أشار
العديد من الباحثين الذين تناولوا موضوع " السيرة الذاتية " الى أن جان
جاك روسو هو أول من كتب سيرته الذاتية تحت عنوان " اعترافات " وهذا وهم
ناجم عن عدم الإطلاع على تطور هذا الفن عبر تأريخ الفكر اليوناني والروماني
والنهضة الفكرية في أوروبا .
يمكن
اعتبار يوميات الأمبراطور الروماني السادس عشر ماركوس اوريليوس التي كتبها في
السبعينات من القرن الثاني الميلادي تحت عنوان " الى نفسي" أو "
بيني وبين نفسي " أول محاولة لكتابة السيرة الذاتية وهي تأملات تركز في
المقام الأول على عالمه الروحي .
ولعل
واحدة من اشهر السير الذاتية في العصور القديمة المتأخرة ( حوالي عام 400 ميلادي)
هي التي كتبها الفيلسوف والكاتب والمفكر الأسقف أوريليوس أوغسطين ( 354-430) تحت
عنوان " اعتراف ". وتحدث فيه بالتفصيل عن طفولته وشبابه وعائلته ومدرسته
وهواياته . وهي من أوائل كتب السيرة الذاتية .
مَثَلُ
اوغسطين في البحث عن الذات ، عبر سعيه الروحي لم يقدر له الانتشار في العصور
الوسطى بسبب التزمت الديني ، فحراس الفضيلة كانوا بالمرصاد لكل من يجرؤ على البوح
بدخيلة
نفسه على رؤوس الأشهاد ، فحتى الأعترافات الدينية كانت سرية ويحظر تدوينها .
وبعد
ستة قرون من نشر السيرة الذاتية لأوغسطين . كتب الفيلسوف والعالم اللاهوتي الفرنسي
بيتر ابيلار ( 1079-1142) ، مؤسس جامعة باريس ، والشعلة التي الهبت عقل اوروبا
اللاتينية في القرن الثاني عشر ، كتب سيرته الذاتية تحت عنوان " تأريخ
بؤسي" . واذا كان اوغسطين تحدث عن حياته الروحية واهتدائه الى الأيمان ، فأن
ابيلار تحدث صراحة وبالتفصيل عن حياته الخاصة ، وحبه لتلميذته ايلواز ، وعن المحن
التي حلت بالعاشقين التعيسين . قصة " حب ابيلار وايلواز" أصبحت واحدة من
أهم قصص الحب الحزينة في الثقافة العالمية . وخلافا لـقصة "حب تريستان
وايزولد " الأسطورية ، وقصة " روميو وجولييت "، فان ابيلارد
وايلواز كانا شخصين حقيقيين . وظلت قصتهما في ذاكرة الأجيال المتعاقبة بفضل السيرة
الذاتية لأبيلار .
الإتجاهات
الفلسفية لعصر النهضة الأوروبية وضعت الإنسان في قلب العالم ، ورفضت فكرة الخطيئة
وعدم أهمية الفرد ، واخذت في تمجيد الأنسان وعقله وجماله وقوته وابداعه العلمي
والفني ، وليس من قبيل المصادفة ان " فن البورتريه " قد ظهر في هذا
العصر تحديدا ، كما شهد الشعر الغنائي تطوراً لم يسبق له مثيل ، حيث سعى الناس
حثيثاً في هذا العصر الى التعبير العميق عن دواخلهم الدفينة علانية ، بكل ما فيها
من طيبة أو خبث ، وكأنهم يتطهرون من عبئها .
ومن
الملفت للنظر ان الشاعر الإيطالي فرانشيسكو بترارك ( 1304- 1374 ) الذي يعد احد
الآباء البارزين للنهضة الأوروبية ، ساهم أيضا في تطوير فن السيرة الذاتية . كتب
بترارك سيرته الذاتية في كتابين هما " سري الخاص " ، " مشاهير
الرجال " يتضمن الكتاب الأول ما سماه بترارك " رسائل الى الأحفاد "
تحدث فيه عن الأحداث المؤثرة في حياته . اما الكتاب الثاني فهو على شكل حوار بين
الشاعر والقديس أغسطينوس ( 354-430) . السيرة الذاتية لبترارك تتناول حياته
الروحية ، ووصف تطوره الأخلاقي ، وصراعه الداخلي مع نفسه .
وابتداءا
من هذا العصر ، عصر النهضة اصبحت الشخصية الإنسانية وعالمها الداخلي ذات أهمية
كبيرة .
تعد
السيرة الذاتية التي كتبها الصائغ والنحات الإيطالي الشهير بنفينوتو تشيليني من
أبدع اعمال السيرة الذاتية ، والتي تروي الكثير عن عصر النهضة الادبية والفنية في
إيطاليا - أو عصر الانبعاث . كتب تشيليني رائعته في شيخوخته والتي تتضمن الوصف الدقيق
لحياته العاصفة كلها تقريبا . وبلغة ناصعة ، واسلوب شائق ومشرق : عن مغامراته
العاطفية ، والسنوات التي قضاها في خدمة البابا والملك الفرنسي ودوق فلورنس ، وعن
مآثره العسكرية وهواياته ، وعن فترة سجنه في قلعة " الملاك المقدس "
ورحلاته ، وبطبيعة الحال عن عمله الإبداعي .
لم
يلتزم تشيليني بحقيقة الأحداث أحيانا ، فقد لجأ الى التباهي والمبالغة . بيد أن
هذا لم يقلل من قيمة الكتاب ، بل على النقيض من ذلك أسهم في رواجه وذيوعه . كتب
تشيليني سيرته باللغة الإيطالية ، وليس باللغة اللاتينية ، كما فعل الفلاسفة
والقساوسة الإيطاليون من قبل ، وذلك لإتاحة الفرصة للجمهور العام لقراءة سيرته
بلغة سلسة واضحة . نشر الكتاب في عام 1728 ، واكتسب على الفور شعبية واسعة ، وترجم
الى أهم اللغات الأوروبية . ولعل الأهمية البالغة للكتاب ، هي التي دفعت بشاعر
المانيا العظيم يوهان غوته الى ترجمته الى الألمانية بنفسه .
أسهمت
السيرة الذاتية لتشيليني وشخصيته المتفردة ، وعمق تصويره لمغامراته ، واسلوبه
المشرق ، في تطور فن السيرة الذاتية .
أما
السيرة الذاتية الفلسفية ، فان الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين
(1533-1592) يعد الرائد الأول لهذا النوع من السير . ومونتين واحد من أكثر الكتّاب
والفلاسفة المؤثرين في عصر النهضة . كتب مونتين سيرته الذاتية في سبعينات القرن
السادس عشر - خلال العزلة التي فرضها على نفسه - واطلق عليها " تجارب "
، ونشرت لأول مرة في عام 1580 . وتحولت " تجارب " الى واحدة من اكثر
الكتب مقروئية في ذلك العصر .
تكمن
أهمية " تجارب " مونتين ، ليس في حديثه عن نفسه وعن مصيره المتشابك مع
احداث عصره ، بل حقيقة أنه بخلاف من سبقوه في كتابة سيرهم الذاتية ، أكد ، وأمعن
في التأكيد ، على أنه فرد عادي . وكتب يقول : " اعرض حياتي أمام الأنظار وهي
حياة عادية ليس فيها أي تميز أو تألق " . وعلى هذا النحو ظهرت لأول مرة في
الثقافة العالمية الفكرة التي صاغها وهي " ان كل شخص لديه كل ما هو مميز
للجنس البشري بأسره ". وافترض ان سيرته كانسان عادي يمكن ان تكون ممتعة
للقراء .
كل
السير الذاتية التي ظهرت في القرون اللاحقة يمكن تقسيمها الى نوعين :
النوع
الأول يقتدي بسيرة تشيليني الذاتية ، ويؤكد اصالة وتفرد اصحابها . والنوع الثاني
يسير على هدى مونتين الى هذا الحد أو ذاك . وكان بعضهم صادقا في تواضعه و البعض
الآخر تظاهر بذلك. وكانوا على ثقة بأن الحياة العادية تجذب انتباه القراء العاديين
.
اعترافات " جان جاك روسو "
كانت
السيرة الذاتية للكاتب والمفكر والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو ( 1712-
1778) مرحلة مهمة في تطور فن السيرة الذاتية ، و مصدرا للتقليد من قبل الآخرين .
روسو مؤسس مدرسة ال( سنتمنتاليزم ) أو التيار العاطفي في الأدب . لعب دورا مهما في
تطور الفلسفة والأدب العالمي . وكان من دعاة تقديس الطبيعة والبساطة ، وتمجيد
الاحساس بدلا من العقل ، ومثالية الحياة البسيطة في احضان الطبيعة . وهذه كلها
امور ولدت الأهتمام بالحياة الداخلية للأنسان . معظم اعمال روسو مكرسة لدراسة
مشاعر الأنسان . وكان من الطبيعي أن تقوده النظرة المعمقة الى الطبيعة الأنسانية
الى وصف حياته الخاصة .
بين
عامي 1766 ، 1769 كتب روسو اعترافاته ، وقام بتعرية قلبه وكشف دخيلة نفسه في بعض
المقاطع .لم تكن السير الذاتية حتى ذلك الوقت تتميز بمثل هذه الصراحة المدمرة ،
وربما حتى يومنا هذا . فهو لم يحاول قط اخفاء نزواته وحماقاته واخطائه ، بل تفاخر
بها .وفي الوقت ذاته فان هذه ( الاعترافات ) – قصة شعرية عن الانسان وعلاقته
بالآخرين ، وبالمجتمع والطبيعة . وليس من قبيل المصادفة ان يكرس روسو العديد من
الصفحات في للتغني بالطبيعة ، وسرد مغامراته العاطفية الحميمية ، التي تتناوب مع
الافكار والصور المثالية . ولم يتوانى من اتخاذ اعترافاته فرصة لمهاجمة أعدائه
الحقيقيين والمتخيلين .
كان
صدق الاعتراف وحدة الجدال ، قويان الى درجة ان الكتاب لم ينشر خلال حياة المؤلف بل
بعد وفاته ، حيث نشر في الفترة بين عامي 1782 ، 1789 ، في حين ان روسو نفسه اعتبر
اعترافاته غير كافية فكتب في السنوات الاخيرة من حياته عدة حوارات منها "
روسو يحاكم جان جاك " ( 1775-1776) و" نزهات حالم وحيد ( 1777- 1778) .
تكتسب
" اعترافات " روسو أهمية بالغة لانها الهمت الرجال الآخرين الرغبة في
كتابة سيرهم الذاتية على غرارها . ولكن روسو كتب يقول : " أنا أفعل شيئأ لم
يفعله شخص قبلي ولن يقدر شخص بعدي على تقليده "
لقد
حاول روسو ان يكون صادقا ، ولكنه بالغ في التذلل ، حين وصف نفسه - وهو يتحدث عن
حياته في مقتبل العمر - بالريفي الصغير البليد . وعندما نقارن اعترافاته
بسلسلة رسائله الشخصية التي كتبها في تلك الفترة ، نجد أن رسائله تنم عن ذكاء ثاقب
، وعن مستوى عال من عزة النفس ، مما يخلق انطباعا بأنه كتب بعض اعترافاته في اطار
استعراضي .
يوهان
غوته :" الشعر والحقيقة "
لعبت
السيرة الذاتية للشاعر الالماني يوهان غوته ( 1749-1832) المعنونة " الشعر
والحقيقة في حياتي " التي كتبها بين عامي 1811 ، 1833 دورا لا تقل أهمية عن (
اعترافات ) روسو في تطوير فن السيرة الذاتية . تحدث غوتة في مذكراته عن سنوات
شبابه وبداية رحلته الابداعية المرتبطة بالتيار الادبي المسمى " العاصفة
والهجوم ". وقد أصبحت عبارة " الشعر والحقيقة " شائعة ، وهي غالبا
ما تستخدم لوصف تناسب الخيال والواقع
في
الأعمال الأدبية . وكان غوته صادقا ،عندما اطلق هذا الاسم على سيرته الذاتية
"
، لأن حياتنا خليط من الشعر والحقيقة ، وهي
أثمن ما لدينا ، واحداث حياتنا مهما كانت بسيطة وعادية مهمة بالنسبة الينا،
بل اكثر أهمية من أي شيء آخر في العالم ، وهي التي تلهمنا المشاعرالجميلة للحظات
نادرة من الكمال ، وعندما لا توجد في الحياة مثل هذه اللحظات ، فاننا نعمد الى
خلقها ، أي اننا شعراء بكل معنى الكلمة .
وكان
غوته يعتقد ان المهمة الاساسية للشاعر او الكاتب الذي يكتب سيرته الذاتية هي وصف
علاقته بزمنه ونظرته الى العالم والناس ، وكيف انعكس كل ذلك على نتاجاته ، حيث
يمتزج فيها الشعر والحقيقة .
في
القرنين التاسع عشر والعشرين ظهرت سير ذاتية كثيرة ، لأبرز الكتّاب والشعراء منها
« قصة حياتي » لجورج صاند ، و "البحث عن الزمن الضائع "لمارسيل
بروست ، و"صورة الفنان في شبابه " لجيمس جويس ، و" حصيلة حياتي
" لسومرست موم ، وكَتَبَ وينستون تشرتشل سيرتين ذاتيتين ، إضافة الى مذكراته
في ثلاثة مجلدات.
وثمة
في الأدب العربي العديد من كتب السيرة الذاتية لعل أهمها :
"الأيام" لطه حسين، و" أنا
" لعباس محمود للعقاد، و" حياتي" لأحمد أمين، و" تربية سلامة
موسى" لسلامة موسى، و" اوراق العمر " للويس عوض ، و" ماذا
علمتني الحياة " لجلال أمين" .
ليس
من الضروري ان يكون كاتب السيرة الذاتية شخصية عظيمة أو مؤثرة ، أو نجماً شهيراً
من نجوم المجتمع في السياسة أوالفن أوالأدب أو العلم. أو أن يكون قد التقى في
مسيرة حياته بعض الناس المشهورين ، فكل شخص في هذه الدنيا متميز ، ولديه ما يستحق
أن يروى .
اشكالية الحديث عن الذات :
لا
شك ان كل شخص يعرف عن أحداث حياته اكثر مما يعرفه أي شخص آخر . وقد يتبادر الى
الذهن ان أي واحد منا هو خير من يكتب عما يعتبره أكثر أحداث حياته أهمية ودلالة .
هكذا يبدو الأمر لأول وهلة ، ولكننا حين نشرع بالكتابة ، نكتشف ان ثمة العديد من
الصعوبات تعترض طريقنا ، لأننا سنعتمد على ذاكرتنا في استرجاع الماضي ، والذاكرة
أداة خادعة تخزن بعض الأشياء، وتهمل أشياء أخرى جد كثيرة ، وان كانت مهمة في
حياتنا ، ثم أن الذاكرة تصبح خاملة وكثيرة النسيان كلما تقدم بنا العمر ، والناس
يكتبون سيرهم الذاتية – في العادة – في سنين العمر المتأخرة .
وثمة
الرقابة الذاتية التي يمارسها العقل على كل ما يسيء الينا ، أو كان كريها أو غير
مستحب في حياتنا . اننا نتذكر ما نرغب في استعادتها ، ونودع في طيات النسيان كل ما
يؤلمنا أو نخجل من التصريح به .
مَنْ مِن الرجال يمتلك الشجاعة للحديث
الصريح عن حياته الجنسية ؟ ان ضرورات الاحتشام لا تسمح بذلك . ولا يوجد انسان عاقل
وسوي قادر على التصريح بكل شيء عن دخيلة نفسه وعن اسراره الحميمية .
مَنْ
بوسع أي انسان الاعتراف بارتكاب عمل دنيء . وهل ثمة من لم يرتكب عملا دنيئا في يوم
ما ؟
كما
اننا لا نستطيع قول الحقيقة كلها عن حياة اولئك الذين شاركونا الأعمال التي نصفها
، خاصة اذا كانوا ما يزالون على قيد الحياة . واذا فعلنا ذلك ، نخسرهم الى الأبد ،
او ندخل معهم في منازعات نحن في غنى عنها .
الحديث
عن النفس امر غير مستساغ ، الا بكياسة ولباقة بعيدا عن الاعتداد بالنفس. كما ان
وصف المنجزات الشخصية ، وابراز الجوانب الايجابية للكاتب، قد يعدّ غرورا مستهجناً
، رغم أن ذلك ضروري لتقديم عرض متكامل لحياة صاحب السيرة الذاتية ، اذا كانت
الجوانب السلبية قد ذكرت .
لا يمكن لأي انسان أن يقول كل شيء عن نفسه ، بصدق وشفافية ونزاهة ، ويعترف
بالحقيقة كاملة ، مما يجعلنا نعتقد باستحالة كتابة سيرة ذاتية حقيقية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق