أخلاقية ترتبط بدوره ومهامه وموقعه.
إن من أبرز مظاهر سقوط العديد من المثقفين العرب هو تلك السلبية الشنيعة التي أبدوها تجاه قضايا الشعوب، حيث سقطوا في فخ التكيّف مع محيطهم، مثل نبتة صحراوية تتكيف مع ظروف المناخ القاسية، هي لا تقاوم الجفاف ولا يمكنها تغيير واقعها، هي فقط تتكيّف معه. هذا حال بعض المثقفين الذين يتلونون فيرمون ثوبا ليرتدوا ثوبا آخر، كلما تغيرت الظروف والبيئة المحيطة، بسبب عجزهم وإخفاقهم. هذا الوضع يجعل المثقف في حالة من الغيبوبة والموت السريري.

في اشتباك المثقف

المثقف الحقيقي ليس هو الخطيب البارع ولا المنظّر السياسي والفكري، إنما هو من يمثل الشرائح الشعبية والفئات الصامتة في المجتمع، لمقاومة قهر السلطة السياسية وتعسفها، هو صوت الناس في دفاعهم عن حقهم في الحياة والتعليم والعمل والرعاية الصحية، هو الإنسان الذي ينتصر للمثل الإنسانية ولقيم العدالة والحرية والمساواة الاجتماعية، هو من يسعى لتحرير الإنسان من كافة أنواع القيود والوصاية التي تفرضها عليه السلطة. المثقف هو ذاك الذي يكون ملتزما ومشتبكا مع واقعه ويمتلك المقدرة على رؤية وتحليل الإشكاليات المجتمعية، وتحديد خصائص وملامح هذا الواقع، والسعي مع الشرائح المتضررة لتغييره.
هو المثقف الملتحم مع قضايا أمته، المنخرط في الاشتباك بمواجهة القوى التي تستهدف ماضي وحاضر ومستقبل الأمة العربية، وتهدد هوية وفكر الإنسان العربي. نحتاج ذاك المثقف والكاتب والمفكر والفنان للتصدي لمخاطر هذه المرحلة التي يتم فيها تدمير أوطاننا، ويتعرض المواطن للقهر والتجهيل، وتفتك بنا الصراعات الطائفية والمذهبية، وتتضخم الأنا القطرية وينحسر الوعي الجمعي. أين هو المثقف الذي يعود ويلهب حماس الشعوب ويوقظ روحها من سبات الكبت والقمع؟ نحن في مرحلة سقطت فيها كافة الأسماء والألقاب، ولم تعد تعني شيئا ذا قيمة ومعنى حقيقيا في عصر الأسئلة الكبرى، والمواجهات الكبرى، والاختيارات الكبرى. إما أن يكون المثقف حقيقيا ملتصقا ثقافيا وفكريا واجتماعيا التصاقا فعليا، وإما أن يكون اسما ولقبا أجوف وشيئا براقا يلمع دون قيمة تذكر.
المثقف العضوي هو من تُمتحن أفكاره ليس فقط في جدلية الوعي، إنما في اضطرابات الحياة الواقعية، في معارك الوجود، في المشاركة جنبا إلى جنب مع حراك الناس العاديين في الشارع، وليس الكتابة عنهم في غرف مكيفة. الثقافة والعمل، الوعي والحركة، متلازمات لا انفصام بينهما ولا تضاد.
معظم المثقفين العرب يعانون من متلازمة الوعظ والسلوك الانتقائي، ويعتمدون منهاج توبيخ الذات وتقريع الواقع، دون أي ممارسة ثقافية، فكرية، اشتباكية واعتراكية لمجابهة هذا الكم غير المسبوق من المخاطر السياسية والاقتصادية والأمنية، والأهوال الثقافية والاجتماعية التي تتوعد وجودنا.
مهما كان نوع المثقف وإلى أي مذهب فلسفي ينتمي، وبغض النظر عن تصنيفه الطبقي، إن كان مثقفا غرامشيا قادما من رحم الشريحة الاجتماعية التي ينتمي لها ويسعى لأجل تطوير وعيها الاجتماعي وهيمنتها السياسية، أو كان مثقفا إدوارديا كونيا لامنتميا يمارس النقد والتنوير، فإن مسؤوليته الفكرية والأخلاقية هي الالتحام مع القضايا الوضعية والمطالب الشعبية، والانخراط بالإصلاح الاجتماعي، ونقد البنى الهشّة، وامتلاكه رؤية للتغيير.

التحدي المصيري

المقاربات الفلسفية النظرية التي تشكل واحدة من أدوات المثقف، إنما هي الحاضن للحراك الاجتماعي، لكن كل قيم العدالة والتحرر والمساواة لا يمكن إدراكها إلا في معترك الواقع المعيش، في ملامسة إشكاليات الشارع وتفهمها وتحليلها. إن المثقف الذي يؤمن بمطالب وحقوق الناس الاجتماعية والسياسية نظريا فقط طبقا للحتميات التاريخية ودون ممارسة فعلية، لا يكون بمقدوره القيام بالفعل النقدي الصائب للسياسي، ولن يكون نقده نقدا أخلاقيا تصحيحيا وهو بعيد عن دروب ودهاليز التجربة الميدانية، فمن دون الاشتباك لا يمكن أن ندرك ونفهم ونحلل وننقد أي تجارب اجتماعية تاريخية، وكذلك لا يمكن التحقق من أي أفكار مهما كانت سامية وجذابة دون خضوعها للامتحان الحقيقي في الواقع.
ومن المفارقات المضحكة المبكية في المثقف العربي، أن شهدت البلدان المتقدمة كما المتخلفة نماذج إما عكست الانحياز العضوي التام من المثقف إلى جانب الجمهور، حتى أولئك المثقفين النقديين اللامنتمين إلى شرائح اجتماعية محددة وقفوا مع كافة القيم الأخلاقية والإنسانية، ودافعوا عن حقوق البشر الأساسية وحرياتهم العامة، أو أبانت تحالف بعض المثقفين الغربيين مع السلطة، تحالف أفضى إلى بناء الدولة الغربية الحديثة بشكلها الحالي، وهو ما أدى إلى انتهاء دور المثقف العضوي في الغرب، أو أصبح دوره هامشيا، بسبب التطور الهائل التقني في مختلف القطاعات.
 بيد أن المثقفين العرب مازالوا يرزحون تحت أعباء تخلف الواقع التي تتراكم، ومازالوا يعانون من عجزهم عن إجراء مقاربات لأسئلة النهضة والإصلاح من جهة، وتوحش الآخر الغربي من جهة أخرى. فلا هم استطاعوا الوقوف التام مع شعوبهم، حتى أولئك الذين زعموا في يوم من الأيام أنهم مثقفو الجماهير، رفضهم الشعب ولم يقبل وصايتهم، ولا هم تمكنوا من ابتداع اختراق للعلاقة مع السلطة لمصلحة قيم المواطنة وبناء دولة المؤسسات.
أزمتنا يسببها المثقف العربي -بمعظمهم- الذي يؤمن أن دوره هو تقبيل أقدام السلاطين، وتمجيد الحاكم. كارثتنا في الثنائيات المتضادة، مع هؤلاء الذين لا يرون خلاصا إلا بنقل الفكر والحداثة الغربية، وأولئك الذين يظنون أن الكرب والضائقة التي تعيشها الأمة لا سبب لها سوى الغرب وأطماعه ومؤامراته على المنطقة. هذه الثنائية وغيرها ما يضع الشعوب والمثقفين ومستقبل المنطقة في مأزق فكري أخلاقي حضاري، فإذا كان الغرب هو سبب جهلنا وتأخرنا، فكيف يكون هو ذاته منقذنا؟ إنه تحد مصيري يفرض إعادة تشكيل دور المثقف وتحديد وظيفته. إننا ببساطة نحتاج المثقف العضوي التنويري الذي يتمكن من إدارة الأزمات المستعرة في منطقتنا ويفككها بموضوعية وعقلانية، لا المثقف الانفعالي الذي ينتج الأزمات والحرائق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق