في 25 سبتمبر 1965 بدأت مجلة ( التيويوركر
) بنشر رواية الكاتب الأميركي ترومان كابوتي المعنونة " بدم بارد "
كحلقات متسلسلة من أربعة أجزاء . أثارت الرواية ضجة واسعة في الأوساط الأدبية ،
على نحو لم يسبق له مثيل خلال الستين عاما من عمر المجلة ، ثم قامت دار نشر كبرى
هي " راندوم هاوس " بنشرها في كتاب صدر في يناير 1966. وأصبح إسم المؤلف
يتردد على كل لسان .
كان
كابوتي قبل ذلك كاتباً معروفا في الأوساط الثقافية ، وأصدر العديد من الروايات،
والمجموعات القصصية ،والمسرحيات ، وأدب الرحلات. وحوّلت هوليوود بعض رواياته الى
أفلام سينمائية ناجحة ، لعل أشهرها " افطار في تيفاني " . ولكن رواية
" بدم بارد " هي التي أكسبت كابوتي شهرة مدوية في أميركا والعالم.
وقد بلغ
دخل كابوتي من نشر الكتاب وبيع حقوق تحويله الى فيلم سينمائي حوالي ستة ملايين
دولار ، وأصبح بين ليلة وضحاها نجماً لامعا في المجتمع المخملي النيويوركي .
لم تكن
" بدم بارد " مجرد تحقيقات صحفية مطولة مكتوبة بأسلوب أدبي ، أو رواية
وثائقية أو تسجيلية ، بالمعنى المتعارف عليه لدى النقاد . بل رواية غير خيالية
رائعة ،نسج الكاتب حبكتها من حوادث ووقائع حقيقية . ولكن الصياغة الفنية للرواية
بلغت درجة عالية من الكمال ، وسرعان ما ترجمت الى أهم اللغات العالمية ، وصدرت
منها – في بلدان العالم المختلفة - أكثر من مائة طبعة . وهي تعد اليوم واحدة
من افضل (100) رواية في تأريخ الأدب العالمي ، وما زالت تلقى رواجاً واسعاً في شتى
أنحاء العالم ، رغم مضي حوالي ستين عاما على نشرها لأول مرة .
البداية
في 16
نوفمبرعام 1959 قرأ كابوتي في صحيفة ( النيويورك تايمز ) خبراً عن جريمة قتل راح
ضحيتها مزارع ثري وعائلته في بلدة (هولكومب) الريفية النائية في الغرب الأوسط (
ولاية كانساس ) . قتلوا بأعيرة نارية في منزلهم من مسافة قريبة, بعد أن تم
تقييدهم وتلثيمهم. وقطع خطوط الهاتف عن المنزل . لا آثار للمقاومة ولا شيء سُرق.
كانت الجريمة وحشية وبلا معنى . وأبدى القتلة برودة وقسوة غير متوقعين في الجريمة
التي اقترفاها ، ولم يتركا اية أدلة ورائهما ، سوى آثار أقدام تعود لأكثر من شخص
واحد .
هذه
الجريمة الغامضة أثارت اهتمام كابوتي . وفي البداية أراد أن يكتب عنها تحقيقا
صحفيا ، رغم أن المحققين لم يكونوا قد توصلوا بعد الى معرفة هوية القتلة ، ولم يكن
احد واثقا من ان الشرطة ستعثر عليهم . سافر كابوتي الى بلدة هولكومب برفقة صديقة
طفولته وزميلته الكاتبة هاربر لي ، التي ساعدته في تجاوز الطوق الأمني الذي ضربته
الشرطة حول مسرح الجريمة ، وفي محاورة الجيران والأصدقاء والمعارف والمقيمين
الآخرين والمحقق المكلف بالقضية ( آلفين ديوي ) . .
لم يكن
كابوتي يدون أو يسجل أقوالهم ، لأن ذلك – كما قال– كان سيؤدي الى الأحجام عن
الحديث بصراحة ، ولأنه يمتلك ذاكرة قوية وليس بحاجة الى تدوين اقوال من يقابلهم أو
تسجيلها ، وبوسعه أن يتذكر حوالي 95% مما يسمعه من كلام .
وقال (
آلفين ديوي ) انه لم يشاهد من قبل جريمة من دون دوافع أو بمثل هذه الوحشية. وصمم
على البحث والعثور على القتلة ، وكان لمبادرته بالأعلان عن تقديم مبلغ الف
دولار لمن يدلي بأي معلومة عن الحادث ، الأثر البالغ في الكشف عن اول خيط للجريمة
، والقاء القبض على القاتلين بيري سمث ( 31 ) سنة و ديك هيكّوك (28 سنة ) في لاس
فيجاس ، في الثلاثين من ديسمبرعام 1959. وقد تبين بأنهما من أصحاب السوابق ، وقد
خرجا من السجن قبيل ارتكاب الجريمة بعدة أيام . وقال أحد السجناء - الذي كان في
زنزانة واحدة مع هيكوك - أن الأخير حدثه بأنه سبق له العمل في مزرعة كلاوتر ، وهو
ثري ولا بد أنه يحتفظ بأمواله في خزانة المنزل ، الذي يقع في منطقة نائية ومعزولة
، وعندما يطلق سراحه ، سيقوم بالسطو على المنزل.
لم تكن
في منزل كلاوتر اية خزانة لحفظ الأموال ، فقد كان طوال حياته يتعامل بالشيكات
المصرفية، ولا يحتفظ بأي مبالغ نقدية . وبعد التفتيش الدقيق في كل أرجاء المنزل ،
لم يعثر القاتلان على اية أموال أو شيء ثمين.
تابع
كابوتي ميدانياً كل مراحل التحقيق والمحاكمة ، التي انتهت باصدار الحكم على القاتلين
بالأعدام شنقا ، ومن ثم عمليات استئناف الحكم وتمييزه ، التي استغرقت حوالي ست
سنوات ، قابل كابوتي خلالها المتهمين مرارا وتكرارا ، وحاورهما عن حياتهما
والأسباب التي دفعتهما لأرتكاب الجريمة . كان ريتشارد هيكوك قاسياً ومملاً ، على
خلاف بيري سمث ، الذي كان يكتب الشعر ويرسم ويقرأ كتب علم النفس والروايات . وكان
نادما على ما اقترفت يداه .
شعر
كابوتي بنوع من الشفقة على بيري لتعاسة طفولته وسنوات تشرده ، التي جعلته مجرما .
وهذا ما دفع كابوتي لتوكيل محام للدفاع عنه ، وزيارته في السجن بأنتظام وتقديم
الهدايا المحببة اليه ، حتى أن بيري لم يتمالك نفسه ذات مرة من شدة التأثر ،فأجهش
في البكاء . وقبيل تنفيذ حكم الأعدام أرسل بيري الى كابوتي رسالة تتضمن ما جاء في
موسوعة طبية من وصف تفصيلي لما يحدث للأنسان خلال عملية الأعدام شنقاً. وطلب من
كابوتي الحضور أثناء تنفيذ الحكم الصادر بحقه .وقد استجاب كابوتي لهذا الطلب .
وقال في ما بعد : " كانت تجربة رهيبة ، ولن أنساها قط ". ولم يسدل
الستار على هذه الجريمة الا بعد شنق المتهمين في 16 نيسان عام 1965. ودفنهما
في فناء السجن بمدينة لانسنغ ( ولاية كانساس ).وقد اعتنى كابوتي بقبري بيري وديك ،
وصنع لهما ضريحين من الغرانيت الغالي على حسابه الخاص بكلفة سبعين ألف دولار .
حياة
مدينة
قضى
كابوتي 6 سنوات في متابعة كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالقضية . ودرس بالتفصيل سيرة
حياة افراد عائلة كلاوتر ، نظام حياتهم اليومية ، عاداتهم وميولهم . وسيرة حياة
القاتلين ، والخلفيات الأجتماعية والسيكولوجية التي دفعتهما الى ارتكاب
الجريمة..وبلغ ما دونه من ملاحظات حوالي 8000 صفحة، تم تنقيحها و اختصارها قبل
اعادة صياغتها فنياً .
"
بدم بارد " ليست رواية بوليسية بأي حال من الأحوال . وكما قال كابوتي فأنه لم
يدون قصة جريمة ، بل قصة مدينة . ويرى الكاتب الفرنسي غوستاف لوكليزيو في مقال له
نشر في تشرين الاول 1966 بمجلة (ليتيرار) تحت عنوان " ترومان كابوتي .. ثورة
الوعي " ان كابوتي تخلص من الذاتية التي غرق فيها الغرب طوال قرن كامل ،
والتفت الى المجتمع والواقع المعاش والآخرين ، ولم يكتب عن شخص غريب يشبهه."
وملاحظة لوكليزيو في محلها تماماً ، ذلك لأن الراوي في " بدم بارد "
أزال نفسه من الرواية تماماً .
كابوتي
يرسم بمهارة صورعشرات الشخوص من المحققين والصحفيين و المزارعين والطلبة والناشطين
الأجتماعيين وسعاة البريد . لكل من هؤلاء سيرته الحياتية التي يقدمها المؤلف
في وقتها المحدد ، جرعة بعد جرعة وكل فقرة تتضمن الحد الأقصى من المعلومات ،
التي تكفي لمعرفة الشخص ورسم صورته في الخيال . لا يوجد نظير لهذه الرواية في
الأدب الأميركي ، من حيث التفصيلات الدقيقة اللماحة وعمق دراسة المادة . ويعتبر
النقاد اسلوب كابوتي الرشيق مثالاً للمهارة في صياغة الجملة .
الجزء
الأول من الرواية مكرس لسرد تفاصيل اليوم الأخير من حياة هربرت كلاوتر،وزوجته بوني
وطفليهما نانسي وكينيون . كلاوتر رب اسرة نموذجي ، لا يشرب الكحول ولا يدخن
السكائر ، ويحظى بإحترام الجيران وسكان البلدة
والمناطق المجاورة. وابنته ( نانسي ) محبوبة من الجميع، وابنه ( كانيون ) ذكي
ومتفوق في دراسته ، الشيء الوحيد الذي كان يثير بعض القلق لكلاوتر هو أن زوجته
(بوني) كانت تصاب احيانا بنوبات من الأكتئاب ، وتتعذب حين تشعر بالذنب او أنها غير
ضرورية لأحد ، ولكن تبين ان مشكلتها تكمن في العمود الفقري، وقد تعافت تماما بعد
أجراء عملية جراحية لها .عائلة طيبة تتسم بالنقاء والأستقلمة والأنسجام .
التوتر
يتصاعد شيئا فشيئا وبعناية . الوتر مشدود الى الحد الأقصى عبر تعاقب الفصول: ها
هما القاتلان ، وهاهم أفراد العائلة اللطيفة . وها هي نانسي تخبز الكعكة ، وهذا هو
كلاوتر يوقع على بوليصة التأمين في يوم مصرعه – تفصيلة كانت كافية لتدمير أية
رواية أخرى ، لأن مثل هذه المصادفة لن يصدقها القاري ، ويعتبرها مفبركة ورخيصة .
كابوتي وحده من لا يخشى ذكر هذه المصادفة ، لأنه يقدم لنا نبض الحياة ، ويصور ما
يعجز عنه الخيال أو ما يتهيب منه روائيون آخرون .
يبدأ
الجزء الثاني من الرواية في صباح يوم 15 نوفمبر، عندما اكتشف الجيران جثث القتلى :
خطوط الهاتف مقطوعة ، ومحفظة نانسي مفتوحة على بطانتها ومرمية على الأرض .القاتلان
هاربان ، والناس في البلدة يشك احدهم في الآخر .لا بد من وضع حد لهذا . بيري في
رعب ، ويخيل اليه انهما - هو وشريكه في الجريمة - لم يأخذا في الأعتبار شيئا ما
.اما ديك فأنه وحده هاديء تماما .
في
الجزء الثالث – عندما يتساءل القاريء. وما ذا بعد ؟ وكيف يتم القاء القبض
على القاتلين ؟، وما الذي حدث في المزرعة فعلا ؟ . كابوتي يكشف اخيرا لغز الجريمة
. لقد ظن القاتلان ان كلاوتر غني فعلاً . ولكن لماذا لم يقاوم ؟ ولماذا لم يستطع
ابنه (كينيون ) ان يفعل شيئا ؟ لماذا تم ذبح كلاوتر ومن ثم اطلاق النارعليه ؟.
الجزء
الرابع – المحكمة – قفص الاعدام المنفرد ، وعملية الاعدام شنقا .لم يكن بوسع
كابوتي ان يبتدع شيئا اكثر رعبا من هذا . حتى الخاتمة مثالية : المحقق ديوي
يزور المقبرة - التي دفن فيها عائلة كلاوتر - قبيل شنق سميث و هيكوك.
وخلال
الرواية تتحول الكراهية الى الشفقة على القاتلين وخاصة تجاه بيري سميث ، ونتوصل
الى نتيجة مفادها أن العنف يولد العنف الذي لا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال.
كتبت
الرواية بطريقة تشدّ القاريء ، وتتجلى فيها مهارة الكاتب وصدقه الفني ورؤيته
للمجتمع الأميركي . ومنذ صدورها وحتى يومنا هذا تتوالى نشر طبعات جديدة منها بشتى
لغات العالم ، ودخلت الى المقرر الدراسي للتخصصات الجنائية والسيكولوجية في
الجامعات الغربية .
انتجت
هوليوود لحد الآن اربعة أفلام ، ثلاثة منها مستوحاة من رواية " بدم بارد
" ( 1967، 1996، ، 2006) والرابع في (2005 ) الذي حمل اسم " كابوتي
" وهو ليس فيلما عن سيرة حياته ، كما يتبادر الى الذهن ، بل قصة كتابة
الرواية خلال ست سنوات من العمل المضني والأجهاد العصبي ، وعن العلاقة بين المؤلف
والبطل . وقال كابوتي عن عمله الأشهر هذا : "لا يعلم احد ما الذي استفزني
وانا اكتب (بدم بارد)، لقد اتعبتني وكادت أن تقتلني واعتقد انها قتلتني فعلا "..
انغمس
كابوتي في السنوات الأخيرة من حياته في عالم بوهيمي ، وأدمن الكحول والمخدرات .
وكان العدو الأول لنفسه ولصحته ، التي أخذت تتدهور من سنة الى أخرى . صحيح أنه كان
يعالج في المصحات أحيانا ويعود الى عالمه الأبداعي لبضعة أشهر ، حيث انتج خلال
فترات وعيه عدة أعمال جديدة ، الا ان ذلك لم يكن يدوم طويلا ، واخيراً أصبح رجلاً
محطما.
ويذكر
الكاتب الروسي ادوارد ليمونوف أنه التقى كابوتي في عام 1979 ويضيف قائلاً : "
كان ضئيل الجسم ، ومرهقا ، أشبه بطائر بلا ريش سقط من العش ،وكله عروق وأوردة
وأوعية دموية . عمره بضعة أيام ولكنه يبدو عجوزا."
في
الأيام الأخيرة من حياته كان يخيّل اليه أن ثمة أشباحا تلاحقه في كل مكان في
نيويورك وقرر الأختباء في اوس انجلوس في منزل جوان كارسون حيث توفي في 25 أغسطس
عام 1984 ، ليتحول بعدها الى اسطورة دائمة الحضور في المشهد الثقافي العالمي، حيث
يعود الى الأضواء في كل مرة ينشر فيها شيء من نتاجاته ( رواية غير مكتملة ، قصص
قصيرة كتبها عندما كان صبيا في الثانية عشرة من عمره ، رسائله ، يومياته ) أو
مذكرات الآخرين عنه ، أوالكتب الجديدة عن سيرة حياته وأدبه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق