ما بعد الكولونيالية: البحث عن الزمن المفقود - عصام حمزة - مدارات ثقافية

احدث المواضيع

الأحد، 6 يناير 2019

ما بعد الكولونيالية: البحث عن الزمن المفقود - عصام حمزة



(الصراع بحثًا عن الذات) شعار لا يمكن تجاهله لدى كل الفاعلين الذين نراهم من حولنا. لذا، ولم تخلُ الأوساط الثقافة والأكاديمية العربية والإسلامية يومًا من الاشتباكات والمناوشات الفكرية والأيديولوجية في سبيل التأسيس لمشاريع مختلفة، كالهوية والتقدم والنهضة والديمقراطية وسواها
بعض هذه الاشتباكات لم تتجاوز زوبعات في فنجانٍ آسنٍ ماؤه، أو اختلافات سياسية باحثة عن المكاسب، لا تعبر عن برامج ومشاريع متباينة ذات رؤى مستقبلية واضحة. إلا أن بعض هذه الاشتباكات مثّل انعكاسًا فعليًا لأزمة مدوية قد تكون أبعد غورًا وأعمق مدى حول الاتجاهات المعرفية والسياسية والأيديولوجية التي يجب أن تنحوها «الأمة» أو «الدولة» أو «الجماعة السياسية العربية المعاصرة» باختلاف توجهاتها
الاشتباك بحثًا عن الكينونة
برز على السطح مؤخرًا من هذه المناوشات تلك الحالة التي أثارها النقد «ما بعد الكولونيالي» للمشاريع العربية والإسلامية التغيرية والحركية القائمة بالفعل. يمكننا أن نلاحظ مؤخرًا صعود أسماء مثل «وائل حلاق» و«جوزيف مسعد» و«طلال الأسد» كرموز معبرة عن هذا الاتجاه النقدي، بينما يبقى «إدوارد سعيد» – بطبيعة الحال – الحاضر الغائب في هذه السجالات باعتباره الأب الروحي والمؤسس لهذه المدرسة.
لم يسع هذه الحالة النقدية إلا أن تناوش أهم تيارين فاعلين على الساحة العربية والإسلامية السائلة والمحمومة – في خضم ربيع دموي وسوداوي – وهما «تيار الإسلام الحركي الديمقراطي» و«التيار الليبرالي»، باحثة لنفسها بطبيعة الحال عن موطئ قدم على الخريطة الفكرية والبحثية وربما حتى الأيديولوجية للزمن العربي الجديد.
لم يتجاوز النقد ما بعد الكولونيالي للتيار الإسلامي الديمقراطي العتبات الأكاديمية إلى الأوساط الثقافية النخبوية والشعبية الشابة إلا مؤخرا مع صدور كتاب وائل حلاق «الدولة المستحيلة»، الذي حاول فيه البرهنة على استحالة تحقيق طموح هذا التيار بإنشاء دولة إسلامية على هياكل ومبادئ الدولة المدنية الحديثة، وأن هذا السعي إنما يتعارض مع أخلاقية الرؤية الإسلامية للوجود والمجتمع الإنساني نفسه.
كان لتيار الإسلام الحركي أو الإسلام الديمقراطي إذًا مبرراته العميقة والجوهرية للتصدي لهذه المدرسة النقدية، وهنا تبرز أسماء بعض منظري هذا التيار أو المدافعين عنه مثل «أبو يعرب المرزوقي» و«محمد المختار الشنقيطي» الذين انبروا بشدة للدفاع عن رؤية هذا التيار الذي يخوض أهم معاركه التاريخية في ساحات متعددة وعلى جبهات مختلفة.
ثم لدينا هنا أيضًا تيار اليسار الليبرالي أو التيار الليبرالي عمومًا الذي يطرح نفسه كبديل أكثر جاذبية من الأنظمة القمعية ومن التيارات الدينية، وأكثر تقبلًا للنظام العالمي وقيمه من ديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وسواها، وهذا بالذات ما جعله عرضة للنقد كونه يمثل حالة استشراقية كاملة المواصفات على حد وصف «جوزيف مسعد» في إحدى المقابلات الصحفية منذ برهة.
لم يقتصر هجوم مسعد على هذا التيار على البعد الفكري، إنما هاجم أيضا بشدة المنظومة الأداتية التي يعمل من خلالها وهي منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني التي تمولها بكرم بالغ جهات غربية إمبريالية، واعتبر هذه المنظمات جزءًا مهمًا وأساسيًا من المشروع الكوني لهذه الجهات ليس فقط للسيطرة الاقتصادية والسياسية وإنما للسيطرة الثقافية والقيمية أيضا.
بطبيعة الحال لا يمكننا أن نقف على الأبعاد الكاملة لهذا النقد وندرك تأثيره وحدوده، وربما مستقبله، إلا باستقراء تاريخ نشأته ورموزه وفلسفاته واتجاهاته الداخلية المتقاطعة والمتباينة أحيانا، وكذلك النقد الموجه لهذه المدرسة قديما وحديثا.
ما بعد الكولونيالية: بين اللغة والدلالة المعرفية
يتكون مصطلح «ما بعد الكولونيالية» من شقين؛ الشق الأساسي وهو «الكولونيالية» مستجلب أو مستدخل من اللفظة الإنجليزية، وهو ما يعيبه البعض على مستخدمي هذه اللفظة بحجة أن مثل هذه الاصطلاحات تخدم تقعير المجالات المعرفية وعزلها عن العامة، بل ويذهب البعض إلى أن هذا الاستجلاب يمنع أو يعوق إنتاج المعرفة باللغة العربية وتتركنا رهنًا للحدود والأطر التي تفرضها اللغة الأصلية على هذه المفاهيم.
أمام هذه الاعتراضات كان الخيار إذا أن يتم ترجمة المصطلح فكان أن طرحت الترجمة الأشهر وهي لفظة «الاستعمار». على الرغم من أن استعمال لفظ الاستعمار شاع حتى أصبح أساسا في تداول المفهوم، إلا أن مدلوله الإيجابي على عكس انعكاسه الفعلي على حياة الشعوب المستعمرة التي عانت من الإذلال ونهب الثروات و القمع السياسي والثقافي. لذا طرح العديد من المفكرين ألفاظا بديلة كلفظة «استخراب» أو لفظة «استكبار» التي طرحها المفكر الإيراني الشهير «علي شريعتي»، إلا أن هذه الألفاظ لم تؤد المعنى المفهومي المطلوب الدال على عملية احتلال واستيطان منظمة ومنهجية، ففضل البعض أن يبقي على أصل الكلمة في لغتها للدلالة بشكل كامل وتاريخي عن المفهوم، مع التفلت من الإيحاء الإيجابي للفظة «الاستعمار».
هذا بالنسبة للشق الأساسي؛ أما بالنسبة للشق الآخر الـ «ما بعد» فيطرح إشكاليات أخرى ذات أبعاد مختلفة، إذ أن المابعد هنا تؤدي إلى ثلاث دلالات رئيسية :
ما بعد الكولونيالية باعتبارها مدلولا زمنيا للإشارة إلى وضع الدول والشعوب في مرحلة ما بعد الاستقلال
ما بعد الكولونيالية باعتبارها حاجزا مفهوميا يدل على قطيعة معرفية بين ما قبل الاحتلال وما بعده، ويتضمن هذا المدلول فهما لفترة الاحتلال والكولونيالية نفسها، لا قفزا إلى ما بعدها.
ما بعد الكولونيالية كحقل معرفي يدرس علاقات القوة والمعرفة والإخضاع الثقافي بين أي شعب مستعمر وشعب مستعمر على مر التاريخ.
يتضمن المصطلح الذي بين أيدينا هنا المدلول الثاني بالأساس، مع إمتداده إلى المدلول الثالث، أي أن هذه المدرسة النقدية بدأت بالتركيز على نقد الخطاب الكولونيالي الحديث المنتج والمتمركز في الغرب، ثم إمتد بعد ذلك بسبب الطفرة المعرفية والمنهجية التي أحدثها ليشمل أوضاعا أخرى مثل دراسات التابع وغيرها.
إرهاصات النشأة والطبيب الأول
ربما كان على الأشياء أن تتداعى تماما ليدرك الإنسان المستعمر أنه فقد نفسه تحت إثر عملية ممنهجة غيرت تكوينه وغيرت عالمه بغير رجعة، لم يكن ليكشف هذه الحقيقة وينزع عنها غطاء الدعاية والخطاب الاستعماري إلا طبيب نفسي بارع رأى بنفسه الذات المستعمَرة وما تعانيه من تفكك وضياع تحت تأثير القمع والتهشيم الكولونيالي.
أطلق الدكتور «فرانز فانون» صرخته المدوية في وجه إخوته المستعمَرين منبها لهم أن احتلالهم لم يكن عسكريا فقط، إنما هو ثقافي ومعرفي أيضا، وأن هذا الاحتلال لن يزول إلا بالقوة والعنف والثورة كشعيرة تطهر واسترداد لهذه الذات المفككة في مواجهة المستوطن القوي. مثلت أعمال فرانز فانون الأبرز «معذبو الأرض» و«بشرة سوداء وأقنعة بيضاء» صيحة جديدة وغير مألوفة تماما لكل من المستعمَرين والمستعمِرين، فكما يقول «سارتر» في تقديمه لكتاب «معذبو الأرض» فالجيل الجديد القادم من أبناء السكان الأصليين للمستعمرات قرر أن يتجاهلنا، لم يعد الجيل الجديد يبالي بأوروبا، لم يعد مهتما بمخاطبتها أو استجداء رضاها، لقد قرر أنها لا تستحق إلا أن تحارَب وتخاطب باللغة الوحيدة التي تفهمها وهي العنف.
لا يحلل «فرانز فانون» فقط الأوضاع الاستعمارية القائمة على العنف والقمع، إنما يصف أيضا أوضاع الطبقات البرجوازية المحلية وطبقات العمال والفلاحين، ودور كل منها في دعم الاستعمار أو مواجهته.
صاحَب هذا الصوت الثوري العنيف الذي استطاع الكشف عن الإمبريالية الثقافية، أصوات أدبية قررت التمرد على أدب المركز وإعادة سرد الرواية بأصوات محلية كعمل «تشينوا أوتشيبي» الشهير «الأشياء تتداعى»، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح حيث أعادا سرد رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد بصوت أصلي قوي وخال من الشوائب الاستعمارية.
عموما لم تخل فترة الخمسينات والستينات التي شهدت حركات تحررية في جميع أنحاء المعمورة، من كتابات أدبية وفكرية تدين هذا المستعمِر وتكشف وجهه القبيح، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كتاب «صورة المستعمر» للكاتب ألبير ميمي التونسي عام 1957م، وكتاب «متع المنفى» للكاتب الكاريبي جورج لامينغ عام 1960م، والذي يكشف فيه عن البعد الكولونيالي في مسرحية «العاصفة» لويليام شكسبير
الآباء المؤسسون والدرس الفلسفي
يتفق أغلب الباحثين على أن المؤسس المنهجي الحقيقي للمدرسة ما بعد الكولونيالية هو المفكر الفلسطيني «إدوارد سعيد» بكتابه الركن «الاستشراق» الذي كتبه في العام 1978مكان سعيد أستاذا للغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا ومن أكبر المنافحين والمدافعين عن القضية الفلسطينية في الغرب.
يحاجج سعيد في كتابه بأن الخطاب الاستشراقي لا يمثل بالأساس محاولة غربية لفهم الشرق أو إنتاج معرفة حقيقة حول الشرق أو البلاد المستعمرة، إنما كان خطابا وظيفيا أدى مهمتين أساسيتين بشكل رئيسي:
المهمة الأولى : هي وضع الشرق في مقابل الغرب بوصفه المقابل والنظير الذي يمثل كل ما لا يمثله الغرب ويكرهه، أي أنه يعيد تعريف نفسه وقيمه بإعادة تعريف الشرق باعتباره نقيضا لكل ذلك، على سبيل المثال -الغرب ديمقراطي والشرق استبدادي، الغرب متحضر والغرب متخلف-
المهمة الثانية التي يؤديها الخطاب الاستعماري: هي الوصف والتحليل وإصدار التقارير والمعرفة باعتباره المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق، أي أنه مثل بالأساس أداة معرفية للسيطرة على الشرق.
لم يكن سعيد – برغم دوره الجوهري- المفكر الوحيد الذي أبدى بصيرة نقدية ثاقبة تجاه الخطاب الكولونيالي. فالمفكر الهندي والأستاذ الجامعي «هومي بابا» رغم اتفاقه مع سعيد في استغلال الغرب لسلطة الخطاب لفرض سيطرته على الشرق، إلا انه خالفه في طبيعة العلاقة بين المستعمر والمستعمر فكان أن أنشأ مفهوم «الهجين».
يرى هومي بابا باختصار أن الاشتباك بين المستعمر والمستعمر لم يخل من تلاقح أي أن المتسعمِر تأثر به كما تأثر به المستعمر, بل إن الإستعمار بوصفه تجربة جوهرية وقلقة قد خلقت ذاتا جديدة للمستعمر تعتمد في جانب كبير منها على خطابه تجاه المستمعَر وعلاقته به
المفهوم الركن الثالث الذي قامت عليه الدراسات ما بعد الكولونيالية أضافته «غياتري سبيفاك». اشتهرت سبيفاك بمقالتها الشهيرة «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟» الذي حاولت فيه إعادة تعريف مصطلح التابع بعيدا عن استخدام غراميشي له. فما هي الطبقات والفئات التي تنطبق عليها هذه الصفة. حاولت سبيفاك من خلال مثال المرأة الهندوسية تعريف التابع باعتباره مقابلا للنخبة، وجادلت بأن النخبة – وإن كانت محلية غير استعمارية فهي- تصادر على حق التابع في الحديث والتعبير عن نفسه.
فتح هذا البحث بابا جديد في حقل الدراسات ما بعد الكولونيالية سمي بحقل دراسات التابع، يحاول الإجابة على الأسئلة الشائكة في هذا السياق: من هو التابع؟ ما دور الاستعمار في إنتاج هذا التابع؟ هل يستطيع هذا التابع أن يتحدث بصوت نقي خالي من الشوائب النخبوية اي يتحدث بصوته فقط؟ وما هي مضامين هذا الخطاب التابعي؟
قامت مدرسة الدراسات ما بعد الكولونيالية بشكل رئيسي على فلسفات ما بعد الحداثة، وما أنتجته من قدرة على تحليل النص وتفكيكه وقراءته. شكل مفهوم فوكو عن علاقة الخطاب بديناميات القوة الحجر الأساس في القراءة السعيدية لخطاب الاستشراق. يوضح فوكو في درسه هذا بأن إنتاج الخطاب في أي مجال معرفي إنساني وأي زمن مرتبط بشكل القوة السياسية فهي التي تخلقه وتوظفه وتستخدمه لبسط سيطرتها ونفوذها.
بالطبع لم تغب تفكيكية دريدا وبحثها الدائم عن اللبنة الاساسية للخطاب والنص لدحضها وبيان زيفها عن الدراسات ما بعد الكولونيالية، باعتبار هذه التفكيكية وسيلة فعالة في دحض وكشف المعنى الزائف خلف الخطاب الإستعماري
وبالطبع لم تغب الماركسية باعتبارها دعوة ثورية وديالكتيك بشري عن هذا الحقل المستحدث، وبالطبع أيضًا لا يمكننا إغفال الوصمة الغراميشية ومفاهيم التابع والمثقف العضوي وسواها
نقد -النقد ما بعد الكولونيالي-
كما عجزنا بطبيعة الحال عن الإحاطة بكل الاتجاهات والأطوار لهذه المدرسة النقدية فنحن هنا أمام مهمة أصعب؛ إذ أن نقد هذه المدرسة جاء في سياقات مختلفة ومتباينة، وعلى مستويات مختلفة كذلك من حيث الأفكار الجوهرية أو المضمون، بل إن بعض النقد متبادل بين الاتجاهات المختلفة لهذه المدرسة ذاتها.
يستمد كثير من نقد هذه المدرسة قوته من نقد المناهج المابعد حداثية التي بنى نفسه عليها، أي أن كثيرا من النقد الموجه لما بعد الكولونيالية هو نقد موجه بالأساس لفوكو ودريدا وسواهما.
في سياقنا العربي يوجه لها نقد بأنها منفصلة بشكل كامل عن هموم الواقع السياسي والفكري، وأن أبرز رموزها ينتقدون من على منصاتهم الجامعية في الغرب تحت ظل أنظمة ديمقراطية وليبرالية، سعي الحراك المحلي للوصول إلى هذه الديمقراطية وهذه الليبرالية.
بل امتد النقد إلى سياق الفلسفة الأخلاقية ومنظرها الأبرز «طه عبد الرحمن» باعتبارها فلسفة لا تقدم حلولا عملية أو مداخل حركية قابلة للتطبيق. أي أن ما بعد الكولونيالية تخلق مأزقا أخلاقيا لا تقدر على حله ولا تسمح لأحد بتجاوزه.
في سياق مختلف، يمكننا إلقاء قليل من الضوء أيضا على نقد «حنة أرندت» لمفهوم العنف عند فرانز فانون باعتباره محاولة لخلق السياسة أو الذات السياسية، بينما ترى هي أن العنف لا يجب أن يكون مبررا إلا في سياق انسداد الأفق السياسي باعتباره المجال الوحيد للفعل الإنساني في المجال العام.
يمكننا أيضا أن نعرج أخيرا وسريعا، على الانزعاج الذي أبداه «سلافوي جيجك» من النزعة الرجعية في كتابات هذه المدرسة، أي رغبتها في العودة بالذات إلى ما قبل الكولونيالية، بينما يطرح هو مفهوم «الهويةالذي يحاجج فيه بأن الذات ما بعد الكولونيالية تمثل أفقا كاملا من الحرية والقدرة على خلق وتحديد الهوية والقيم التي يمكنها التعايش في العصر الحديث.





عصام حمزة
مهندس وكاتب مهتم بالفكر والفلسفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق